التفسير والتأويل على اختلاف المسالك ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (وإذا لقوا الذين آمنوا) مثل سلمان وأبي ذر ومقداد وعمار، (قالوا آمنا) بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسلمنا له بيعة علي (عليه السلام وفضله، وانقدنا لأمره، (وإذا خلوا إلى شياطينهم) المتمردين المنافقين، المشاركين معهم في التكذيب وإنكار تفضيل الأمير عليه الصلاة والسلام ونصبه إماما على كافة المكلفين (قالوا) لهم (إنا معكم) على ما واطأناكم عليه من دفع علي (السلام) عن هذا الأمر (إنما نحن مستهزئون) بهم. وعن الباقر (عليه السلام): أنها نزلت في ثلاثة، لما قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام)، أظهروا الإيمان والرضا بذلك، فلما خلوا بأعداء أمير المؤمنين (عليه السلام) (قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون). وعن تفسير الهذيل ومقاتل، عن محمد بن الحنفية - في خبر طويل - (إنما نحن مستهزئون) بعلي بن أبي طالب (عليه السلام).

وعند أصحاب التفسير من الأقدمين: (1) (وإذا لقوا الذين آمنوا)، أي رجال من اليهود إذا لاقوا أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعضهم، (قالوا آمنا) على دينكم، (خلوا إلى) أصحابهم وهم (شياطينهم، قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون). هكذا عن ابن عباس. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) من اليهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (قالوا إنا معكم) أي إنا على مثل ما أنتم عليه (إنما نحن مستهزئون). وعن ناس من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن ابن مسعود، وعن ابن عباس: أما شياطينهم فهم رؤوسهم في الكفر. وعن سعيد، عن قتادة: أي رؤساؤهم في الشر وقادتهم فيه. وعن معمر، عن قتادة: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) قال: المشركون. وعن مجاهد: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) قال: إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفار. وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين. وعن ابن أنس، قال: (شياطينهم) إخوانهم من المشركين. وعن كافة أهل التفسير والتأويل: (إنما نحن مستهزئون) وساخرون. وعن ابن عباس: ساخرون بأصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعنه: إنما نستهزئ بالقوم ونلعب بهم. وعن قتادة: نستهزئ بهؤلاء القوم، ونسخر بهم. وعن الربيع: أي نستهزئ بأصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وعلى مسلك المفسرين: (وإذا لقوا) واتفقت ملاقاتهم ومجاورتهم ل? (الذين آمنوا) بالله وباليوم الآخر وبالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأذعنوا للإسلام، (قالوا آمنا) مثلكم، (وإذا خلوا إلى شياطينهم) ومع هؤلاء المتمردين الرؤساء، (قالوا إنا معكم) ومثلكم (إنما نحن مستهزئون) بالجماعة المؤمنين. وقريب منه: (وإذا لقوا) على سبيل المعاهدة والعقد الواقع بين اليهود - بعضهم مع بعض - ومع جماعة من المؤمنين، (وإذا لقوا الذين آمنوا) من الموجودين حيث النزول، أو الموجودين بعده، (قالوا آمنا) كما قلنا فيما سبق، وحكاه القرآن حين قال: (ومن الناس من يقول آمنا بالله...) إلى آخره، (وإذا خلوا إلى شياطينهم) الذين هم يوحون إليهم ويحركونهم على ذلك ويعلمونهم الإظهار، حفظا لأعراضهم، وحقنا لدمائهم، (قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون). وقريب منه: (وإذا لقوا الذين آمنوا) على اختلاف حالاتهم من التعاهد تارة وعدم المعاهدة أخرى، وعلى دأبهم وعادتهم مرارا (قالوا آمنا) كإيمانكم بالمبدأ والآخرة وبأصل الرسالة دون شخص الرسول، وقد أهملوا في كلامهم حتى لا يعلم حالهم، (وإذا خلوا) وانصرفوا خالين (إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) ومعتقدون بما اعتقدتم، (إنما نحن مستهزئون)، ونحن الاستهزاء شغلنا ودأبنا وملكتنا.

وقريب منه: (إنما نحن مستهزئون)، فيستهزئون بالمؤمنين وشياطينهم، فيقولون عند كل من الطائفتين خلاف ما كان عندهم، وإن شياطينهم يحركونهم نحو الاستهزاء بالمؤمنين، ولكنهم كانوا في الشيطنة أقوى منهم، فهم على هذا طائفة من المنافقين غير المعتقدين بما اعتقد بهم شياطينهم. وقريب منه: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) مع أنهم ما كانوا مؤمنين لا بالله ولا بشئ آخر، وكانوا يقولون خطابا للمؤمنين: (آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم) المحركة، (قالوا إنا معكم) ضدا عليهم وعنادا، و (إنما نحن من الجماعة المستهزئين الذين يستهزئون بالمؤمنين، وإن كانوا مختلفين بحسب الاعتقاد، لأن منهم اليهود والكفار والمشركين. وقريب منه: وإذا خلا بعضهم مع بعض، وإلى أنفسهم الذين هم الشياطين، واتفقوا في الخلوة، يقول كل للآخر: (إنا معكم)، وإذا خلا الذين فيهم من النورانية شئ إلى شياطينهم الذين هم في الظلمة منغمرون، (قالوا إنا معكم) معية جسمانية وروحانية (إنما نحن مستهزئون).

وعلى بعض المشارب الاخر: (وإذا لقوا الذين) من جنود الحق الباطنية والظاهرية (قالوا) بلسان ذاتهم: (آمنا)، ويكون إيماننا واردا في قلوبنا، وراسخا في نفوسنا، (وإذا خلوا إلى شياطينهم) المعلمين لهم، والمرشدين إياهم إلى الفساد والباطل، وقواهم الوهمية الشيطانية، والأفكار الخيالية الظلمانية، (قالوا إنا معكم) وإنا غير منسلكين في سلك العقول النورانية، و (إنما نحن مستهزئون)، فتكون الآية، كما هي ناظرة إلى القضايا الخارجية الاتفاقية بين الأشخاص والأبدان الحقة والباطلة، كأنما هي تشير إلى حالات النفوس والمباحثات والمقاولة الواقعة بين القوى الهادية والقوى المضلة، والنفس الإنسانية هي المنافق الواقعة بين تلك القوى، فنعوذ بالله من شرها الرجيم.

وعلى مسلك الخبير ومشرب البصير: إن الآيات الإلهية تتحمل المعاني الكلية والجزئية على اختلاف مراتبها. وفي وجه إبداعي أشرنا إليه: أن جميع المعاني الحاصلة في النفوس المتعلمة هي العلوم الفعلية للحق الأول، وهي القابلة لانطباق الكتاب الإلهي عليه، لأنه العلم النازل، فلا تزل ولا تشقى.


1- انظر تفسير الطبري 1: 130 - 132.