بعض البحوث الفلسفية

البحث الأول: حول استناد الجزاف إليه تعالى اعلم: أن هذه الآية تومئ وتشعر بأن الجزاف ليس مستندا إليه تعالى، وأن العالم بأجمعه - المتشكل من سلاسل العلل والمعاليل - كله مبني على الاستعدادات الخاصة والقوى والحركات الغريزية والطبيعية، وأنه تعالى لا يخص أحدا بخاصة وبإرادة مخصوصة، ولا قومية بينه تعالى وبين خلقه، وإن حصلت القومية فهي من اجتهاد الكملين المتكفلين لها المتوجهين إليه تعالى بأنحائه، وذلك لأنه تعالى كما فيما مر من قوله: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) يقول هنا أيضا: (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) فيستند الطغيان إليهم أولا وبالحقيقة، وإذا طغوا باختيار سوء الأمر فيتحركون نحو الشقاوة حسب استعدادهم المتحصل بسوء فعالهم ولا معنى لمده تعالى إلا بأنه تعالى فاقد الإرادة والقدرة في جميع أنحاء مملكته، وأن كل فعل وإن كان من فاعل مباشري معلول إرادته الذاتية القديمة، من غير أولويته تعالى في ذلك، لأن الجزء الأخير يحصل بإرادة العبد. فما هو إمداده الغيبي ليس إلا ترددهم مع شياطينهم، فإن هذا التردد والحركة لها الصورة المفاضة من الغيب، ولها العلة القريبة، وهي إرادة المنافق، فإذا أراد التردد المتقوى به فقد أمده الله تعالى في طغيانه، لأن تلك الصورة تحصل حسب العلل والمعاليل في مادتهم النفاقية. خذلهم الله تعالى في الدارين.

البحث الثاني: حول الحركة التضعيفية ومن البحوث المشار إليها فيها: أن هذه الشقاوة وفي مقابلها السعادة، تحصل على نعت التدريج والحركة، والخروج من النقص إلى الكمال المناسب بحاله، ويكون على نعت الحركة التضعيفية المتصورة في دار الوجود بالنسبة إلى الأشقياء والأسفلين، وذلك لقوله تعالى: (يمدهم في طغيانهم)، فإن في الفعل على نعت الاستقبال إفادة التدريج، وبذلك يومئ إلى أن هذه الحركة التدريجية قابلة للقطع بقطع الإمداد وما يمدون به، وهو التردد إلى الشياطين واختيار النفاق وسوء قولهم: (إنما نحن مستهزئون)، فإن كل هذه الأمور من الإمداد الإلهي الحاصل لهم بسوء اختيارهم، وإلا فلا إمداد آخر من الغيب، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

البحث الثالث: حول الاستهزاء العينية ومن تلك البحوث: أن في استناد الاستهزاء إليه تعالى إعلاما: بأن للاستهزاء مصاديق لفظية وفعلية وعينية: أما اللفظية والفعلية فهي واضحة، لسريانها بين أبنائنا بعضهم لبعض. وأما العينية منها حتى يصحح نسبة الاستهزاء إليه تعالى، فهو الاعوجاج الحاصل للعبد حين الحركة من الفطرة المخمورة والطينة الأولية الإلهية إلى الطينة الخبيثة المحجوبة الجحيمية، مثلا: إذا سأل عن دار صديق فهداه شخص إليها بإيصاله إلى وسط الطريق، ثم أعوج وانحرف إلى دار أخرى، فإنه يقال: قد استهزأ ولعب به. وهذا هو بعينه حال المنافق، فإنه بلسان ذاته يسأل عن الجنة التي هي دار المتقين، فيهديه ربه بحسب أصل الفطرة الإلهية إلى تلك الدار الباقية، ولكن في أثناء السبيل ينعاج عن الطريق وينحرف عن الصراط السوي، وينتهي المنافق إلى دار الأشرار والشياطين، فهل هذا غير الاستهزاء ؟! فاستهزاؤه تعالى من الأعيان الخارجية، ولأجل ذلك ربما كان يصح الاستناد إليه تعالى وإن كان مبدأ الانحراف - كما تقرر وتحرر - سوء الاختيار وخبث الأسرار الناشئ هو أيضا أحيانا من الفعال الباطلة أيضا.