اللغة والصرف ومسائلهما

الآية الرابعة عشرة من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ﴾

المسألة الأولى: حول كلمة " لقي " لقي يلقاه لقاء: استقبله، وقيل: صادفه ورآه (1). وفي " المحيط ": اللقاء يكون بموعد وغير موعد، فإذا كان بغير موعد سمي مفاجأة ومصادفة (2). وفي " المفردات ": اللقاء: مقابلة الشئ ومصادفته معا، وقد يعبر به عن كل واحد منهما، ويقال ذلك في الإدراك بالحس وبالبصر وبالبصيرة (3). والذي يظهر لي بعد الدقة والرجوع إلى موارد الاستعمال: أن ما في اللغة من تفسيره بالاستقبال في غير محله ففي الكتاب: (حتى إذا لقيا غلاما فقتله) (4)، ولا يعتبر كون طرف اللقاء من المحسوس بالحواس الظاهرة، ومنه قوله تعالى: (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) (5)، (لقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه) (6). ومن هنا يظهر ما في تأويلهم لقاء الله: من أنه من لقاء اليوم الآخر ويوم التلاق، وسوف يظهر تمام الكلام حول هذه الجهة في ذيل الآيات المناسبة. وما في " المحيط " وغيره: من تفسير الملاقاة واللقاء بالمصادفة (7)، غلط جدا، فإن التصادف صفة السبب، واللقاء حاصل منه، فيقال: اللقاء الذي حصل صدفة كان كذا. ثم إن البحث حول هيئة الفعل الماضي وكثير من مواد هذه الآية الشريفة، قد مضى في طول البحوث السابقة، فراجع.

المسألة الثانية: حول كلمة " خلا " خلا يخلو خلوا وخلاء: فرغ المكان ورحل ساكنوه، والشئ: مضى، وخلى به: سخر منه، وبالشئ: انفرد به، ولم يخلط به غيره، وبفلان وإليه ومعه خلوا سأله أن يجتمع به في خلوة ففعل (8). انتهى ما في " الأقرب ". وفي " المفردات ": خلا إليه: انتهى إليه في خلوة، والخلو يستعمل في الزمان والمكان، لكن لما تصور في الزمان المضي فسر أهل اللغة خلا الزمان بقولهم: مضى الزمان وذهب (9). وفي " المحيط ": ويتعدى خلا بالباء وب? " إلى "، والباء أكثر استعمالا، وعدلت إلى " إلى "، لأنها إذا عديت بالباء احتملت معنيين: أحدهما الانفراد، والثاني السخرية، إذ يقال في اللغة: خلوت به، أي سخرت منه، و " إلى " لا يتحمل إلا معنى واحدا (10). وقال الأخفش: خلوت إليه جعلته غاية حاجتي (11). أقول: ما اشتهر: من جواز استعمال حروف الجر بعضها مكان بعض، من الملاعبة باللغة العربية، ومن اللغو المنهي عنه. وما اشتهر أيضا بينهم وبين اولي الألباب منهم: أن حرف كذا بمعنى كذا، أيضا غير موافق للذوق السليم، فكون " إلى " بمعنى الباء أو " مع "، أو غير ذلك مما يذكر في النحو، مما لا يرجع عندنا إلى محصل، فعلى هذا إذا قيل: خلا بعضهم مع بعض، فهو بمعنى الخلوة في المكان الكذائي أو الزمان، وإذا قيل: خلا بعضهم إلى بعض، فهو يرجع إلى أن الخلوة هنا تفيد المعنى الآخر والخصوصية الزائدة، وهي - في المقام - الخلوة الحاصلة من المواعدة، وكانت هي مسبوقة ذهنا وعهدا، وليس هو مجرد التخلية والخلوة. ومن الممكن دعوى: أن هذه المادة حسب موارد استعمالها في الكتاب الإلهي، تفيد معنى المضي والإمضاء، لا المضي والتصرم الزماني، مثلا: إذا قيل: (سنة الله التي قد خلت في عباده) (12) فهو معناه أنها قد نفذت فيهم، و (الأيام الخالية) (13)، أي الواقعة النافذة المتحققة، ولكنها لمكان كونها ماضية ومتصرمه توهم أن مادة الخلو فيها معنى الزمان الماضي. ومن تدبر في الآيات المشتملة عليها، ربما يحصل له الوثوق بما اخترناه. والأمر سهل.

المسألة الثالثة: حول كلمة " الشيطان " شطنه يشطنه شطنا: شده بالشطن، وهو الحبل، أو الحبل الطويل يستقى به وتربط به الدابة، وشطن صاحبه، أي خالفه عن نيته ووجهه، وشطن عنه: أبعد (14). وفي " الأقرب ": الشيطان روح شرير، وكل عات متمرد، والحية. جمعه شياطين (15). وقال أبو عبيد: الشيطان: كل عات متمرد من إنس أو جن أو دابة (16). وروي عن ابن عباس ذلك أيضا (17). ويظهر من " القاموس ": صحة احتمال كونه من " شاط يشيط ": إذا احترق غضبا (18)، ونسب ذلك إلى الكوفيين، وقالوا: هو فعلان من " شاط "، بمعنى هلك، أو بطل، أو احترق، أو من شطيت اللحم إذا دخنته ولم تنضجه (19).

