التفسير والتأويل على اختلاف المسالك ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (وإذا قيل) لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير: (لا تفسدوا في الأرض) بإظهار نكث البيعة لعباد الله المستضعفين، فتشوشون عليهم دينهم، وتحيرونهم في دينهم ومذاهبهم، (قالوا إنما نحن مصلحون)، لأنا لا نعتقد دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال الله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون) بما يفعلون من أمور أنفسهم (1). انتهى ما عن " تفسير الإمام (عليه السلام) ". ويؤيد ذلك: ما أخرجه الطبري بأسناد مختلفة عن سلمان الفارسي (رحمه الله) أنه كان يقول: " لم يجئ هؤلاء بعد "، وفي تعبير آخر: " ما جاء هؤلاء بعد " (2) وفيه إشارة إلى أعمية هذه الآيات، وإلى أن الجائين أولى وأحق بشمولها لهم من السابقين والموجودين حين النزول، فيكون نفيه (عليه السلام) بناء على صحة الرواية من قبيل " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " (3).

وعلى مسلك أصحاب الحديث: و (إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) قالوا: هم المنافقون، وعن ابن أنس، عن أبي العالية: يعني لا تعصوا في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة (4)، وعن مجاهد: إذا ركبوا معصية الله يقال لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنما نحن على الهدى مصلحون (5). وعن ابن عباس: أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب، ويقول: ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، (ولكن) من جهلهم (لا يشعرون) بكونه فسادا (6). وعلى مسلك المفسرين (وإذا قيل لهم) بقول من الله تعالى أو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم أو بعض المؤمنين أو بعض منهم: (لا تفسدوا في الأرض) بأي نحو كان، وبأي سبب يمكن، من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار، وإغرائهم بالمؤمنين، وزجرهم وتنفيرهم عن اتباع الإسلام إلى غير ذلك من فنون الشر وصنوف الفتن، (قالوا إنما نحن مصلحون)، فلا شأن لنا إلا ذلك، فما نحن والفساد، فإنا برآء وبعيدون عنه، (ألا إنهم هم المفسدون) وهم وحدهم يفسدون، دون من أومؤووا إليهم، لأن لهم سلفا صالحا تركوا الاقتداء بهم، (ولكن لا يشعرون) بهذا الإفساد، أو بالعذاب الذي ينتظرهم، أو بمصالح أمورهم، أو (لا يشعرون)، ولا يكونون من ذوي الإحساس، فينخرطون في مسلك الحيوانات، أو هم أسوأ حالا منهم، فيلحقون بالمجانين. وقريب منه: (وإذا قيل لهم) على حسب الفرض واقتضاء عادتهم وطبيعتهم: (لا تفسدوا في الأرض)، لما أنهم يفسدون فيها وبانون عليه، وإن لم يكونوا مشتغلين بالفساد حين النهي والنزول، فيجيبون حسب الديدن والاغتراس الذهني: (إنما نحن) من المصلحين الكبار في الأنفس والآفاق، زاعمين أن أحدا لا يدري بذلك، فيدعون ما لا أساس له ولا بنيان له، غافلين عن الوحي والتنزيل المنادي بأعلى صوته: (ألا إنهم هم المفسدون). وقريب منه: (وإذا قيل لهم) في الأرض لا تكونوا مفسدين، قالوا: كذا وكذا. وقريب منه: (وإذا قيل لهم) يحرم عليكم الإفساد في الأرض، وأنتم مكلفون بذلك، كسائر الناس، فلم ينكروا تكليفهم، ولكن أنكروا أن يكونوا مفسدين، فادعوا إصلاحهم، ففضحهم الله فضاحة اطلع عليها الصغير والكبير إلى يوم القيامة. وقريب منه: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض)، وتذكرنا المنافقين المدنيين بذلك نوع تذكار، قالوا غير معتقدين بمقالتهم: (إنما نحن مصلحون)، فكذبوا فيها، و (لا يشعرون) بأن الوحي يعلن كذبهم، ويخبرهم بأنهم هم المفسدون. وقريب منه: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض)، توجهوا إلى أن ما يصنعون لو كان فسادا، فأهل الإسلام أولى بالفساد، وذلك لأنهم كانوا ينفذون قوانين التوراة الإلهية، وكانوا يصلحون باتباع الأحبار والأنبياء، فداروا مع أهل الإسلام، فلم ينسبهم إلى الكذب والافتراء، ولا إلى الإفساد، لما كان في أنفسهم منهم الخوف والدهشة فدافعوا عن أنفسهم فقط، فقالوا: (إنما نحن مصلحون)، أو قالوا: (إنما نحن مصلحون) نظرا إلى تركيز المسلمين إلى كيفية الأدب، وكان في ذلك خداعهم العجيب، فإن التليين في الكلام، وتوجيه الأنام إلى المقصود والمرام، دأب هؤلاء الأراذل والأنعام، لما لا جلب لهم إلا به ولا مصيد ينفعهم إلا صيد المجاملة والرياء والخدعة والإصغاء. وقريب منه: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) ولا تديموا إفسادكم فيها، وامتنعوا عنه، وكفاكم ما صنعتم فيها من الإخلال والإبطال، (قالوا إنما نحن مصلحون) فقط وكل ذلك صلاح وأنتم المفسدون وما صنعتم هو الفساد والعناد، فجاء من الغيب خبر وإيحاء معلنا ومناديا: (ألا إنهم هم المفسدون) فقط، و (لا يشعرون) أنكم المصلحون فقط، دون غيركم.

وعلى بعض مشارب اخر: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا) في العالم الصغير بالخروج عن طاعة العقل والإمام، فإنه يوجب الإفساد في العالم الكبير، كما يوجب الإفساد الكبير، وهو الاستهزاء بالإمام وقتله (7)، فلا يجوز الإفساد في الجهة السفلية - التي هي النفوس وما يتعلق بها من المصالح - بتكدير النفوس وتحريكها نحو الشقاوة والظلمة، وإخراجها من الفطرة المخمورة إلى الطبيعة المحجوبة، والطينة المخلدة إلى الأرض، باتباع الشهوات وشياطين الأوهام والخيالات. قالوا بلسان الحال بل والمقال: (إنما نحن مصلحون) في الأراضي البدنية والصياصي الإنسانية، ونعمرها في الحكومة الدنيوية، ونهيؤها للذات الحسية والكيفيات الحيوانية، ففي هذا التشاح والنزاع تدخل الغيب تدخلا، ونظر إليه نظرا ونادى نداء عاليا: (ألا إنهم هم المفسدون) حقيقة وواقعا، يهيؤون الأبدان للنيران، يوم تبدل الأرض غير الأرض، و (لا يشعرون) بعواقب الأمور ونهاية الحركات، وتبعات هذه الخسائس من اللذات والرذائل من الكيفيات، فيظنون ظنا إلا أن بعض الظن إثم، ولكنهم (لا يشعرون) بشئ ولا يهتدون.


1- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 118.

2- تفسير الطبري 1: 125.

3- راجع دعائم الإسلام 1: 148، ووسائل الشيعة 3: 478، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، الباب 2، الحديث 1، وبحار الأنوار 80: 379 / 47.

4- راجع تفسير ابن كثير 1: 87.

5- راجع تفسير الطبري 1: 126.

6- راجع تفسير ابن كثير 1: 88.

7- انظر تفسير بيان السعادة 1: 58.