بعض المسائل الكلامية والبحوث الأصولية

المسألة الأولى: حول تكليف الجاهل قد تحرر في محله: امتناع تكليف الجاهلين، ولا سيما المركبين منهم. ويستظهر من هذه الآية جوازه على رغم المعتزلة (1)، وذلك لأن المنافقين كانوا يعتقدون أنهم مصلحون، فكانوا من الجاهلين بالجهل المركب، ومع ذلك كلفوا بعدم الإفساد في الأرض، وبترك ما يرون إصلاحا فيها، وهذا مما لا يعقل، لامتناع ترشح الإرادة الجدية من المكلف والمقنن الآمر والناهي. وبعبارة أخرى: تارة يقول الناهي: اترك شرب ما في الإناء، وأخرى يقول: لا تشرب الخمر، مريدا به ترك شرب ما في الاناء، مع علمه بأن المأمور يعتقد أن ما في الإناء ماء، فإن المأمور لا ينزجر عن نهيه الذي تعلق بترك شرب الخمر، فإذا كان المأمور لا ينزجر عن نهيه، فكيف يتمكن الناهي من إرادة النهي حقيقة، ويتمكن من التكليف مع جهل المكلف بالمكلف به. ولأجل ذلك ربما يستدل بها من لا يعتبر العلم بالتكليف في التكليف وصحته. أقول: قد عرفت منا: أن من ينهاهم عن الإفساد هو من الطائفة المنافقين، وعندئذ يمكن أن يكون الناهي حين النهي جاهلا بما يعتقدون من إصلاحهم في الأرض، فلا منع من النهي الحقيقي حينئذ. وربما يمكن الالتزام بذلك بالنسبة إلى بعض المؤمنين أيضا والرسول الأعظم، بناء على تجويز ذلك في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم)، خلافا للتحقيق المقرر في محله. هذا أولا. وثانيا: ربما كانت الطائفة الأولى الذين نهوا عن الإفساد في الأرض أكثر عددا من الذين قالوا: (إنما نحن مصلحون)، فإنهم شرذمة قليلون، وعندئذ يجوز الخطاب الكلي القانوني، ويتمكن المقنن من ترشيح الإرادة الجدية، لأن الجاهل المركب من بينهم قال كذا. وثالثا: ليس النهي هنا إلا إرشادا إلى فساد ما كانوا يصنعون، ولا يكون من النهي التكليفي. ورابعا: قد مضى احتمال كونهم كاذبين في دعواهم، ومدعين الصلاح على خلاف معتقدهم أيضا، فما كانوا جاهلين، بل كانوا هم المفسدين في قولهم وفعلهم، ولكن لا يشعرون بفضيحتهم على رؤوس الأشهاد وأعين الناس. وخامسا: عند احتمال التفاتهم بعد ذلك إلى إفسادهم يجوز التكليف من الأول، ولا يشترط أزيد من ذلك في إمكان تحقق التكليف حقيقة، كما تحرر في أصولنا الكلية.

المسألة الثانية: حول تكليف الكفار بالفروع ربما تدل هذه الكريمة على أن الكفار مكلفون بالفروع، كما هم مكلفون بالأصول، خلافا لطائفة من الأخباريين (2) وجماعة من الأصوليين (3)، ووفاقا للأكثر، وذلك لأن النهي عن الإفساد ظاهر في النهي التكليفي. هذا، مع أن جماعة من المفسرين الأولين والأقدمين - كابن عباس وأمثاله - ذكروا: أن المراد من الإفساد هو الإتيان بالمعاصي وترك الواجبات وعدم الاجتناب عن المحرمات الإلهية، كما مضى تفصيله في البحوث البلاغية. أقول: نعم، لو كان القائل هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو الله تعالى، وقد منعنا ذلك، ويكفي لسقوط الاستدلال جريان الاحتمال. ثم أيضا ذكرنا: أن الهيئة الناهية إرشادية، وليست من النواهي النفسية التكليفية، فإن ما هو المحرم هو العناوين المترتب عليها الفساد، لا عنوانه، كما لا يخفى. وقد ذكرنا: أنها لو كانت تحريمية يلزم شبهة على الآية وإن كانت قابلة للدفع، كما عرفت آنفا.

المسألة الثالثة: حول مناط الصدق والكذب لو كان مناط الصدق والكذب نفس الاعتقاد، فما كانوا هم المفسدين، بل هم المصلحون، كما قالوه، فمن هذه الكريمة الشريفة يستكشف أن مناطهما الواقع، فإذا كانوا هم بحسب الواقع مفسدين فلا منع من نسبة الإفساد إليهم. نعم هم ربما يكونون معذورين في إفسادهم لما أنهم لا يشعرون، وربما لا يعد ذلك عذرا، كما تحرر في بحوث البلاغة، فافهم واغتنم. وفيه: أن نسبة الإفساد إليهم ربما كانت لأجل اعتقاد الناسب إفسادهم، وأنهم يفسدون في الأرض، فلا تدل الآية على المسألة المزبورة. نعم اعتقاد ناسبهم إلى الإفساد مطابق للواقع قطعا، ولكن هذا لا يدل على أن مناط الصدق والكذب هي المطابقة له، بل ربما كان لأجل نفس العلم والاعتقاد، فلا تخلط.


1- انظر روح المعاني 1: 143.

2- راجع الفوائد المدنية: 226، والوافي، فيض الكاشاني 1: 20، والحدائق الناضرة 3: 39 - 44.

3- لاحظ حول هذه المسألة تفصيلا تحريرات في الأصول 5: 318 وما بعدها.