أقول: سيأتي تحقيق المسألة في حقيقتها - إن شاء الله تعالى - وهو بحسبها مأخوذ من الكل، وتصح - حينئذ - الأقوال كلها. وأما بحسب اللفظ والقواعد العربية فالأقرب أن النون أصلي، وذلك لما في كتب اللغة: تشيطن زيد، بمعنى أنه فعل أفعال الشياطين، ولو كان النون زائدا لكان يقال: تشيط زيد، كما لا يخفى. وعن أمية بن أبي الصلت في شعر له من قصيدة: أيما شاطن عصاه عكاه (20) أي شده، فإن معنى عكاه في الحديد والوثاق: إذا شده، ويؤيد عموم المعنى إطلاقه على المؤنث: شيطانة. وإذا راجعتم الكتاب الإلهي والآيات، تجدونه يطلق على الإنس والجن على نسق واحد وسياق فارد، ويجمع جمع مكسر على شياطين، ولعل الكوفي ينكره، ويقول: كما قيل: " تنزلت به الشياطون " (21)، ليكون النون زائدا، ودلالة كثير من الآيات على أن اللفظة مخصوصة بطائفة تمثل الكفار والفسقة وأهل الفجور والعصيان، مما لا تنكر، إلا أنها بالقياس إلى الآيات الأخر تحمل على أن المراد هناك أخص، فلا تدل على خصوصية المعنى والموضوع له، كما لا يخفى.

المسألة الرابعة: حول كلمة " إنا " " إنا "، وربما يستعمل بالنونين الظاهرين، فيقال: " إننا "، والضمير المنفصل للجمع " نحن "، والمتصل في الأفعال هو " نا " كقولك: ضربنا، وأما في الحروف فما كان منها يكتب معه في كلمة واحدة، كقولك: " إننا " و " إلينا " و " علينا "... وهكذا، فيخرج الضمير من الانفصال إلى الاتصال، وما كان على خلاف ذلك، كما في مثل الواو الجارة وخلا وحاشا، فهو باق على انفصاله، وأما في مثل عدا فلا يبعد فيه الوجهان. ثم إن الحذف أكثر لكثرة النونات، وفي " المجمع ": إن المحذوف هي النون الثانية، لأنها التي تحذف في نحو (وإن كل لما جميع لدينا محضرون)، وقد جاء على الأصل في قوله: (إنني معكما) (22). وهذا غير مبرهن. والأمر سهل.

المسألة الخامسة: حول كلمة " مستهزئون " هزأ به ومنه وهزئ يهزأ هزوا: سخر منه، واستهزأ استهزاء، بمعنى هزأ (23). ومنه يستسخرون بمعنى يسخرون وقر واستقر، وعلا واستعلى، وعجب واستعجب، فإنه قد صرح أهل الصرف في معاني باب الاستفعال: أنها قد تجئ بمعنى فعل، إلا أنه قليل جدا، وليس بقياس. هذا بحسب الهيئة. وأما المادة فربما يقال: هي الاستخفاف والاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه (24). وفيه ما ولا يخفى من عدم لزوم كون الطرف مورد النقص والعيب. وقيل: أصله الانتقام، ولا يخفى ضعفه. ولا يعتبر فيه كونه باللفظ، بل ربما يحصل بالفعل والإشارة، وهذا يشهد على أن أصل المادة، هي الملاعبة الخاصة والمجاملة على وجه الخفاء أحيانا، أو العلانية كثيرا. وبعبارة أخرى: المعاملة بممازحة من غير جد وواقعية. وأما أصحاب التفسير فكثيرا ما يراعون في توضيح المعاني اللغوية جانب معتقداتهم، وصحة إطلاقها على الله تعالى وعدمها، وهذا من التمشية الباطلة قطعا، ويوجب التعمية والضلالة.


1- أقرب الموارد 2: 1157.

2- البحر المحيط 1: 68.

3- المفردات في غريب القرآن: 453.

4- الكهف (18): 74.

5- الكهف (18): 62.

6- آل عمران (3): 143.

7- راجع مجمع البيان 1: 51، والبحر المحيط 1: 680، والمفردات في غريب القرآن: 453.

8- أقرب الموارد 1: 299.

9- المفردات في غريب القرآن: 158.

10- البحر المحيط 1: 68.

11- نفس المصدر.

12- غافر (40): 85.

13- الحاقة (69): 24.

14- تاج العروس 9: 253.

15- أقرب الموارد 1: 592.

16- راجع تاج العروس 9: 253.

17- روح المعاني 1: 146.

18- القاموس المحيط 2: 383.

19- انظر روح المعاني 1: 146.

20- الصحاح 4: 2145، مجمع البيان 1: 18، لسان العرب 13: 239.

21- الكشاف 3: 339، تاج العروس 9: 254.

22- مجمع البيان 1: 51.

23- أقرب الموارد 2: 1387.

24- روح المعاني 1: 158.