تفسير الآية 38

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (النور/38).

استنتجنا من الآيات السابقة أن الله تعالى هو أصل جميع أنواع الهداية، وقد ضرب مثلا لنور هدايته وقال: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ أحد الآثار المترتبة على اهتداء الإنسان بنور الهداية الإلهية هي أن عمله يتخذ قيمة. فما معنى هذا القيمة؟

يؤدي الإنسان في هذا العالم جملة من الأعمال، بل أن جميع حياته عمل وجهد ونشاط، يستيقظ في أول الصباح ويبقى يمارس نشاطه حتى الليل، ولو نظر إلى نفسه أو إلى غيره لرأى الحياة برمتها حافلة بالعمل والحركة والسعي. ولو سأل نفسه: لماذا هذا السعي والعمل؟ من الطبيعي أن المقاصد والأهداف متفاوتة تماما، إلا أن الجميع يسعون في نهاية المطاف نحو أمر واحد، وذلك هو السعادة.

الإنسان يسعى بشكل فطري لنيل السعادة لا الشقاء. ولو أنه سعى إلى أعمال تؤدى إلى شقائه فهو لا يؤديها بقصد الوقوع في الشقاء، بل بتصور في تلك الحالة أن سعادته تكمن في هذا العمل.

إذن من البديهي ومن المسلم به أن الإنسان يقصد من وراء سعيه وعمله وجهده بلوغ السعادة ولا يقصد أبدا من وراء ذلك أن يكون نصيبه الشقاء. وقد يحصل أحيانا أن يسعى الإنسان ويبذل جهودا كثيرة في هذه الدنيا متوهماً أن ذلك يوصله إلى السعادة المنشودة إلا أنه يدرك بعد مدة أن كل عمله ذاك كان عبثا أو قد تأتي عليه تلك الجهود بنتائج عكسية، ولو انه يبذل تلك المساعي لكان افضل له.

أحد آثار الأيمان بالله والاهتداء بنوره هو أن يصبح لعمل الإنسان قيمة واقعية. أي أن يصبح في وضع يؤدي عمله إلى سعادته حقا سعادة أبدية. وهنا تعرض قضية توضحها الآية اللاحقة بشكل أكثر صراحة وهي هل العمل الصالح الإنسان أو العمل السيء، له صلة بإيمانه أم لا؟ وهل كل عمل صالح يفعله الإنسان يؤدي إلى سعادته على الأحوال حتى وأن لم يهتد بنور الهداية الإلهية، وأن العمل السيء على كل الأحوال سيء على الإنسان حتى وأن كان مهتديا بنور الهداية الإلهية؟

هذه القضية كثيرا ما تثار اليوم وخاصة من قبل الشباب، ويقول ما الضرورة لأن يكون الإنسان مؤمناً حتى يقبل عمله عند الله؟ فالعمل الصالح صالح على كل الأحوال، ومادام الله غنيا فما الفرق عنده في أن يعرفه الشخص الذي يعمل صالحا أو سيئا، أو لا يعرفه؟ وأنه يجب أن لا يفرق بين عباده، سواء من يعرفه ويعظمه ويصلي ويصوم، أم من جهله، بل ويتمرد عليه ويعصيه، ولكن كلاهما يؤديان عملا صالحا؟ وهذا ما يوجب عدم أخذ قضية الإيمان بنظر الاعتبار يوم القيامة، والذي يجب اعتباره هو العمل فقط. فإذا كان هناك شخص منكر لوجود الله وأنبيائه، لكنه أدى عملا صالحا يخدم البشرية، يجب على الله أن يدخله الجنة، وهكذا إذا عمل الإنسان الذي يؤمن بالله عملا صالحا يجب على الله أن يدخله الجنة. ولو أن الله سبحانه وتعالى فرق بين أمثال هذين يكون شأنه - والعياذ بالله - شأن رئيس الدائرة الذي يفرق بين من يعظمه ويتملق له وبين من لا يبدي له التكريم والتملق في حين أن الرئيس الجيد هو الذي لا يفرق بين أفراد دائرته على هذا الأساس، وإنما ينظر إلى عملهم فقط، يثيب من يتقن عمله.

