وجوه من البلاغة والمعاني

الوجه الأول: حول أن الآية استئناف هذه الآيات على نمط واحد ونسق فارد، والكل في موقف تحديد رذائل المنافقين، فيكون اللطف في العطف تارة وفي الاستئناف أخرى، ليكون أبلغ وأهنأ وأحسن في توجيه المؤمنين، وتحريك المنافقين إلى الانسلاك في زمرتهم والانخراط في جماعتهم، ولأجل هذا تكون الآية استئنافية، والخلاف فيه خروج عن الفهم المستقيم والعقل السليم. ويؤيد هذه الطريقة والأسلوب اختلاف الآيات في الحمل، فمن ابتداء أحوال المنافقين كانت الآيات قضايا إخبارية قطعية بتية، ومن هنا تغير الأسلوب إلى القضايا التعليقية والجمل الشرطية وما يضاهيها، من غير كونها عاطفة على جملة مذكورة فيها.

الوجه الثاني: حول إتيان " قيل " مجهولا في الإتيان بصيغة المجهول، إشارة أحيانا إلى أن القضية ليست إلا فرضية، وإيماء إلى سوء حالهم، وخاصة المنافقين، من غير لزوم وقوع هذه القضية خارجا، فما اختلفوا فيه اختلافا كثيرا - من البحث والفحص عن الفاعل القائل - من الغفلة والذهول، وقد تعرض الفخر وأتباعه لهذا الخلاف، فقال بعضهم: القائل هو الله تعالى، وقيل: هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: بعض المؤمنين، وربما يحتمل كونه بعض جماعة المنافقين، الغير المغرضين ولا الطامعين أو غير ذلك (1). ويمكن أن يقال: إن الخلاف المذكور في محله لأن الآية في حكم الإخبار عن الواقعة الخارجية، ويكون الفعل الماضي دالا على أن القول المزبور تحقق سابقا، كما أيدناه ببعض الجهات الأخر في إعراب الآية، إلا أن الأقرب - كما يأتي - كونها جملة شرطية، ويكون الفعل الماضي هنا منسلخا عن الماضوية، كما هو كذلك في كثير من القضايا الشرطية. ثم إنه على كل حال لا دليل على القائل الخاص ولا معين له، ومن الممكن أن يقال: بان الظاهر من هذه الآيات ومورد نزولها عدم اطلاع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين على أحوال المنافقين، فاطلعوا بعد النزول على نفاقهم، فكانت المقاولة والمجاوبة بين أنفسهم بعضهم مع بعض. والله العالم.

الوجه الثالث: حول النهي عن الإفساد في قوله تعالى: (لا تفسدوا في الأرض) - الذي هو حكاية عن نهيهم المنافقين عن الفساد في الأرض - إشعار بأن ما هو مورد النهي نفس طبيعة الإفساد في الأرض، ولا وجه لصرفه إلى الفساد الخاص والمقصد المعين، وكون إفساد المنافقين بفساد خاص لا يوجب تخصيص النهي به، فإن في كل مورد يشتغل الطفل بخلاف، ويتوجه إليه النهي عن الخلاف والفساد، لا يكون دائرة النهي مضيقة بالضرورة حتى يجوز له الفساد بوجه آخر. ومن هنا يظهر: أن الخلاف المدون في الكتب التفسيرية بين أرباب التفسير في غير محله، ولا منع من الالتزام بصحة جميع ما أوردوه في المقام: فعن ابن عباس: أنه الكفر (2)، وعن أبي العالية: أنه المعاصي (3)، وبه قال مقاتل (4)، أو بهما قاله السدي (5)، أو بترك امتثال الأمر واجتناب النهي قاله مجاهد (6)، أو بالنقاق عن علي بن عبيد الله (7)، أو بإعراضهم عن الإيمان به (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن أو بتغير الملة قاله الضحاك (8)، أو باتباعهم هواهم وتركهم الحق مع وضوحه قاله بعضهم (9)، وعن الزمخشري هو تهييج الحروب والفتن، ثم أيد مقالته بآيات كثيرة (10) إلا أنها لا توجب التعيين والتفسير، بل توجب أنه من مصاديقه الواضحة. فهذا الخلاف كالخلاف السابق ساقط جدا، وربما كان حين النهي عن الفساد في الأرض خصوصية تدل على أن الناهي كان يقصد شيئا خاصا، ولكن الآية الشريفة لأجل عدم تعرضها إلا لهذا المقدار تشعر بأن المنهي أعم ولا خصوصية له. نعم بناء على كون الآية دالة على القصة الخارجية، ولم تكن فرضية، لا يمكن استفادة كون المنهي يشمل جميع هذه الأمور، كما لا يخفى.

