وجوه البلاغة والمعاني

الوجه الأول: وقوع الحوادث على ترتيب نزول الآيات قد مضى شطر من البحوث المشترك فيها الآيات الثلاثة، الواردة على سبيل القضية الشرطية، وأنها هل هي قضية كلية، أو خارجية، وأن الضمائر ترجع إلى الأشخاص المعينين، أم المراجع عامة، ولا تخص الآية بعصر نزولها؟وقد عرفت الخلاف في ذلك كله. بقي شئ أشير إليه آنفا: وهو أن المقاولتين السابقتين كانتا متقدمتين على هذه الملاقاة واللقاء والخلوة، أم هي متقدمة عليهما؟لم يظهر لي وجه يعتد به لتعيين تاريخ القضايا، ولم يتعرض له أرباب التفسير والتوضيح. والقاضي بذلك: هو أن طبع القضايا والحوادث الواقعة بين اليهود والمؤمنين، يقتضي أن تكون على نحو النزول، لأن المقاولة الواقعة بينهم وبين شياطينهم في الخلوة لابد وأن تكون في موقف توهم الشياطين إيمانهم وصدق لسانهم، فيكونون يظهرون الإيمان ويدعون الإصلاح بين المؤمنين، ثم عند الخلوة - دفعا للتوهم المزبور - يبرزون نفاقهم، وقوله تعالى: (إنما نحن مستهزئون) يشهد على أنهم استهزؤوا قبل ذلك باعترافهم بالإيمان ودعواهم الصلاح.

الوجه الثاني: حول تكرار القول بالإيمان ربما يشكل الأمر في قوله تعالى: (قالوا آمنا)، للزوم التكرار لما مر قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله...) إلى آخره، ولأجل ذلك اختلفوا في المفعول المحذوف بما لا يرجع إلى محصل: من أنهم في الأولى أرادوا الإخبار عن الإيمان بالله وباليوم الآخر، وهنا عن أصل الإيمان، ومن أن المحذوف - بشهادة أنهم اليهود - هي التوراة، وقد ارتكبوا التوراة بحذفه، ومن أن إظهار الإيمان في الآية الأولى نفاق للخداع، وفي الثانية نفاق للاستهزاء، وغير ذلك مما يطلع عليه المتتبع. والذي هو الظاهر وإن اختفى عليهم: هو أن هذه الآية تشتمل على قضيتين شرطيتين: إحداهما قضية إخبارية عن قولهم: (آمنا بالله وباليوم الآخر)، والآية الأولى بيان لما جرى بينهم وبين المؤمنين، وتكون القضية الشرطية الأولى توطئة وتمهيدا للقضية الثانية، وأنهم حالهم هكذا، وإعلام للمؤمنين بأن يتوجهوا إلى أن حال المنافقين معكم ذاك، وحالهم مع الشياطين أمر آخر، فهذا وإن كان بحسب المدلول تكرارا إلا أنه تكرار حسن ولازم في الكلام حتى يعلم المؤمنون قصتهم. ومن هنا يظهر ما في توهم الفخر: من أن قولهم: قالوا: آمنا، هو الإخلاص بالقلب، لأن إقرارهم باللسان كان معلوما (1).

الوجه الثالث: حول التأكيد عند مخاطبة الشياطين من الوجوه الملحوظة في هذه الكريمة: أن المنافقين حين لقائهم مع المؤمنين قالوا: آمنا، وكان مجرد إقرارهم بالإيمان - من غير حاجة إلى التأكيد - كان كافيا في تعمية الأمر عليهم، ولأن الكاذب المنافق ربما يجتنب حسب الفطرة عن تأكيد الكذب، لما في قلبه من الالتفات إلى حاله ونفاقه، أو كانوا يعتقدون أن التأكيد ربما كان ينتج عكس المطلوب، لما لا يتعارف ذلك بين المنسلكين في سلك المؤمنين. وأما إذا خلوا إلى شياطينهم، أكدوا كلامهم بالجملة الاسمية وبأداة التأكيد، حذرا من توهم الشياطين انسلاكهم فيهم، وتعمية الأمر عليهم بالاهتداء إلى الإسلام والإيمان، فإن المتوسطين بسطاء في جميع الأمور والقضايا.

