اللغة والصرف ومسائلهما

الآية الحادية عشرة والثانية عشرة من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾

المسألة الأولى: حول كلمة " إذا " وملخص ما يمكن أن يقال فيه: أنه تأتي على وجهين: أحدهما: المفاجأة فتختص بالجملة الاسمية، فليست شرطية، ولا تقع - حينئذ - في الابتداء، ومعناها الحال كما في كتب اللغة والأدب (1)، ولكنه بمعزل عن التحقيق، بل معناها المفاجأة، وهي أخص من الحال وتتضمن جهلا وغفلة بل وخوفا ودهشة، كقولهم خرجت فإذا الأسد بالباب، أو أسد بالباب، وقوله تعالى: (فألقاها فإذا هي حية تسعى) (2). وأما قول ابن الحاجب: ومعنى المفاجأة حضور الشئ معك في وصف من أوصافك الفعلية، تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فمعناه حضور الأسد معك في زمن وصفك بالخروج، أو في مكان خروجك، وحضوره معك في مكان خروجك ألصق بك من حضوره في خروجك، لأن ذلك المكان يخصك دون ذلك الزمان، وكلما كان ألصق كانت المفاجأة فيه أقوى (3). فهو مما يضحك عليه، وقد نقلناه بتفصيله حتى يجد المحققون موقف شعوره وحدود معارفه، وأنت خبير بما فيه من الأخباط والأغلاط. فبالجملة: هي للمفاجأة، وهي لا تتحقق إلا حال القرب المكاني، من غير دخالة هذه الأمور في الموضوع له، لجواز استعمال المفاجأة في المفارقات. ثم إنهم اختلفوا في " إذا " هذه، فقال الأخفش: إنها حرف (4)، وهو مختار ابن مالك (5)، وعن المبرد: ظرف مكان، وهي صفوة ابن عصفور (6)، وقال الزجاج: إنها ظرف زمان، وهو اختيار الزمخشري، حتى قال: إن عاملها مشتق من كلمة " المفاجأة "، فيكون تأويل قوله تعالى: (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون) (7) فاجأتم الخروج في ذلك الوقت (8). وهذا نظير قولهم: إن العامل في قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة) (9) هي الإشارة المستفادة من لفظة " هذه "، فما قاله ابن هشام: من أن ذلك لا يوجد لغير " إذا " (10) في غير محله، وحكي عنه أنه قال: ولم يقع الخبر معها في التنزيل إلا مصرحا به (11). وأما قول العرب: " وكنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هوهي "، فتعين فيه الرفع عند سيبويه، ويجوز الرفع والنصب عند الكسائي، فيقول: فإذا هو إياها، فإنه لو ثبت فهو خارج عن ديدن القواعد وديدان الفصحاء (12). ثانيهما: أن تكون لغير المفاجأة، فالأكثر استعمالا أن تكون ظرف المستقبل، تتضمن معنى الشرط، ومختصة بالدخول على الجمل الفعلية، وتحتاج إلى الجواب، ولابد أن تقع في الابتداء، والفعل الذي بعدها: إما ظاهر، نحو (إذا جاء نصر الله)، أو مقدر، نحو (إذا السماء انشقت). ثم إنها قد تخرج عن الظرفية، قاله الأخفش، وعليه حمل قوله تعالى: (حتى إذا جاؤوها) (13)، وربما تخرج عن الاستقبال، فترد للحال، نحو (والليل إذا يغشى) أو للماضي، نحو (إذا رأوا تجارة أو لهوا). وفي الكل نظر واضح. وربما تخرج عن الشرطية، نحو (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) (14)، ولا يخفى ما فيه، فإن من عدم الدقة في الأمثال اختلفت كلمات النحاة، وتوهموا المعاني الكثيرة لكلمة واحدة، مع أنها ترجع إلى معنى واحد. ولا يخفى أن " إذا " تختص بدخولها على المعلوم المفروض وجوده في المستقبل، أو ما يحذو حذوه. وأما قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة فرحوا بها) (15) فقد توهم: أنها استعملت في غير محلها، وأجابوا عنه بأجوبة (16).