الوجه الرابع: حول تقييد الفساد بالأرض في تقييد الفساد بالأرض نوع تحريك إلى أن هذه النشأة - التي تربيتم فيها وارتزقتم منها وولدتم فيها وكملتم عليها - لا يصلح ولا يليق أن تفسدوا فيها، ولا ينبغي ولا يحق ذلك، ويكون بعيدا عن الإنصاف والإنسانية. نعم ربما يمكن كونه قيدا للصيغة وللهيئة الناهية، أي أنهاكم في الأرض عن الإفساد، وأما في غير الأرض فلا يكون نهي عنه لجهة من الجهات، ومنها عدم تمكنهم من الإفساد فيه، فعند ذلك يسقط ما استدل به الزمخشري لتعيين المراد من الإفساد في الأرض (11). والأمر سهل.

الوجه الخامس: التأكيدات في (إنما نحن مصلحون) في قوله تعالى: (إنما نحن مصلحون) تأكيدات بكلمة " إنما " أولا، وبالجملة الاسمية ثانيا، وبتقديم الضمير ثالثا، وفيه أيضا صنعة الطباق لما يكون بين الصلاح والفساد من التضاد، ولو دلت كلمة " إنما " على الحصر فيكون الأمر أشنع وكذبهم أظهر وأبرز، وفي ذلك إصرار منهم على كتمان مقصودهم، من التخريب والنفاق وإيجاد الخلل والاختلاف وقوة بنائهم وإرادتهم لهدم أساس الإسلام وبنيان الإيمان. فلما كان الأمر كذلك نادى بأعلى صوته وأعلن إعلانا عاما، وأعلم بالأحرف الاستفتاحية: (ألا إنهم هم المفسدون)، وأكد كلامه بالجملة الاسمية، وب? " إن " التأكيدية، وبإتيان ضمير الفصل والعماد، مضافا إلى تعريف المسند الذي قالوا: إنه دليل الحصر. فانظروا يا أيها البلغاء إلى كيفية المقارنة بين الجملتين اللتين إحداهما من المنافقين، والأخرى من رب المنافقين، وأنهم كيف كتموا مرامهم بأستار العبائر، وهو تعالى كيف كشف عن وجوههم الخبيثة بكواشف الكلام على الوجه التام والسبيل الأكمل والطريقة الأتم في أخصر عبارة.

الوجه السادس: حول متعلق الإصلاح ولا يظهر من الآية الشريفة خصوص مرادهم من الإصلاح، كما لا يمكن تعيين مقصودهم من الفساد، وقد عرفت أن إهمال الشريفة هذا الأمر، ربما يدل على أنه ليس أمرا خاصا، بل هم يتشبثون بمطلق الإفساد، ويرون ذلك من الإصلاح حسب أغراضهم. فالخلاف في ذلك أيضا في غير محله وإن حكي عن ابن عباس: أن ممالأتنا الكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. والثاني: قول مجاهد: وهو أن هذه الممالأة صلاح وهداية، وليست بفساد. والثالث: أن ممالأة النفس والهوى صلاح وهدى. والقول الرابع: أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحا لهم، وليس كذلك. والقول الأخير: أنهم أنكروا أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه، من ممالأة الكفار (12) وغير ذلك، فعلى هذا تحمل الآية على المعنى الأعم أيضا.

الوجه السابع: حول صدق المنافقين وكذبهم يستظهر من قوله تعالى: (ولكن لا يشعرون) أن قولهم: (إنما نحن مصلحون) قول صادق بحسب العقيدة وأنهم كانوا يرون الإصلاح فيما اختاروه وصنعوه بالمسلمين، وهو إما المداراة مع الكفار، أو القيام لتطهير الأرض عن الفساد، المنتهي إلى زوال دينهم وانهدام مذهبهم. وعندئذ يشكل الأمر، وهو الذم على ما لا يستحقونه، والآية الشريفة كأنها في موقف توبيخهم وذمهم على ما يصنعون، مع أنه لا يجوز الذم على ما لا يعلمون.

