وجوه البلاغة والمعاني

الوجه الأول: حول الاستئناف وعدم العطف في العدول عن العطف إلى الاستئناف بعدم الفصل بالحروف العاطفة، إشارة إلى أن استهزاءه تعالى بهم لا يتخلل بشئ ولا يتأخر، بل ذلك الاستهزاء قرين استهزائهم، وفي ذلك الزمان بعينه، ومن هذه الجهة اشتملت الجملة على نهاية الجزالة والفخامة. هذا، مع أن المقام لا يناسب العطف، ولا سيما عطف الجملة المشتملة على اسم الجلالة على غيرها، ولا سيما الكلام المشتمل على أحوال المنافقين.

الوجه الثاني: حول نسبة الاستهزاء بصيغة الاستقبال في العدول عن الإتيان بصيغة اسم الفاعل إلى الإتيان بصيغة المستقبل، مع أن الأنسب خلافه، لقوله تعالى: (إنما نحن مستهزئون) إشعار بأن الاستهزاء من الصفات الذاتية لهؤلاء الناس، ومن ملكاتهم الخبيثة وسجياتهم الفاسدة، بحيث صارت ذواتهم منشأ لذلك، وأما استهزاؤه تعالى فهو من صفات الفعل المتجلي في الرتبة المتأخرة، فلا يصح حمله عليه تعالى وانتزاعه منه. وبأن اليهود وأمثالهم يتمكنون من أن يتوهموا أن الله تعالى لم يستهزئ بهم بل يريد الاستهزاء في المستقبل، فلو أرادوا الرجوع إلى الإسلام فلا ينسد عليهم بابه وسبيله وطريقه. ومن هنا يظهر النكتة في قوله تعالى: (يمدهم)، فإنه ليس دليلا على وقوع الاستهزاء والإمداد والمدد، كما سيأتي توضيحه. وبأن المسلمين يظنون أن الاستهزاء من الناحية المقدسة متدرجة وباقية، ولا يزال ويمتد إلى أن ينسلكوا في الأسلاك الإنسانية والإسلامية. وهذا من عجيب الكلام، فإن كل واحد من الفريقين يتمكن من تأييد مقصوده بها على وجه لا يستلزم الخلل والنقاش في آماله وميوله.

الوجه الثالث: حول استناد الاستهزاء إليه تعالى في إسناد الاستهزاء إليه تعالى وجوه وآراء كلها تدور مدار المجاز والكناية والاستعارة على أقسامها وأنحائها المحتملة هنا، والمشهور أنها من باب المشاكلة التي هي من المحسنات المعنوية (1). والذي هو التحقيق: أن الاستهزاء على المعنى الذي عرفت منا - حسب اللغة والعرف - ليس من المعاني القبيحة الذاتية، فيكون لأجل العوارض والطوارئ الخارجية، قابلا للاتصاف بالحسن والصحة وأن يجوزه العقل، مثلا: إذا كان نجاة إنسان موقوفة على استهزاء إنسان، فلا شبهة في لزومه العقلي وجوازه الشرعي، كما يخرج - عندئذ - عن القبح العرفي، ولا يخرج - وقتئذ - عن عنوان الاستهزاء، وليس هذا مثل الظلم، فإنه يخرج بعد ذلك عن كونه ظلما، لأنه من القبائح العقلية والعرفية الذاتية والطبعية. فبناء على هذا إذا كان اليهود يستهزئون بالمؤمنين يستحقون أن يقابلوا بمثله، من غير أن يكون المماثل له بعنوان الجزاء خارجا عن حقيقة الاستهزاء، فلا مجاز في الكلمة ولا مجاز في الإسناد، وهذا من غير فرق بين أن تكون الجملة إخبارية أو إنشائية.

الوجه الرابع: كيفية الاستهزاء منه تعالى الفعل المستهزئ به اليهود معلوم من الكتاب العزيز، فإن في ترددهم، وبين شياطينهم وبين المؤمنين، يحصل سوء نظرهم، وأما الفعل المستهزأ به اليهود من الناحية المقدسة فغير واضح ولأجله اختلفوا أنه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما. والذي يحصل لي: أنه يتضح من قوله تعالى: (ويمدهم في طغيانهم يعمهون)، فإن الاستهزاء والسخرية الإلهية، ليست من مقولة الكم والكيف، بل هي من الخارجيات المتحيزة والحركات الذاتية المتجوهرة، فهم بعد طغيانهم المنسوب إلى أنفسهم يمدون في الغواية والضلالة والانحراف على خلاف الدعوة الأولية الفطرية المتوجهة إليهم، فهم مدعون إلى الصراط المستقيم، ومبعوثون إلى السبيل القيم أولا، ولكنهم يمدون في سبيل الغي والفطرة المحجوبة المنحرفة عن الجادة المعتدلة، وهل الاستهزاء إلا ذلك ؟! وهل هذا من غير رب السماوات والأرض ؟! والله من ورائهم محيط.

