اللغة والصرف ومسائلهما

الآية الثالثة عشرة من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾

اعلم أن البحوث اللغوية والصرفية، بل وبعض المباحث الراجعة إلى رسم الخط من هذه الآية الكريمة الشريفة، قد مضت خلال الآيات السابقة، ولا نعيدها، وقد مضى شطر من الكلام حول الكاف في ذيل قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) وفي ابتداء سورة البقرة مما يرجع إليه، إذا كان في أخريات حروف الإشارة والضمائر والأفعال.

المسألة الأولى: حول كلمة " كما " تأتي الكاف الواقعة على صدر الأسماء جارة، ولها معان عندهم: أشهرها التشبيه، وتأتي تعليلا، نحو (واذكروه كما هداكم) (1)، وتأتي توكيدا، وهي زائدة، نحو (ليس كمثله شئ) (2)، وغير ذلك، كالاستعلاء ذكره الأخفش والكوفيون نحو " كخير " في جواب قولهم: " كيف أصبحت؟"، فإنه بمعنى " على خير " (3)، والمبادرة وذلك إذا اتصلت ب? " ما " في نحو " سلم كما تدخل "، و " صل كما يدخل الوقت " (4)، وقيل: هو غريب جدا. وقيل: إنها ربما تأتي اسما، وتكون مرجع ضمير، نحو (كهيئة الطير فأنفخ فيه) (5)، ويدخلها حرف الجر نحو يضحكن عن كالبرد المنهم (6) والذي يظهر لي: أن الكاف في الكل حرف تشبيه، وتفصيله في ذيل الآيات الآتية.

وأما في قولهم: " صل كما يدخل الوقت "، فهو ليس مركبا من الكاف و " ما "، بل هي كلمة بسيطة تستعمل بمعنى واحد يشبه " حين " و " إذا " الفجائية، وتفيد المبادرة للقرينة، كما لا يخفى. وأما توهم وقوعها زائدة فهو ساقط مطلقا في جميع الألسنة، فضلا عن هذا اللسان الشريف العجيب المعجون بالقواعد والكليات. نعم ربما تفيد هنا نفي المماثلة عنه تعالى بالأولوية القطعية، أو تفيد التأكيد، أو بعض الأمور الأخر التي تأتي في ذيلها - إن شاء الله تعالى -. وبناء على ما أبدعناه يظهر: أن لفظة " كما " في أمثال هذه الآيات، ليست أيضا مركبة من حرف التشبيه ولفظة " ما " حتى يقع الكلام فيها، بل هي أيضا كلمة وحدانية مثل لفظة " الذي "، فإنها في المعنى تغاير سائر الموصولات، لما فيها نوع إشارة، وإن كانت عند بعض النحاة أيضا مركبة، خلافا للتحقيق، فكلمة " كما " تفيد التشبيه المقرون مع نوع عهد مذكور مثلا، ولأجل ذلك لا ينوب منابة لفظة " مثل "، ولا تفيد معناه، وفي الفارسية يقال بدل " كما ": " همچنانكه "، فليتدبر جيدا.

المسألة الثانية: حول كلمة " السفهاء " سفه يسفه سفها، كان ذا سفه، والسفه - محركة -: خفة الحلم، أو نقيضه، أو الجهل، وأصله الخفة والحركة والاضطراب، وقال المبرد وثعلب: سفه - بالكسر - متعد، وبالضم لازم (7). وسفه - بالضم - سفاهة: جهل. فعلى هذا هي بحسب لغة العرب من معاني الأجسام، يقال: سفه ثوبه، إذا كان ردئ النسيج، أو كان باليا رقيقا، وتسفهت الريح الشجر: مالت به. قال ذو الرمة: مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم (8) ويقال: تسفهت الشئ: استحقرته (9)، وفي " المفردات ": السفه خفة في البدن، ومنه قيل: زمام سفيه كثير الاضطراب، واستعمل في خفة النفس ونقصان العقل، وفي الأمور الدنيوية والأخروية (10).