والذي هو الحق: أن مس الضر مما هو المتيقن بالنسبة إلى العام المجموعي، وهو الناس، أو بالنسبة إلى الموضوع المهمل، فإنه ليس الغرض إصابة الضر لكل أحد حتى يكون مشكوكا فما تخيله السكاكي وغيره (17) في غير محله. ومن هنا يظهر حل مشكلة سائر الآيات في المقام. وغير خفي أيضا: أن " إذا " لا تفيد العموم الأزماني، فما ظنه ابن عصفور (18) من ظن السوء، ويكذبه التبادر والعرف. ثم إنه قيل: قد تأتي زائدة وخرج عليه (إذا السماء انشقت) لأنها نحو (اقتربت الساعة) (19) وهو خال عن التحصيل لأنها نحو (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان) أو هي في موضع المفاجأة كما لا يخفى.

المسألة الثانية: حول كلمة " فساد " " الفساد " مصدر فسد يفسد ويفسد، وقيل: مصدر يفسد، وفسودا مصدر الأول، ضد صلح، وهو فاسد وفسيد، جمعه فسدى، فسده وأفسده: ضد أصلحه، والفساد - بالفتح - مورد خلاف، فقيل: معناه بطل واضمحل، ويكون بمعنى تغير، وعن مسلم البطين: الفساد أخذ المال ظلما، وهكذا في " القاموس " (20)، وفي كثير من اللغات (21)، وعن الزجاج: الفساد هو الجدب في البر والقحط في البحر، أي في المدن التي على الأنهار، ومن الأمور المشهور حرب الفساد (22). وفي الراغب: الفساد: خروج الشئ عن الاعتدال، قليلا كان الخروج أو كثيرا. يستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة (23). انتهى ما في كتب اللغة. الذي يظهر لي من التدبر في مواضع استعمالاته: أن الفساد من نعوت المجتمعات. وأما توصيف الأبدان والأرواح بها وإن صح، إلا أن في الأكثر يستعار لذلك. والأظهر أنه في اللغة بحسب الأصل معناه الفساد المادي الجزئي، سواء فيه الإنسان والحيوان والفواكه والأشجار والمياه وغيرها، ولكن كثر استعمالها في الاختلال النظامي والهرج والمرج، فإذا قيل بدوا: (لا تفسدوا في الأرض) لا يستفاد منه النهي عن الإفساد المزاجي أو الروحي. والأمر سهل.

المسألة الثالثة: حول صيغة النهي والماضي اختلفوا في معنى صيغة النهي على أقوال: طلب ترك الفعل، أو الكف عن الفعل، أو كونها موجبة لاشتغال الذمة بالترك، أو الكف. والكل باطل. وقيل: هو مثل صيغة الأمر، إلا أن صيغة الأمر للبعث نحو المادة والفعل، والنهي للزجر عنها، وتكونان قائمين مقام الإشارة الخارجية (24). والذي هو الحق: أن ما هو معناهما ليس أمرا خارجيا، حتى يستعملا فيه لما لا حقيقة له قبل الاستعمال، فليستا تدلان على شئ كدلالة الأسماء والأفعال والحروف، بل هما نائبان في الاعتبار عن الإشارة، لا موضوعتان لها. وتفصيله على وجه مبرهن في الأصول (25). اختلفوا في صيغة الماضي على أقوال أيضا، وقد مضى شطر من الكلام حوله في البحوث السابقة، وما اختلفوا فيه يسري إلى المجهول من الماضي، ومقتضى ما تحرر منا: دلالة الهيئة في الماضي على الاقتران بالزمان الخاص حسب التبادر وتصريح أهله، وهذا لا يستلزم كون هيئة الماضي موضوعة لذلك، بل هيئة الماضي - عند الإطلاق وعدم القرينة الوجودية - منصرفة إلى الاقتران المذكور، ومع قيام القرائن لا تقارن الزمان أحيانا، مثلا: فيما إذا وقعت تلو أداة الشرط، لا تدل على الزمان الماضي خصوصا، لإمكان كونها خلية عنه وغير مقترنة به، كما لا يخفى. وأما اختلافهم في كيفية هيئة المجهول من الفعل الثلاثي الذي انقلب عين فعله ألفا في الماضي إذا بني للمفعول، كقيل وقيس وغيض وغير ذلك (26)، فهو لا يرجع إلى محصل، بعد معلومية ذلك عند الكافة، فما حكي عن عقيل وقيس ومن جاورهم وعامة بني أسد من ضم الفاء " قيل "، وبهذه القراءة محكي عن الكسائي كما يأتي، أو حكي عن هذيل وبني الزبير من إخلاص ضم الفاء وسكون الوسط والعين الأصلية (27)، قول كله خال عن التحصيل.