هذه القضية يثيرها الكثير من الأشخاص على شكل سؤال واعتراض. وقد تناولت هذه القضية في القسم الأخير من كتاب "العدل الإلهي" وتحدثت عنها بالتفصيل. وأقدم لكم الآن مقتطفات من تلك المواضيع بما يتناسب مع هذه الآيات الثلاث.

لأجل الإجابة على هذا الاعتراض، نستطلع أولا رأي القرآن في ذلك. نلاحظ القرآن لا يؤكد على العمل وحده وإنما يؤكد على العمل والإيمان سوية، ويصرح دائما بالقول: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. القرآن لا يعتبر الإيمان وحده كافيا لسعادة البشرية حتى يقول مثلا: "أنتم مؤمنون، فأنتم إذن سعداء مهما يكن عملكم ". ولا يعد العمل وحده كافيا لهذا الغرض حتى يقول: " الذين عملوا الصالحات سواء آمنوا أم لم يؤمنوا". بل يؤكد عليهما معا.

كان هناك بطبيعة الحال من يقول الفضل كل الفضل للإيمان، وليس للعمل أي شأن. وكما يوجد بيننا من يقول ليس للعمل دور في سعادة الإنسان، والدور للإيمان وحده يوجد كذلك من يدعي أن الإيمان لا أهمية له، وكل الأهمية للعمل،

وحتى القرآن يقول: ﴿وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران/171). ويقول في آية أخرى ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ (الكهف/30) هذا إضافة إلى السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان في هذا الصدد وهو قولهم أن هناك الكثير من الأشخاص الذين قدموا خدمات كبرى للبشرية، وهم ليسوا مسلمين، بل وبعضهم لا يؤمن بوجود الله فالشخص الذي اكتشف البنسلين قدم للبشرية خدمة كبيرة فكان البنسلين سببا في معالجة الكثير من الأمراض المستعصية. وكذلك الحال بالنسبة للشخص الذي اكتشف اللقاح المضاد للكزاز، ومن هم على شاكلتهم. هل يمكن القول ان الله لا يقبل علمهم بجريرة عدم الإيمان؟

نتناول في ما يلي دراسة هذه القضية لنتعرف على حقيقتها. هنالك مبدأ عرضه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يمكن أن يوضح لنا أساس هذه القضية وهو ما جاء في سورة نبي اسرائيل: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا﴾ (الإسراء/18) ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ (الإسراء/19) ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الإسراء/20) خلاصة هذه الآيات أن الله لا يضيع أجر الإنسان في ذلك المقصد. فهو تعالى جعل هذا العالم على هيئة مزرعة يحصد الإنسان ما يزرع فيها.. فمن يزرع حنطة يجني حنطة، ومن يزرع شوكا يجني شوكا. ولا يمكن أن يزرع زرعا ويتوقع ثمرا لزرع آخر. وحتى إذا كانت المزرعة ممتازة فلا يعني هذا أنها تدر ثمرا جيدا بغض النظر عن الزرع المغروس فيها. وكذلك الناس لهم في مساعيهم غايات شتى. صحيح أنهم جميعا ينشدون السعادة، ولكن في أي شيء يطلبونها؟ أحيانا يجهد الإنسان في هذه الدنيا ويكدح لكي ينال ثمرة جهده في هذه الدنيا ولا شأن له بالله وبالآخرة. ولكنه قد يعمل تارة أخرى لا لأجل نيل نتيجة مادية في هذه الدنيا وإنما للتقرب إلى الله والحصول على النتيجة في الحياة الأخرى.