الوجه الخامس: حول استناد المدد إليه تعالى ما ذكرناه وأبدعناه لحل مشكلة نسبة الاستهزاء إليه تعالى على سبيل الحقيقة، لا يأتي في نسبة المدد إليه تعالى ثانيا في الآية الشريفة، ولكن الذي عرفت منا تحقيقه في الآيات السابقة من نسبة الختم والزيادة والخدعة إليه تعالى وأنها نسبة حقيقية أيضا، يكفيك هنا، ولا سيما في هذه الآية الشريفة، التي فيها من الأسرار ما خفي على الآدميين، وهو كما يأتي تفصيله: أن مبدأ هذه النسب موجود في ذوات النسب، وأن السير الطبيعي والمحافظة على قانون العلل والمعاليل تقتضي صحة هذه النسبة، بلا استلزام للنقص في المبدأ الأعلى، ولا مجاز في أصل الانتساب. وما ترى في الكتب المفصلة من الاختلاف في هذه النسبة مجازيا وأمثالها، مما لا بأس به في ذاته، لكثرة المجازات في كلمات البلغاء وفي الكتاب الإلهي، ولكنها لا تعطي عمومية الحكم، وسريانه في جميع النسب الموجودة في القرآن، مع أن جل المعارف العرفانية الدقيقة والحقائق العلمية الفلسفية، تتخذ من اختلاف النسب الموجودة فيه، فلا تغفل ولا تكن من الخالطين.

الوجه السادس: حول كون الآية إنشائية يظهر من الأكثر أن الآية الشريفة جملة أخبارية، وفي بعض العبائر احتمال كونها إنشائية، فيكون دعاء وشعارا عليهم، وإبراز انزجار من قبله تعالى بالنسبة إلى طائفة اليهود أولا، وإلى من يشابههم من سائر الملل ثانيا، لعدم اختصاص لها في حقهم، ففي هذه الآية وما مر من الآيات السابقة، نوع هتاف يعتبره العقلاء ويساعد عليه الاعتبار. وبذلك ينحل كثير من المعاضل والمشاكل، مما لا حاجة إلى تصحيح النسبة - مثلا - في قوله تعالى: (يمدهم)، وهذا النحو من العلامات والإعلانات متعارفة، ولعل قوله تعالى: (قاتلهم الله أنى يؤفكون) (2) من أظهر مصاديقه. أقول: والذي هو الحق أن جميع الشعارات المتعارفة والهتافات اليومية وغير اليومية، كلها تجئ على صيغة الماضي أو الأمر الغائب، ومنه قوله تعالى: (قاتلهم الله)، ومنه قول الناس: وليحي كذا، وليسقط فلان، وأما الهتاف بالفعل المستقبل فهو خلاف الديدن العصري، ولم يعهد ذلك حسب التأمل والتدبر في المجامع والاستعمالات، فالاحتمال المزبور غير قائم عليه شاهد.

الوجه السابع: حول ما يمدون به فيما يمدون به وجوه واحتمالات، ومن الوجوه المشتملة عليها الآية الشريفة - حسب احتمال المفسر - هو أن الآية السابقة اشتملت على أمرين: أحدهما أنهم يترددون إلى شياطينهم، ثانيهما أنهم يستهزئون بالمؤمنين. فأجيبوا في هذه الآية عن استهزائهم: بأن الله يستهزئ بهم. وأيضا تبين فيها: أن ترددهم إلى شياطينهم يوجب تقويهم في عميانهم وضلالتهم، وأنه به يمدهم الله في طغيانهم يعمهون، كما قال: (وإخوانهم يمدونهم في الغي). والسر كل السر: أن الحركة إلى الشقاوة، والخروج من الفطرة السليمة المخمورة إلى الفطرة المحجوبة، بطي مراحل الحجب ومنازل البعد والطغيان، تحتاج إلى المحركات الخارجية والإمدادات الغيرية، حسب اقتضاء ذات المتحرك من غير ابتداء من الأمر الخارج، فعندئذ كما يكون الأفكار الفاسدة والآراء الخبيثة والبناءات الرذيلة، موجبة لتقوي الإنسان في الطغيان، كذلك المراودات اليومية مع الأصدقاء الخبيثين والمرافقين المنحرفين، تستلزم تلك التقوية والاستعانة والمعاونة طبعا، وتؤثر في الاشتداد، نحو الأباطيل والرذائل، ويستمر ذلك إلى أن يهلك ويهلك، فبين المعاني المشتملة عليها الآيتان نوع من اللف والنشر غير المرتب.


1- راجع الكشاف 1: 66 - 67، والتفسير الكبير 2: 70، وروح المعاني 1: 158 - 159.

2- التوبة (9): 30، المنافقون (63): 4.