المسألة الرابعة: حول كلمة " الأرض " " الأرض " الجرم المقابل للسماء. هكذا في " المفردات " (28)، والصحيح أنها الجرم المقابل للسماوي، كما لا يخفى. وفي " الأقرب ": كرة مظلمة مركبة من الجواهر المفردة، مؤنثة. جمعها أروض وآراض وأرضون، وأراض جمع واحد متروك، كليال جمع ليلات، وكل ما سفل فهو أرض (29). والأصح أنه ليس في معناها الظلام ولا التركيب المزبور، ولا يهمنا البحث عن حدود جمعه الخلافي جدا، ومذكور تفصيله في اللغة، ولا سيما " تاج العروس " وفي بعض الكتب النحوية والصرفية.

وبالجملة: الأرض معناها معلوم، وهي تقابل الشمس والقمر، وأما جمع الشمس بالشموس والقمر بالأقمار والأرض بالأرضين وغيرها، فهو إما يحكي عن اطلاع القدماء على أن هذه الكواكب ليست منحصرة بالواحدة، وهذه الكرات لا تنحصر بفرد، أو باعتبار قطعات منها، ولا سيما في الأرض، فإنها باعتبار القطعات تجمع بالضرورة، وهو ولو كان غلطا بحسب أصل اللغة، ولكنه صار صحيحا بعد كثرة الاستعمال، مع أن الأظهر أنها بحسب المعنى هي السفل والسافلة في قبال العلو والعالية، وأن العرب كانت تحس الكرات السماوية وتبصر بها، فوضعت بحذائها اللغات، بخلاف الأرض فلا تحس إلا جهة السفل، فوضعت حذائها هذه اللفظة، ثم أطلقت على الكرة، بعد القول بأن الأرض كرة من الكرات متحيرة في الفضاء كغيرها. فتلك اللفظة من الألفاظ الموضوعة للأحداث أولا، ولأجله يصح جمعها باعتبار الأسافل، ثم انتقلت إلى استعمالها في الجواهر والأعيان والأشخاص، ثم بعد ذلك أطلقت على الكل ومجموع هذه الكرة، وعندئذ لا بأس بأن تطلق الأرض ويراد منها أرض البدن وأرض الاجتماع وأرض الأرواح والأشباح وغير ذلك، لاجتماع الكل في جهة السفل والله ولي التوفيق.

وغير خفي: أنه بالرغم من كثرة استعمالها في الكتاب الإلهي البالغ عدده إلى (461) تقريبا، لم يستعمل فيه جمعا وفيه إشارة إلى أن الجمع المذكور والجموع المشار إليها كلها خارجة عن أدب العرب أو غريبة في أذهان العرب الخلص. ومما يؤيد ما ذكرناه في معنى الأرض: تقابل الأرض والسماء في الكتاب الإلهي وفي سائر الاستعمالات، مع أن السماء ليست من الجواهر والأعيان الخارجية. وأما السماوات فهي جمع السماوي المنتسبة إلى السماء، قال الله تعالى: (أو لم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض) (30)، وقال: (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) (31). وأما تقابلها مع السماوات في قوله تعالى: (لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض) (32)، وقال: (إن الله عالم غيب السماوات والأرض) (33) فهو أيضا يؤيد المعنى الثانوي الذي شرحنا كيفية حصوله، وذكرنا أنه المتأخر في الحدوث عن المعنى الأول، فافهم وتأمل.