الوجه الرابع: حول تعدية خلوا ب? " إلى " ربما يخطر بالبال السؤال عن قوله تعالى: (وإذا خلوا إلى شياطينهم)، وأنه ما الوجه في تعدية " خلوا " ب? " إلى "؟وقد اختلفت كلماتهم في ذلك، كما أشير إليه في الجملة في بحث الأعراب، وتبع الآخرون " الكشاف " واحتمالاته إلى أن قيل: " إلى " بمعنى " مع " (2). وقد مر في بحث اللغة والصرف: أن " خلا " ربما يتعدى ب? " إلى ". ولكن الذي يظهر لي: أن النظر هنا إلى أن الذين قالوا: آمنا في قبال المؤمنين هم نفس الشياطين، وكانوا إذا صاروا في الخلوة يقول بعضهم لبعض، أي إذا خلوا إلى جانب شيطنتهم، وإلى ناحية خبثهم وسوء سريرتهم، ويتمكنون من إظهاره، فيقولون: إنا معكم، أي كل واحد من الذين قالوا: آمنا، حال اللقاء مع المؤمنين، يقولون: إنا معكم، أي كل واحد من الذين قالوا: آمنا، حال اللقاء مع المؤمنين، يقولون: إنا معكم، ولا تتوهموا في حقنا شيئا آخر. وغير خفي: أنه بناء على هذه النظرية يسقط البحث الآخر، وهو أن القائلين في قولهم: إنا معكم، هل هم جميع المنافقين، أو طائفة منهم؟وبناء على ما احتملناه يتعين كون الكل يظهرون الإيمان، وإلا فلا يكونوا ولا يعدوا من المنافقين، فدأب المنافقين كان ذلك، وهو الإبراز عند اللقاء، وتأكيد الاستهزاء والخلاف عند الخلوة معهم، وهي شيطنتهم. ومما يؤيد ما ذكرناه: وحدة نسق الآيات وسياق الضمائر، فإن الكل ترجع إلى تلك الطائفة من الناس، وأنهم كانوا إذا قيل: آمنوا، قالوا: كذا، وإذا قيل لهم: لا تفسدوا، قالوا: كذا، وإذا لقوا المؤمنين قالوا كذا، وعند الخلوة مع أنفسهم قالوا: كذا، فما ترى في كلماتهم من التقدم خطوة والتأخر أخرى كله من الغفلة عن حقيقة الحال في الآيات الإلهية.

الوجه الخامس: المراد من " شياطينهم " حسب الموازين يكون المراد من " شياطينهم " الذين يلقون الشيطنة والتمرد، وقد عرفت أن الشيطان ليس موضوعا لطائفة خاصة من المتمردين والعاصين، فالخلاف المشاهد بين أرباب التفسير قديما وحديثا، يرجع إلى الشياطين في عصر النزول، لا في حدود الوضع، فعن ابن عباس والسدي: هم اليهود الآمرون بتكذيبهم (3)، وعن ابن مسعود وعن ابن عباس في رواية: هم رؤساء الكفر (4)، وعن الكلبي: هم شياطين الجن، وعن الضحاك وجماعة: هم كهنتهم، وقد كان في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكهنة جماعة منهم كعب بن الأشرف من بني قريظة، وأبو بردة في بني السلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وابن السوداء في الشام (5). انتهى ما في " المحيط ". والسر في ذلك: اعتقاد العرب بأن الكهنة يفعلون ويستمدون بالجن والشيطان الجني، كما هو الآن كذلك في عصرنا، والذي عرفت منا تحقيقه: أن المراد من الشياطين أنفسهم، أي إذا لاقوا المؤمنين قالوا: آمنا، وإذا خلوا ومضوا إلى الخلوة قال بعضهم لبعض: إنا معكم، أو إذا لاقوا الآخرين من أصدقائهم، قالوا: إنا معكم، وإلا فكانت الجن تعرف حالهم، ولا يخفى عليهم ضمائرهم.