القاعدة تقضي أن الإنسان إذا بذر لذلك العالم فلا بد وأن يجني المحصول هناك وإذا زرع لهذا العالم يحصل على النتيجة هنا القرآن يقول: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ﴾ أي أننا نفيض بمددنا على الذين يبتغون الله والحياة الآخرة، وكذلك على الذين يريدون الحصول على النتيجة في هذا العالم. ولكن مع وجود فارق واحد وهو بما أن هذه الدنيا دار تزاحم العلل والأسباب فإننا لا نضمن لمن يبتغي الدنيا الحصول على مبتغاه لأن غايته قد تتعارض مع مقاصد وموانع أخرى. فهو يبذر ليجني في الدنيا ولكن قد يفسد بذره ونحن لا نضمن لجميع الأشخاص نيل مقاصدهم ‎، ولا نضمن لشخص واحد نيل ثواب جميع أعماله. كثيرا ما تصاب البذور التي تبذر للدنيا بالآفات والفساد. أما ما يبذر لله وللآخرة فلا يتعرض لمثل هذه الآفات لأنها يسير في تناسق وانسجام مع قانون الطبيعة، بل ويدر محصولا أكثر مما زرعه الشخص.

فهل هذا المبدأ العام منطقي أم غير منطقي؟ كما جاء هذا الموضوع في آيات أخرى بصورة أخرى، كقوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ (الشورى/20) والبذر يختلف هنا حسب نية الإنسان، أحدهما يزرع بنية الدنيا، والآخر يزرع بنية الآخرة. كما ويستفاد من الآيات القرآنية موضوع آخر مفاده أن من يسعى للدنيا لا يحصل على شيء من الآخرة، ولكن من يعمل للآخرة ينال - تبعا لذلك - الدنيا. وهذا حساب آخر. ويبدو أن هذا الطرح في غاية المنطقية، ولو كان غير هذا لكان بعيدا عن المنطق. وهو مما لا يمكن لأحد الاعتراض عليه.

أما رأي القرآن فيمن يقبل عمله وفيمن لا يقبل عمله فهو: أن من يعمل للدنيا لا بد وأن يكون لديه هدف، فإن كان يبتغي الشهرة والجاه والمحبوبية، ورفعة بلدة، والسمعة لأبناء قومه ودولته، غالبا ما يحصل على ما يهدف إليه. إلاّ أن العمل الذي يؤتى به لهذه الغاية لا يرتجى منه تحقيق غاية أخرى. أي أنه أتى بذلك العمل لا بقصد القربة إلى الله، بل لأجل التقرب إلى الناس، وهو يتقرب به إلى الناس إلاّ أنه لا يمكنه القول بالتقرب إلى الله. وهل يمكن للإنسان بلوغ مقصدين مختلفين في سفر واحد يقع أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب؟ إذا سار الإنسان نحو الشمال يصل إلى الشمال، وإذا توجه إلى الجنوب يصل إلى الجنوب. في أي طريق يسير الإنسان يصل في نهاية المطاف إلى نهاية ذلك الطريق.

وانطلاقا من هذه الرؤية يكون الإيمان شرطا لقبول العمل ‎، لا بمعنى أن الله تعالى يقول: من يتخضع لي أقبل عمله، ومن لا يفعل أرفض عمله، بل أن الذي لا يؤمن بالله ولا يروم التقرب إليه لا يصل إليه. والذي لا يطلب الآخرة لا يجوز اعطاءها له. في الآخرة يعطي للإنسان ما كان يطلب، ولا معنى لأن يعطى ما لم يطلب. أجل لا يشترط في أصل قبول العمل الانتماء إلى الدين الإسلامي وإلى المذهب الشيعي. إذا كان الإنسان يؤمن بالله ويعتقد بالآخرة وجاء بعمل في سبيل الله وللآخرة فعمله بحد ذاته مقبول عند الله إلاّ إذا جاء بآفة تقضي عليه. كأن يكون عناداً أو كفراً (وهو ما سنشرحه في ما بعد). الذي اكتشف البنسلين أسدى لأبناء البشر خدمة، ولكن ماذا كانت غايته من وراء تلك الخدمة؟ الله جل شأنه يوصله إلى غايته حسبما تكون ولا يمكن أن يكافئه بما لم يطلب. من المستحيل - بل ولا معنى - لأن يصل إنسان إلى غاية لم يطلبها.