المسألة الخامسة: حول كلمة " إنما " اختلفوا فيها بحسب اللفظ والمعنى على أقوال: فالمعروف أنها مركبة من " إن " و " ما " الكافة عن عملها، وإذا وليتها جملة فعلية كانت مهيأة. وقيل: إنها مركبة من " إن " الإثباتية و " ما " النافية. وفي كتب بعض النحويين وجمع من الأصوليين: أنها بسيطة. والحق في هذا النزاع: أن التركيب ليس من الأصول الصحيحة في الألفاظ، بل هو مجرد اجتهاد وإعمال ذوق، وإلا فكل لفظ مستعمل في معنى وحداني أو معنى مقيد، لوحظ وحدانيا بسيطا في الوضع، ويختص بوضع على حدة، مع أن المركبات ليست ذات وضع يخص بها، فكلمة " إنما " وأمثالها بسائط حسب البرهان والوجدان، ومجرد إمكان التحليل والتجزئة غير كاف للتصديق. هذا بحسب اللفظ. وأما بحسب المعنى ففيه قولان: فالمشهور أنها لا تفيد إلا التأكيد، والمعروف بين المتأخرين أنها تفيد الحصر. والحق: هو الأول، لعدم شهادة أهل اللغة واللسان، ولعدم الاطراد الذي هو دليل الحقيقة، كما في قوله تعالى: (إنما أنت منذر) (34)، وقوله: (إنما أنت منذر من يخشاها) (35)، وقوله: (إنما أنا بشر) (36)، وغير ذلك لا يناسب الحصر، ولذلك ترى أن السيوطي في " الإتقان " لم يتعرض في ذيل قوله تعالى: (أنما إلهكم إله واحد) إلا إلى أن " إن " للتأكيد و " ما " كافة (37). فالمسألة بناء على هذا واضحة، وهكذا قررناه في الأصول (38). ومن هنا يظهر ما في " أقرب الموارد " وغيره: من أنها ربما استعملت بمنزلة النفي، وإلا فتفيد الحصر، كقولك: إنما زيد قادم، فإنه بمنزلة: ما زيد إلا قادم (39).

فإنه ساقط في المبحثين اللفظي والمعنوي، ومجرد استفادة الحصر في مورد - يمكن أن يستند إلى القرائن الخاصة وأحوال المتكلم - لا يدل على الوضع واللغة. وما في بعض كتبنا الأصولية: من نسبة دلالة " إنما " على الحصر إلى أهل اللغة (40)، مجازفة، فليراجع. ثم إنه على تقدير إفادته الحصر، فهل يفيد حصر المسند في المسند إليه، أو العكس، أو يختلف المقامات، فإذا قيل: (إنما أنا بشر) فيريد حصر نفسه بالبشرية، حذرا من توهم الملكية، وإذا قيل: (إنما أنت منذر) فيريد حصر الإنذار فيه، لكونه بشيرا ونذيرا، فلا يكون غيره منذرا. وعلى هذا يمكن حل بعض مشكلات المسألة، ولكن تصريح القائلين بالحصر ينافيه، لقولهم: بأنها بمنزلة " ما و " إلا "، وهو يفيد حصر الثاني في الأول، كما عرفت من " الأقرب " وعليه غيره أيضا (41). نعم لو قلنا بأنها كلمة بسيطة، تفيد - بالوضع - الحصر الأعم من حصر الأول في الثاني وبالعكس، كان له وجه، إلا أنه غير وجيه، ضرورة أن المتفاهم منه غير ذلك، ولا تصريح من أرباب الفن بالنسبة إلى مثل ذلك، فاستفادة الحصر غير واضحة، مثلا في قوله تعالى: (إنما نحن مصلحون) بعد مراعاة موقف المنافقين، هل يحتمل أن يريد المنافقون حصر المصلحية في أنفسهم، بدعوى: أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه ليسوا من المصلحين، أم يريدون حصر شغلهم بالإصلاح، مع أنهم ذوو أشغال اخر في المجتمع، أو يريدون الادعاء، وأن جميع أشغالنا شغل واحد، وهو الاصلاح، أو أنها ليست شيئا حذاء الإصلاح، أم النظر إلى تأكيد موقفهم وتحتيم مرامهم فليتأمل جيدا.

المسألة السادسة: حول كلمة " نحن " " نحن " ضمير يعنى به الاثنان والجمع، وقيل بالتوقف في دلالتها على الاثنين، ويكذبه قولهم: نحن اللذان تعارفت أرواحنا (42) وقيل: هو مولد (43). والظاهر أن العرب لا تقف في الحكاية حال الاثنين، فإما يحكى بلفظة " أنا " أو " نحن "، والمتعين هو الثاني بالضرورة. واختلفوا في ضم آخرها، فقيل: هي مبنية عليها (44)، وقيل: " نحن " كلمة يعنى بها جمع " أنا " من غير لفظها، وحرك آخرها بالضم لالتقاء الساكنين. هكذا عن " الصحاح " (45)، وقال ابن بري: قول الجوهري غير صحيح، لأن اختلاف صيغ المضمرات يقوم مقام الإعراب، وعن المحكم: ضم لأنه يدل على الجماعة، والميم والواو من جنس الضمة تدلان عليها (46). وقد عرفت ضعفهما، فإن لفظة " نحن " تطلق على الاثنين فيسقط القولان، ويكون " نحن " مبنيا على الضم.

