الفقه وبعض فروعه

الفرع الأول: حول شرط الإيمان والإسلام ربما تدل هذه الكريمة على أن الإيمان والإسلام، الذي هو موضوع الأحكام الخاصة، والذي هو المطلوب في ابتداء طلوع الإسلام وبدو ظهوره، من الأمور الاختيارية، ولا شبهة في أن ما يكون اختياريا للإنسان في جميع الأحيان والأزمان، هي أفعاله التي تصدر عنه بإرادة وتحرك، سواء كانت من أفعاله اليدوية، أو أقواله الشفهية، وأما الأمور القلبية والاعتقادات النفسانية فهي تابعة لمباديها، وهي ليست تحت اختيار العبد إلا بتحصيل مباديها، وربما لا تحصل وإن كان العبد مصرا على ذلك وباكيا عليه، كما هو الظاهر. فعلى هذا إذا قيل لهم: آمنوا، فلابد من أن يكون الإيمان اختياريا، لامتناع تعلق الأمر بالأمور غير الاختيارية، ولا سيما مع هذه التوسعة المترائية من التشبيه: بأنهم يجب عليهم الإيمان كما آمن الناس طرا وكلا. ونتيجة هذا الاستدلال: هو أن الإيمان هو نفس الإقرار باللسان، ولا يكون عقد القلب من قيوده وشروطه الأساسية. نعم لا بأس بكونه من الشروط الكمالية. وقد مر شطر من الكلام حول هذه المسألة في ذيل بعض الآيات السابقة. وغير خفي: أن الالتزام بذلك مما لا بأس به، لأن مقتضى الإقرار باللسان الحكم بأن المقر معتقد بالوجدان، حتى يكون ظاهر كلامه موافقا لباطنه، ولا يجب الفحص عن ذلك، بل بناء العقلاء والشرع على إلحاقه بالمسلمين في صورة الشك. وإنما الإشكال في صورة العلم بمخالفة القلب مع الإقرار، وبمعاندة باطنه مع ظاهره، فإن مقتضى هذه الآية وإطلاقها، هو أن تمام الإيمان عمل جوارحي اختياري، ولو كان بعضه غير اختياري فالكل غير اختياري، لأن النتيجة تتبع أخس المقدمتين، فمقتضى هذه الآية الحكم بإسلام المنافقين، كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصنع معهم. وقد فرغنا عن المسألة بحدودها، فلا نعيدها.

الفرع الثاني: حول نجاسة المنافقين مقتضى إطلاق قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا)، بل وقضية حذف متعلق الإيمان، أن تمام الموضوع وتمام ما هو المأمور به نفس الإقرار، ولا يعتبر الخلوص والفراغ عن شوائب الرياء والسمعة، بل ولا غير ذلك من النفاق ونحوه، فالإيمان المطلوب أعم مما يقترن بمقاصد السوء والأغراض الدنيوية، من الخوف والطمع أو نحوهما. فمن هذه الجهة أيضا تدل الآية على خلاف القائلين بنجاسة المنافقين. اللهم إلا أن يقال: إن التمسك بالإطلاق يصح في مورد أمكن التقييد، وإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق، وفيما نحن فيه يمتنع التقييد، لما مر في البحث الأول. وفيه: أنه قد تحرر منا في الأصول: جواز التمسك بالإطلاق حتى في مورد امتناع التقييد، وتفصيله في محله (1).

الفرع الثالث: حول توبة المنافقين اختلفوا في قبول توبة الزنادقة والمرتدين (2)، ومقتضى إطلاق هذه الكريمة أن إيمانهم مقبول وإسلامهم يصونهم عن الأحكام المخصوصة بهم، وغير ذلك من الفروع الممكن تفريعها عليه. أقول: في جميع هذه التفريعات والاستنباطات مناقشة، بل كلها ممنوعة، وذلك لأن الآية الشريفة تصدت لحكاية مقالة القائل المجهول هويته وشخصيته، وأنه هل هو الله تعالى والرسول، أو هو غيرهما مما لا حجية لأقوالهم، ومجرد الحكاية لا يوجب اعتبار مقالتهم، فإذا قيل لهم: آمنوا، ليس إلا نقل حكاية الأمر الإرشادي، وقد فرغنا عن تعيين أن القائل كان منهم، ولو كانت القضية فرضية، فلا إطلاق لها، لعدم كونها في مقام بيان أزيد من توغلهم في النفاق والكفر، وانغمارهم في العناد والفساد، ورفضهم للحق وطردهم للإسلام والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يستفاد من هذه الآيات شئ مما ذكر، ولأجل ذلك انحذف المؤمن به في الآية، لعدم النظر إليه في الحكاية، والتمسك بالإطلاق المزبور كالتمسك بعموم الحذف، فيكون المأمور به مجرد الإيمان بأي شئ كان، فكما أن الثاني باطل بالضرورة، فالأول أيضا مثله، فلا تخلط.

الفرع الرابع: حول حرمة مسلك التأويليين يمكن أن يستدل بهذه الكريمة الشريفة على بطلان طريقة التأويليين الذين أخذوا في الإسلام سبيل التأويل، وبنوا على إرجاع ظواهر الآيات البينات إلى بواطن ظنوها، وإلى اللب الذي توهموه، وهؤلاء شرذمة من المتعمقين الذين يجدون أنفسهم في الأفق الأعلى، ويحسبون أنفسهم في الأعلين، ويظنون أنهم من القاطنين في الملأ الأرقى والسرادقات العلى، كلا إنهم في غمرتهم يعمهون، وفي جهلهم منغمرون، غافلين عن أحكام الشهادة، خالطين بين العوالم وقيودها، جاهلين بحقيقة الأمر، واختلاف مراتب العوالم الكلية، كاختلاف نشأت الإنسان الصغير.

وإذا قيل لهؤلاء الثلة ولتلك الطائفة من أهل الباطل: آمنوا كما آمن الناس، وكما آمن عموم البشر عوام عاميا كان أو خواص خاصيا ولا تتخذوا سبيل الغي، فتفرق بكم، ولا تميلوا إلى التأويل بحمل الأوامر والنواهي إلى الجهات العقلية والذوقية، ولا تكونوا من المفرطين. قالوا: أنؤمن كما آمن الناس. كلا فإنهم الأرذلون والأضلون أعمالا، ويسلكون طريق الغي والغواية وسبيل الضلالة، وينهمكون في الدنيا وظواهرها ولا يطلعون على الحقائق والرقائق ولا يدركون الدقائق والأسرار، ولا يلمسون البواطن والخفيات. فيتوجه إليهم حين ما يترنمون بهذه الأصوات المضلة الشيطانية: (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون)، فالآية لا تختص بجماعة المفرطين فقط، وهم المنافقون، بل تشمل هؤلاء المفرطين، فيكون هذا السبيل - أيضا - ممنوعا في الشريعة وباطلا، ومن السفاهة عند الله تبارك وتعالى. أقول: ما مر عين الحق وحق الصدق إلا أن مجرد إمكان تطبيق الآية الشريفة عليهم، لا يشهد على أن الآية تدل - حسب الدلالة العرفية - على حرمة مسلكهم ومرامهم، كما لا يخفى. والله العالم بالأسرار والخفيات.


1- راجع تحريرات في الأصول 2: 148 وما بعدها.

2- راجع جواهر الكلام 6: 293 - 298 و 41: 605 - 609.