إذن ما ذكرناه من اهتداء الإنسان بنور الله - أو قل الأيمان بالحق - يضفي على عمل الإنسان قيمة، يعود سببه إلى أنه يغير طبيعة عمل الإنسان في هذه الدنيا. فإذا كان هناك شخصين أحدهما مهتد بنور الله والآخر غير مهتد يبدو ظاهرياً أنهما يؤديان عملاً واحداً، ولكنهما باطنيا يختلفان من السماء إلى الأرض ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ (فاطر/10) فسرت هذه الآية على وجهين، كلاهما صحيح. وكما سبق وأن أشرت فإنه لا معنى أساسا لحمل آيات القرآن على معنى واحد. فقد نلاحظ تارة أن الآية تحتمل تفسيرين، يكون حينها كلاهما صحيحين وهذا م خصائص ومعجزات القرآن حيث تأتي تعابيره أحيانا بشكل يمكن حملها على عدة معان.

العدل معناه حسن العلاقات الاجتماعية، والظلم مؤشر على تفسخها فإذا كان مجتمع إسلامي يعرف الله، ويعتبر نفسه مجتمعا قرآنيا وينادي بنداء: (اشهد ا، لا إله إلا الله، وأشهد ان محمدا رسول الله، واشهد أن عليا ولي الله) ولكنه لا يعير أهمية للمبدأ الذي يدعو إليه القرآن ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾، بل تقوم علاقات الاجتماعية على الظلم والكذب والفساد التهمة،‎ في مثل هذه الحالة لا يدّعي القرآن أن هذا المجتمع جدير بالبقاء، وإنما يؤكد أنّه يسير على طريق الزوال، مستندا في زعمه هذا على ذلك المبدأ، القائل بأن الفرد أو المجتمع يصل في نهاية المطاف إلى نهاية الطريق الذي سار عليه، ولكنه إذا لم يسلكه عليه أن لا يتوقع بلوغ تلك الغاية. إذا سلك الشخص أو المجتمع المادي طريق الحياة الدنيوية يصرح القرآن أنه يبلغ غايته. ولكن الشخص أو المجتمع المؤمن بالله إذا سلك ذلك السبيل الدنيوي خطأ لا يبلغ غايته. ولهذا السبب لا يرتجي الشخص المادي الذي لا يسلك الطريق إلى الله وإلى الجنة شيئا من الشؤون الآخروية، مثلما لا نرجو نحن في الدنيا بلوغ نهاية الطريق الذي لم نسلكه، وهكذا الحال بالنسبة للآخرة أيضا.

جاء بعد آية النور التي تركز في مضمونها - وفقا للروايت ووفقا لما يستشف من الآية ذاتها - على الهداية، وبعد قوله تعالى: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ جاءت الآية: ﴿لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾. أن تعابير القرآن تثير العجب، لأن جملة ﴿ِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ﴾ أما تعود على: (يهدي الله) واما تعود على: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ فلا فرق في أن نقول: أن الله يهديهم لهذا الغرض، أو أن نقول: أن المهتدين يعملون على هذه الشاكلة ولا ينسون الله. ﴿لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ وهذا هو ما أشرت إليه من قبل، أي أن الإيمان يضفي على عمل الإنسان مثل هذه القيمة، فيستلم على اثر ذلك خير الجزاء.

ولكن كيف يحصل على خير الجزاء؟ من الواضح أن الآخرة فيها القرب من الله، والحياة الأبدية وغفران الذنوب وجنان الخلد. ولكن ماذا عن الحياة الدنيا ‎؟ لا يرى القرآن أي تناقض بين الآخرة والدنيا. فهل ثمة تناقض وتضاد بين الآخرة والدنيا؟ اضرب لكم في هذا المجال مثلا انظروا أنتم هل هو تناقض أم لا؟ وهو أن من يطلب سرب الجمال يحصل تلقائيا على الوبر والبعرور، إلاّ أن من يطلب الوبر والبعرور لا يحصل على سرب الجمال. وكذا من يطلب الآخرة ‎، يحصل على الدنيا، ولكن من يطلب الدنيا لا يحصل على الآخرة.