الوجه السادس: نكتة أخرى في التأكيد عند مخاطبة الشياطين من وجوه البلاغة: أن اليهود حين المقابلة وعند لقاء المؤمنين، يظهرون الإيمان من غير تأكيد، وذلك لأن الإسلام قد أمر بسماع قول الشاهد وإقرار المقر وترتيب أحكام الإسلام عليه، من غير حاجة إلى التأكيد والحلف. وهم حين الخلوة مع شياطينهم لأجل كونهم شياطين خبثاء مردة، لا يقبلون ظواهر الأقوال، ولا يعتنون بمجرد الإقرار، لأن مقتضى القياس إلى أنفسهم حمل كلامهم على الكذب والافتراء، فيحتاجون إلى التأكيد، وإلى أن يقولوا: (إنما نحن مستهزئون) فإنه بمثل ذلك يمكن أن يعتقدوا أنهم لم ينسلكوا في سلك المهتدين، وإلا فمجرد قولهم: إنا معكم، غير كاف، بل لابد من انضمام السب والتوهين والهتك حتى يستبان أمرهم عندهم، وكأنه كانوا إذا لحقوا بالمسلمين لا يرتضون بمثل ذلك وتلك الإهانة والاستخفاف لعنهم الله تعالى.

الوجه السابع: الاستهزاء شغل اليهود يخطر بالبال أن يقال: إن قضية الآية صدرا هو أن يكون ذيلها هكذا: وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا كنا مستهزئين، ضرورة أنهم حين الخلوة ما كانوا مستهزئين. والجواب: أن إجراء المشتق على الذات بلحاظ الزمان الماضي جائز وشائع، ولكن الذي يخطر إلى لب ذوي الألباب: هو أن النظر ربما كان إلى أنهم كانوا اتخذوا الاستهزاء والسخرية شغلا وعادة لهم، وكانوا هم في المدينة مستهزئين الناس المختلفين، فيعرفون أنفسهم: بأنا مستهزئون، ولا يخص استهزاؤهم بالمؤمنين، نعم قد استهزؤوهم في المرة الأخيرة، فعوقبوا باستهزاء الله بهم. ولعمري إن اليهود كلا كذلك، لأن من يتدبر في أقاويلهم وعقائدهم يجد أنهم المستهزئون، إلا أن في الحقيقة يرجع استهزاؤهم على أنفسهم غافلين عن ذلك، وغير شاعرين به. والله من ورائهم محيط. ومما يؤيد أن الآية الشريفة تفيد أنهم من المستهزئين حسب الجبلة وبالطبع: حذف متعلقه وإلا كان ينبغي أن يقال: إنما نحن مستهزئون بهم، فيعلم منه أنهم على هذه الرذيلة انغرسوا.

الوجه الثامن: الفرق بين المنافقين وشياطينهم ربما يستظهر - كما عليه طائفة المفسرين - أن الذين لاقوا المؤمنين غير شياطينهم، وأن شياطينهم كانوا من ورائهم، واختلفوا في أن الذين لاقوهم هم أكابرهم، أم شياطينهم. وقد مر الإيماء إليه فيما سلف، والذي أردنا الإشارة إليه: هو أن من مراتب السعادة، ومن منازل النورانية والفضيلة، منزلة اللقاء ومرتبة الملاقاة مع الأنوار والسعداء، فإن من كان فيه استعداد اللقاء لابد وأن يكون فيه نوع من السنخية، وغير مباين مع النورانية المطلقة. ولأجل هذه المرحلة من الاستعداد، الذي شرحه صدر الآية الشريفة بقوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) وشرحه قوله تعالى: (قالوا آمنا)، فإنه أيضا يكشف عن المرتبة النازلة عن النورانية الإجمالية فيهم. وربما قيل: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) بإضافة الشياطين إليهم، حتى يكون المضاف غير المضاف إليه، فإن المضاف من حرم عن اللقاء وعن إظهار الإيمان، والمضاف إليه من تدارك واستعد لنيل لقاء المؤمنين وإظهار الانسلاك في سلكهم. والله الهادي إلى سواء السبيل.


1- التفسير الكبير 2: 68 - 69.

2- روح المعاني 1: 157.

3- راجع تفسير ابن كثير 1: 89، وتفسير الطبري 1: 130.

4- راجع تفسير الطبري 1: 130.

5- البحر المحيط 1: 69.