ولأحد أن يقول: الخلط بين مكسور العين ومضمومها حداه إلى ذلك، فلو صرح في اللغة بذلك فلا وجه لأن يكون الأصل أحدهما العيني دون الآخر، فكل بمعنى: أحدهما يرجع إلى أوصاف الأجسام، والآخر إلى نعوت النفوس والأرواح، ويعد من الجهل. ثم إن اختلاف المواد مذكور في كتب اللغات، بخلاف الهيئات فكون " السفهاء " جمع " السفيه " قطعي، أما أنه جمع " السفيه " من " سفه " بالكسر أو بالضم، فهو محتاج إلى التأمل والتدبر في القرائن الكلامية، وقد غفل عن ذلك جل من لاحظناهم فراجع. هذا، ولا سيما مع الاختلاف الشديد المحكي عنهم في المقام، فعن ابن كيسان: أنه في الناس خفة الحلم، وعن مورج: أنه البهت والكذب والتعمد خلاف ما يعلم، وعن قطرب: أنه الظلم والجهل (11).

والذي يظهر لي بعد مراجعة اللغة وموارد استعمالها: هو أن السفه والسفاهة مصدران من بابين، ولكن الكل بمعنى واحد، وهو المعنى المقابل للعلم، إلا أن العلم تارة يطلق على أصل الصورة الكاشفة عن الواقعيات، وأخرى يطلق على كمال هذه الصورة، وهكذا السفه والسفاهة، والجهل والجهالة، فإن الكل بحسب اللغة بمعنى واحد في الأصل، ولكن تعارف إطلاق الجهل على حالة فقد الصورة العلمية، والجهالة على حالة فقد الصورة الكاملة من الصور العلمية، وأما السفة والسفاهة فهما يطلقان حسب التعارف على حالة فقد الصورة الكاملة من الصور العلمية، فلا يقال للجاهل المركب: سفيه، مع أنه جاهل بحسب أصل اللغة، وسفيه أيضا بحسبه. وبذلك يمكن الجمع بين تشتت كلمات اللغويين، ولا سيما " الأقرب " النحرير في الفن. ومن هنا يظهر: أن " سفه " بالفتح أيضا وإن جاء بمعنى النسيان يقال: سفه نصيبه، أي نسيه، ولكنه أيضا خلاف العلم بصورته الكاملة. وهذه اللغة مما يكثر الابتلاء بها في الفقه لما يترتب عليها من الآثار والأحكام الإلهية، فاغتنم.

ثم إن هذه المادة لا تأتي متعدية، إلا إذا أريد من المتعدي نسبة الغير إلى السفه والسفاهة، أو أريد منه إيجاد السفه في نفسه، فإذا قيل: زيد لسفه نفسه، فالمقصود أنه خلق في نفسه السفاهة مجازا وادعاء. وأما هيئة " فعلاء " فهي - على ما في كتبهم - جمع فعيل بمعنى الفاعل، نحو كرماء وعلماء جمع كريم وعليم (12). فربما يجمع فعيل على أوزان اخر محررة في محله. وأما فعلاء فهي كما تأتي جمع فعيل، تأتي جمع فاعل، كجهلاء جمع جاهل، وما أفادوه: من أنها جمع فعيل بمعنى فاعل في غير محله، لأن الشريف والكريم ليسا كذلك، بخلاف النصير والعليم، فلا تخلط.

المسألة الثالثة: حول " العلم " لا حاجة إلى شرح مادة العلم لوضوحها، وأما حقيقتها فهي من المصائب والشدائد، ويأتي - إن شاء الله تعالى - ما يتعلق بها في ذيل الآيات الأخر الأنسب، ويذكر بحوثها الكلية في طي المباحث الآتية بعونه وقدرته.


1- البقرة (2): 198.

2- الشورى (42): 11.

3- انظر مغني اللبيب: 91.

4- راجع مغني اللبيب: 92.

5- آل عمران (3): 43.

6- مغني اللبيب: 93.

7- أقرب الموارد 1: 523.

8- الصحاح 4: 2234، أساس البلاغة: 213.

9- الجامع لأحكام القرآن 1: 206.

10- المفردات في غريب القرآن: 234.

11- راجع البحر المحيط 1: 62.

12- البحر المحيط 1: 62.