المسألة السابعة: حول كلمة " مصلحون " صلح الشئ يصلح - بتثليت اللام - صلاحا وصلوحا وصلاحية: ضد فسد، أو زال عنه الفساد، وأصلحه ضد أفسده، وأصلحه بعد فساده أقامه (47). وفي " المفردات ": الصلاح ضد الفساد، وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل في القرآن تارة بالفساد، وأخرى بالسيئة، قال: (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا)، والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس (48). انتهى ما في اللغة. يظهر منهم: أن الصلاح له معنيان: أحدهما ضد الفساد، وثانيهما زوال الفساد. وهذا ركيك غريب، فإنه بمعنى واحد. نعم تارة يكون الشئ فاسدا، فيصير صالحا، فيزول فساده بالتبع، وأخرى لا يكون فاسدا ولا صالحا، بل فيه قوتهما، فيصلح بعد ذلك تارة ويفسد أخرى، فمن يدعي في المجتمع البشري إنما أنا مصلح، كما يمكن أن يريد نسبة المجتمع إلى الفساد يمكن أن لا يريد ذلك، بل تنحصر إرادته بإيجاد الصلاح في ذلك المجتمع، وأما إطلاقه وإرادة إبقاء الصلاح وبقائه فلا يخلو عن نوع توسع. وأما هيئة المشتقات الجارية على الذوات، فقد مر شطر من الكلام حولها في سورة الحمد.

المسألة الثامنة: حول كلمة " ألا " " ألا " حرف يستفتح به الكلام، ويرد للتنبيه، ويدل على تحقق ما بعدها، نحو (ألا إنهم هم السفهاء)، وهذه تدخل على الجملتين الفعلية والاسمية، ولكن أكثر ما يقع بعدها " إن " والنداء. وترد أيضا للعرض والتحضيض، ومعناها طلب الشئ لكن العرض طلب بلين، والتحضيض طلب بحث، وحينئذ تختص بالجملة الفعلية، (ألا تحبون أن يغفر الله لكم)، (ألا تقاتلون قوما نكثوا) وغير ذلك. وترد للتوبيخ والإنكار وللاستفهام عن النفي: ألا اصطبار لسلمى أم لها جلد وترد للتمني، وهي في هذه المواقف تدخل على الاسمية فقط، وتعمل عمل لا النافية للجنس (49). انتهى ما في اللغة. وفي النحو خلاف: في أنه بسيط أم مركب، وقال في " المغني ": والمعربون يقولون فيها: حرف استفتاح، فيبينون مكانها ويهملون معناها، وإفادتها التحقيق من جهة تركيبها من الهمزة و " لا "، وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق، نحو (أليس الله بقادر) (50). أقول: قد عرفت منا: أن التجزئة وتحليل بعض الأسماء أو الحروف إلى البسائط من الذوقيات، وربما لا تساعد عليه الاستعمالات، مثلا: إذا صح قولنا: ألا إن زيدا شاعر، يعلم منه أنه ليس مركبا، لعدم صحة دخول " ليس " على " إن "، كما لا يخفى.