ولأجل ذلك ينقدح ويظهر: أنهم كانوا كاذبين في قولهم: (إنما نحن مصلحون)، والمقصود من عدم شعورهم عدم اطلاعهم على اتضاح فساد رأيهم، وأنه سيظهر كذبهم بين الناس من قبل الله تعالى. ولكن الإنصاف خلافه، وأنهم ربما كانوا على طريقتهم واعتقادهم في تحكيم مباني دينهم، ولكن ما كانوا يحسون ولا كانوا ذوي إحساس وشعور بأن في كل وعاء لابد من قانون ودين ينحفظ به النواميس البشرية والإلهية وما كانوا يدركون عواقب القضايا ونهايات الحركات والأمور حتى ينصرفوا من تلك الطريقة إلى الديانة الإسلامية. وهذا ذم في محل يستحقونه، ضرورة أن الأفهام القاصرة غير البالغة إلى كنه الحقائق والمصالح والمفاسد لابد لهم من الرجوع إلى غيرهم حتى يعرفوا ويتبين لهم الحق من بعد ما ضلوا. فالمصلح الحقيقي ربما يشعر بلزوم هذا التوبيخ البليغ، لما فيه الخير الكثير أحيانا، وهو تفطنهم إلى ما يصنعون ويفسدون في الأرض، نظرا إلى تمشية أمور الإسلام والحق، ولا يلاحظ في هذه الظروف تلك الشؤون الجزئية، لما في لحاظها الشر الكثير احتمالا، لإمكان وصولهم إلى مرامهم الفاسد، فيصدون عن سبيل الله صدودا.

الوجه الثامن: حول متعلق (لا يشعرون) اختلفوا في محذوف قوله تعالى: (ولكن لا يشعرون)، وأنه هل هو عدم الإصلاح، أو أنهم مفسدون، أم أنهم معذبون، أو أنهم ينزل بهم الموت، أو أنهم لا يشعرون أنهم يكذبون في قولهم: (إنما نحن مصلحون)، فإن من الناس من لا يدري أنه يكذب أو يصدق، لقلة شعوره أو لا يشعرون بمصالح أمورهم (13). والذي هو الأظهر ما عرفت منا وهو: أن الشعور فعل لازم لا يتعدى حتى يحتاج إلى المفعول به، فيسقط أقوالهم ونزاعهم، وفي ذلك نهاية حسن الانتخاب في اللغة، لما فيه من إفادة التحاقهم بالحيوانات، (بل هم أضل) (14) و (إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا) (15). وبالجملة: ولو كان متعديا فالحذف لإفادة الأعم، كما هو العادة والديدن.

الوجه التاسع: حول الاستدراك في الآية اتفقت كلماتهم في أن " ولكن " هنا للاستدراك، وربما يختلج بالبال أن يقال: إن الاستدراك يكون في موضع كان الكلام السابق ينبغي شموله، أو كان يعلم من حال المتكلم ذلك، وهذا هنا غير جائز، مثلا: إذا قيل: " جاء القوم ولكن زيد "، فإنه في محل الاستدراك، وهكذا إذا قيل: " جاء زيد ولكن عمرو "، وإن اختلفوا في الأخير على أربعة أقوال مقررة في النحو (16). فعلى كل حال إذا قيل: ألا إنهم هم المفسدون ولكن النصارى، أو قيل: ولكن طائفة منهم، فهو من الاستدراك، وأما قوله تعالى: (ولكن لا يشعرون)، فهو ليس في موقف الاستدراك حتى يفيد الحصر، على ما تحرر في البلاغة: أن من موجبات الحصر كلمة الاستدراك، خلافا لما تقرر في الأصول (17). اللهم إلا أن يقال: إن الاستدراك المذكور هنا إشعار بأن المفسدين منحصرون فيهم في ذلك العصر، ولو كان يمكن التدارك لتدارك ذلك، فهو دليل على العموم، كما إذا قيل: جاءني القوم ولكن حمارهم ما جاء، فإنه ليس من التدارك الصحيح، ولكنه يفيد عموم الحكم، كما في الاستثناء المنقطع. والله العالم بحقائق الأمور.


1- راجع التفسير الكبير 2: 66، وروح المعاني 1: 142.

2- راجع تفسير الطبري 1: 125، والبحر المحيط 1: 64.

3- راجع تفسير ابن كثير 1: 87، والبحر المحيط 1: 64.

4- راجع البحر المحيط 1: 64.

5- راجع تفسير الطبري 1: 125، والبحر المحيط 1: 64.

6- راجع تفسير الطبري 1: 126، والبحر المحيط 1: 64.

7- راجع البحر المحيط 1: 64.

8- مجمع البيان 1: 49، البحر المحيط 1: 64 - 65.

9- راجع البحر المحيط 1: 65.

10- راجع الكشاف 1: 62.

11- الكشاف 1: 62.

12- راجع البحر المحيط 1: 65 / السطر 24.

13- راجع البحر المحيط 1: 66.

14- الأعراف (7): 179.

15- الفرقان (25): 44.

16- راجع مغني اللبيب: 152.

17- راجع تحريرات في الأصول 5: 188.