التفسير والتأويل على مسالك مختلفة ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (وإذا قيل) لهؤلاء الناكثين البيعة، قال لهم خيار المؤمنين كسلمان ومقداد وأبي ذر وعمار: (آمنوا) برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعلي (عليه السلام) الذي أوقفه موقفه وأقامه مقامه وأناط مصالح الدين والدنيا كلها به، آمنوا بهذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسلموا لهذا الإمام، سلموا لظاهره وباطنه، (كما آمن الناس) المؤمنون، كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار. (قالوا) في الجواب لمن يقصون إليهم من أهليهم الذين يثقون بهم، يقولون لهم: (أنؤمن كما آمن السفهاء)، يعنون سلمان وأصحابه، كما أعطوا عليا خالص ودهم ومحض طاعتهم، وكشفوا رؤوسهم لموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، حتى إذا اضمحل أمر محمد طحطحهم أعداؤه، وأهلكهم سائر الملوك والمخالفين لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي فهم بهذا التعرض لأعداء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) جاهلون سفهاء. قال الله عز وجل (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) الأخفاء العقول والآراء، الذين لم ينظروا في أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حق النظر، فيعرفوا نبوته ويعرفوا به صحة ما ناوله لعلي (عليه السلام) من أمر الدين والدنيا (1). الحديث.

وعلى مسلك أرباب الحديث: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) وصدقوا كما صدق أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قالوا: إنه نبي ورسول، وإن ما انزل عليه حق، وصدقوا بالآخرة وأنهم مبعوثون من بعد الموت. (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) يعنون أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، (ألا إنهم هم السفهاء) والجهال، (ولكن لا يعلمون) ولا يعقلون. هكذا عن ابن عباس وابن مسعود وابن أنس، وعن ناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2)، وإليه يذهب جمع من مفسري الشيعة (3).

وعلى مسلك أصحاب التفسير: (وإذا قيل لهم) - ولا خصوصية للقائل، أو تكون القضية شرطية فرضية لا واقعية لها -: (آمنوا) بالله وباليوم الآخر، وليكن إيمانكم على وجه الحقيقة، و (كما آمن الناس)، ولا تقولوا: آمنا بالله وباليوم الآخر ولم تكونوا مؤمنين، حسب ما مر في الآية السابقة الحاكية أن من الناس من يقول: آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم مؤمنين (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) و البسطاء، الذين لا يحافظون على عواقب الأمور من أي فرقة كانوا، (ألا إنهم هم السفهاء) وغير العاقلين، ولكنهم (لا يعلمون) بذلك وقريب منه: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) وليكونوا مخلصين ومؤمنين بالإيمان المتجرد عن الأباطيل والأهواء، (قالوا أنؤمن) أي قال بعضهم لبعض في السر: كلا لا نؤمن مثل هؤلاء السفهاء والذين هم آمنوا به (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى نكون مثلهم في السفه والجهالة، فقالوا ذلك وأجيبوا جهرا: (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) ذلك، لأنهم لا يلاحظون عواقب الأمور وخواتيم الأعمال والأفعال، وثمراتها في النشآت الآتية البرزخية وغيرها. وقريب منه: (وإذا قيل لهم)، والقائل معلوم ومحذوف تفخيما لا تحقيرا: (آمنوا) بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد حذف لما هو معلوم، ويقتضي البلاغة هنا الإيجاز، لأن النظر إلى أصل الإيمان على نعت الحقيقة، من غير كون المؤمن به مورد النظر، بل النظر إلى حال نفاقهم، (كما آمن الناس) على نعت الحقيقة والواقعية، أي كما آمن جماعة من الناس في الحجاز وقراها ومدنها وصحاريها، (قالوا أنؤمن كما آمن) هؤلاء الأراذل و (السفهاء) والجهلة، فإنا كنا آمنا كما آمن الكمل والعظماء والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخواص وقالوا بذلك جهرا، جوابا عما عرض عليهم، ولكن الله فضحهم جهارا وإعلانا بالنداء المؤكد بأنحاء التأكيدات: (ألا إنهم هم السفهاء) غير المحافظين على النتائج والتبعات، وهم السفهاء وغير العالمين بفضيحتهم وانكشاف رأيهم الفاسد وعقيدتهم الكاسدة. وقريب منه: (وإذا قيل لهم آمنوا)، وأظهروا إيمانكم، إن يهوديا فأظهروه، وإن نصرانيا فأبرزوه، بل ولو كان مجوسيا. (كما آمن الناس) وكل فرقة من المؤمنين حسب معتقداتهم، فكما أنهم ليسوا منافقين ولا مبطنين دينهم، فلتكونوا مثلهم. (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) من إظهار ما في قلوبهم حتى يعرفهم كل أحد، فإن ذلك سفاهة عندهم مع أنهم (لا يعلمون) (إنهم هم السفهاء)، لما أن سوء سريرتهم يصير معروفا لكل أحد، مع ما يعتقدونه في باطنهم ويبطنونه في السر والخفاء، فهؤلاء السفهاء، لا الذين هم أهل الإخلاص والصفاء وحسن السريرة وكمال الطينة.

وقريب منه: (وإذا قيل لهم آمنوا) ولا تكونوا من المفرطين ولا المفرطين (كما آمن الناس) ولا تتخذوا سبيل التأويل في الآيات، كطائفة من مدعي الكمال والخلوص، ولا تتخذوا سبيل الغي والضلالة، كاليهود وأمثالهم. (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء)، وتوهموا أن الآيات والأحاديث مقصودة ظواهرها، غافلين عن بطونها وحقائقها، كلا (إنهم هم السفهاء)، ولا سفيه إلا هؤلاء الجماعة الذين ذهلوا عن حقيقة الأمر، وخلطوا بين الأحكام الظاهرة والباطنة، وبين أحكام القلب والقالب، فإنه عين الضلالة والغواية، ولكنهم (لا يعلمون) بذلك، ولا يدركون سفاهتهم وجهلهم، فهم في عين الجهل المركب، والغواية التي لا يمكن معها الهداية.

وعلى مسلك الحكيم العارف: (وإذا قيل لهم آمنوا) في هذه النشأة الظاهرة وفي عالم الشهادة، (كما آمن الناس) كلهم في عالم الذر والنشأة الباطنة وعالم الغيب، وليكن إيمانهم هنا كإيمان الناس باطنيا وحقيقيا، لا قوليا وتظاهرا محضا. (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) من غير التفات وتوجه لعواقب الأمور في تلك النشأة، فإذا ظنوا ذلك في حقهم أجيبوا من ناحية الغيب: (ألا إنهم هم السفهاء)، لما أنهم آمنوا بالله وباليوم الاخر في عالم الذر، وأنكروه هنا، ولا يقرون بذلك، و (لا يعلمون) بما قالوه في تلك النشأة. والله العالم بحقائق آياته.


1- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 119 - 120.

2- راجع تفسير الطبري 1: 127 - 128، والدر المنثور 1: 30.

3- انظر التبيان في تفسير القرآن 1: 77 - 78، ومجمع البيان 1: 139.