إذن الإنسان يجني من وراء عمله أكثر فائدة ممكنة وينال السعادة الأبدية الأخروية، والقرب إلى الله والنجاة من العذاب حينما يهتدي بنور الله ويعمل لله، عند ذاك: ﴿لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ أي ينالون الدنيا والآخرة. ثم يضيف: ﴿وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾. وهذا منطق قرآني عام ورد في مواضع متعددة بصيغ مختلفة لكن مضمونه واحد وهو أن الذين يعملون لله ينالون ما يشاؤون: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ (الإسراء/19)- هذا إضافة إلى - ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ (ق/35).

وبما أن الطريق هنا طريق فطري ينسجم مع الطبيعة البشرية، لذلك يأتيهم فضل آخر لأشياء لم يطلبوها.وورد في تعبير آخر: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ (الشورى/20) وهنالك تعبير آخر غريب جاء في القرآن يفيد أن من يعمل سوءا يجزى بمثل عمله، ومن يعمل خيرا يكافأ عليه عدة أضعاف: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ (الأنعام/160) وهناك أيضا منطق آخر في القرآن لطيف ونبيل وهو: ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ (الشورى/23) هذا مبدأ في غاية الروعة. هكذا تكون صفة العمل إذا كان لله، أي حتى إذا كان فيه عيب أو نقص، فإن الله تعالى بفضله ولطفه يزيل تلك العيوب ويحولها إلى محاسن.

إذن هناك قضيتان: الأولى: هي أن الله يضاعف العمل الصالح عشر مرات، هذا من حيث الكمية، بمعنى أن الباري تعالى يزيد في كمية العمل، والقضية الثانية، هي الكيفية، العبد يؤدي عملاً نصف جميل ولكن يلاحظ في ما بعد أن الله يجعل عمله تام الجمال. وهذا كله فرع من المبدأ الأشمل الذي سبقت الإشارة إليه وهو أن من يهتدي بنور الله لا يضل ولا يشقى. وهذه المعجزات تحصل نتيجة الاستنارة بنور الإيمان: ﴿لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾.

المراد هنا أن العمل الذي أدّوه على أحسن ما يمكن يجزون عليه أحسن الجزاء. والعمل الذي أدّوه وأرادوا أنّ: ﴿وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ثم يضيف إلى فضله: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ والرزق لا يقتصر طبعا على الطعام والشراب، بل يراد به هنا هذا الفضل وهذه الرحمة الإلهية. ومن الطبيعي أن مشيئة الله لا تأتي اعتباطا وبلا حساب، وإنما للذين بيّن خصالهم.

هذه الآية تتحدث عن عمل المؤمنين. ولكن ماذا عن عمل غير المؤمنين، أو المعاندين والجاحدين؟ هؤلاء ذكر لهم القرآن ثلاثة أمثلة، جاء منها هنا مثلان.

وكل واحد من هذه الأمثلة الثلاثة يتضمن موضوعا أساسيا.. يقول تارة هؤلاء أعمالهم كتل من تراب جاءت عليه الريح في يوم عاصف تحمل كل ذرة منه إلى مكان.. وجاءت بهذا المضمون آيات أخرى ولكنها لم تأت على هيئة المثال، كقوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ (الفرقان/23).

إذن يقول أحيانا عمل الكفار شيء - وليس لا شيء - ولكن الريح تحمله وتذروه في كل مكان. والمثل الآخر الذي يضربه لأعمال الكفار هو السراب الذي كلما دنا منه الإنسان وجده لا شيء، وليس إلاّ انعكاس الشمس على الرمل.. فالسراب ظاهره ماء ولكنه في حقيقته لا شيء. كما يشبه القرآن تارة أخرى بإنسان يتخبط بين أمواج البحر في ليلة ظلماء لا يقدر حتى على رؤية يده ‎، وكل واحد من هذه الأمثلة يسلط الضوء على جانب من جوانب الموضوع، الأول مثل لأعمال الكفار السيئة: ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ (النور/40) والآخر للذين يتوهمون أنهم يعملون عملا صالحان، ثم يظهر لهم في ما بعد أنه كان سرابا. والمثل الآخر لمن يعمل صالحا ثم يعمل بعده عملا يمحقه ويبطله من أساسا.