اللغة والصرف

الآية الخامسة عشرة من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾

المسألة الأولى: حول الهيئة الاستقبالية قد تعرضنا فيما سلف لمفاد الهيئة الاستقبالية، وقلنا: إنها لا تدل على الزمان المستقبل، وليست موضوعة لذلك، بل هي مشتركة، وفي مقابل الماضي فتتوغل في الحال باللام، وفي الاستقبال بالسين وسوف، فاستفادة شئ من الهيئات الاستقبالية المستعملة في هذه الآية الشريفة، ليس بشئ جدا. هذا، مع أن في الآية بعض القرائن، كما سنشير إليه في محله.

المسألة الثانية: حول كلمة " مد " مد يمد مدا الحبل: بسطه، وهو في الأصل السحب والجر، وما في كتب اللغة من المعاني المختلفة يرجع إليه. وفي " الأقرب " وغيره: مده في غيه: أمهله وطول له، والشئ: جذبه (1). والذي يهمنا النظر هنا إليه: هو أن الإمهال والإملاء من المعاني المستقلة لهذه المادة أم لا، فقيل بالأول، حذرا عما يأتي في نسبة هذه المادة إليه تعالى، وهو المحكي عن البيضاوي وغيره (2). وأنت خبير بعدم جواز الخلط بين المسائل اللغوية والأحكام العقلية. والحق: أن المادة المذكورة بمعنى واحد، وهي التقوية والإمداد والإعانة، إلا أن الإعانة تختلف بحسب الموارد، كما يأتي في محله. وأما ما قيل: بأن الإمداد هنا هي الزيادة والتقوية ولو كانت بمعنى آخر في محل آخر، لأن الإمداد - بمعنى الإمهال - يتعدى بالحروف، ولأن المزيد منه لم يسمع، مع أن ابن كثير - من غير السبعة - قرأ: نمدهم بالضم (3). فهو مخدوش من جهتين: فإن المستفاد من اللغة أعم، وأن عدم السماع أو استعمال ابن كثير لا يضر ولا ينفع. وما اشتهر: من أن المد في الشر والإمداد في الخير، أو أن المد في الجنس، والإمداد في غير الجنس (4)، كله من الاستئناس الخارج عن حدود اللغة الأصلية. نعم قد كثر في الكتاب الإلهي استعمال المد في ما ليس بخير والإمداد في الأمور الخيرة. هذا، مع أن نظر القائلين بالفرق، هو في خصوص معنى المد بمعنى التقوية والإعانة والإغاثة، دون معنى البسط، وإلا فلا يتم ما توهموه، لقوله تعالى: (وهو الذي مد الأرض) (5)، ولو كان معنى البسط من معاني الإعانة - كما يمكن تخيله - فالتوهم المزبور يصبح باطلا.

المسألة الثالثة: حول كلمة " الطغيان " الطغيان معلوم من طغى الماء، أي تجاوز عن الحد المرغوب فيه، وإطلاقه على العاصي الباغي ليس من المجاز، والالتزام غير ممنوع أيضا. وأما عمه يعمه وعمه عمها وعموهية: تردد الرجل في الضلال، وتحير في المنازعة أو الطريق. وقيل: العمة: أن لا يعرف الحجة والوصف (6). وعن الزمخشري: العمة مخصوص بالعمى في البصيرة، فلا يقال: أعمه العين (7)، وإثباته على مدعيه. وقد وردت هذه الكلمة في سبعة مواضع، وفي خمسة منها اقترنت بكلمة الطغيان، وكأنه يستشم نوع التئام بينهما بحسب المعنى، وذلك أن فرعون لو طغى أو الماء لو طغى كما في قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء) (8) ففيه - وإن كان في محيط الذم - معنى التبختر والطمطراق والجبروت، فالماء إذا طغى فقد ارتفع، وهذه الرفعة كمال الماء وإن كان فيه ضرر الساكنين على الشواطئ والسواحل، وهذه الرفعة التوهمية تنكسر بالعمه والعمى والتردد في الغي والضلالة.

تنبيه

الطغيان من طغي وطغى، وهكذا الطغيان بالكسر، يقال: طغى الكافر: غلا في الكفر، وفلان: أسرف في المعاصي والظلم (9). وأما الطغوان فهو من طغا يطغو، يقال: طغا الماء: هاجت أمواجه، والسيل: جاء بماء كثير (10). والذي هو الحق - كما تحرر -: اتحاد المعنى، واختلاف اليائي والواوي لاختلاف البلدان، والمعنى الأول حسب اللغة أنسب، وربما يكون " الطغيان " من " طغا " بقلب الواو ياء.


1- الصحاح 2: 537، أقرب الموارد 2: 1192.

2- أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 36، روح المعاني 1: 148.

3- روح المعاني 1: 148.

4- تفسير التبيان 1: 80، التفسير الكبير 2: 71، الجامع لأحكام القرآن 1: 209، تاج العروس 2: 498، أقرب الموارد 2: 1192.

5- الرعد (13): 3.

6- أقرب الموارد 2: 833.

7- انظر الكشاف 1: 69، أقرب الموارد 2: 833.

8- الحاقة (69): 11.

9- أقرب الموارد 1: 708.

10- نفس المصدر.