المسألة التاسعة: حول كلمة " لكن " " لكن "، وأصلها " لاكن " حذفت الألف خطا لا لفظا، هكذا في " الأقرب " (51)، والأقرب أن الكتابة إذا خالفت القراءة، تكون شاهدة على أحد أمرين: إما التخفيف، ولكنه غير صحيح لما لا يوجد في النسخ القديمة كتابة " لاكن " بالألف، فيعلم منه أن الأمر الثاني متعين، وهو أن المقروء ليس ألفا، بل هي فتحة تميل إليه. وعلى هذا يشكل صحة قراءته بالألف، إلا على جواز الإشباع إلى حد الألف والواو والياء فيما لا يلزم منه الإخلال بالقراءة والمقصود. وبالجملة: هي نوعان مخففة من " لكن "، وهي حرف ابتداء غير عاملة، خلافا للأخفش ويونس، لدخولها على الجملتين. ويجوز أن تستعمل بالواو، نحو (ولكن كانوا هم الظالمين). وعن ابن الربيع: أنها بدون الواو عاطفة جملة على جملة، ونسب ذلك إلى ظاهر قول سيبويه. ثم إنه إن وليها كلام فهي حرف ابتداء لمجرد إفادة الاستدراك، وليست عاطفة، وإن وليها مفرد فهي عاطفة بشرطين: أحدهما: أن يتقدمها نفي أو نهي، نحو ما قام زيد لكن عمرو، ولا يقم زيد لكن عمرو. والنوع الثاني: أن لا تقترن بالواو، وعن جماعة: أنها لا تستعمل في المفرد إلا بالواو (52)، وحكي عن يونس: أنها ليست من حروف العطف، ولم تقع في القرآن غالبا إلا واو العطف قبلها، ومما جاءت فيه من غير واو قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم)، وقوله: (لكن الله يشهد) (53) انتهى ما عليه النحاة واللغويون. والذي يظهر من الدقة في أمرها: أنها قليلة الاستعمال في الابتداء، فكونها مخففة عن " لكن " - التي من الحروف المشبهة بالفعل - في غاية الندرة، وإذا وقعت في أثناء الكلام، فإن كانت مقترنة بالواو فالواو عاطفة، وهي تفيد الحكم المخالف للحكم السابق، فإذا قيل: ما قام زيد ولكن عمرو، فالواو عاطفة، و " لكن " تفيد أن عمرا قام، وإذا كانت غير مقترنة بالواو فالأظهر أيضا أنها تفيد كما سبق، ويقنع بها عن حرف العطف.

المسألة العاشرة: حول " لا يشعرون " (لا يشعرون) شعر يشعر شعرا وشعورا وشعورة وشعرى ومشعورا ومشعورة: علم به، وكذا فطن له وعقله وأحس به (54). وفي " المفردات ": الشعر معروف، وجمعه أشعار، قال: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها)، وشعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا، أي علمت علما في الدقة كإصابة الشعر، وسمي الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعري، وصار في المتعارف اسما للموزون المقفى من الكلام (55). أقول: والذي يظهر لي أن " شعر " لازم، ولم يستعمل منه اسم المفعول، وهو المشهور، فلا يساوق العلم والفهم والإدراك، بل ولا الإحساس. ومن الغريب عدم استعماله في القرآن إلا منفيا، وقد بلغت مواضعه إلى خمسة وعشرين موضعا، وفي هذا وذاك سر: وهو أن قولك: إن زيدا لا يعلم، لا يدل على أنه في حد الحيوان، لأن العلم يتعلق بالتصديقيات، فيرجع ذلك إلى أنه لا يعلم أن كذا كذا، وهذا لا يوجب انتفاء حد الإنسان عنه، بخلاف قولك: إن زيدا لا يشعر، فإنه ليس بمعنى لا يدرك، ولا بمعنى لا يعلم، بل هو يفيد أنه فاقد هذه الحيثية والإحساس.

وبعبارة أخرى: يستفاد من اللغة وموارد استعمالها أنها لا ترادف الإحساس حتى إذا قيل: هم لا يشعرون، يكون معناه: أنهم لا يحسون، فإن الحس متعد والشعر لازم، بل إذا قيل: هم لا يشعرون، فمعناه: أن الشعور فيهم مفقود، أي لا يكونون ذوي الحس والإدراك. وإن شئت قلت: ليس الشعر من الأحداث والأفعال حتى يتخذ منه سائر المشتقات، بل الشعر هو المعنى الخاص المتخصص به الإنسان والحيوان، فيكون من الجوامد التي يتخذ منها أحيانا بعض المشتقات، ولا تفيد الهيئة - حينئذ - معناها الأصلي، فإذا قيل: إن قومي لا يعلمون شيئا، فهو معناه نفي الإدراك الحدثي عنهم، وأما إذا قيل: قومي لا يشعرون، فمعناه - كما أشير إليه - أنهم لا يكونون ذوي الخاصة المشار إليها، ولا يوجد فيهم ذلك المعنى والحقيقة. ومن هنا يظهر قصور " المفردات " وسقوط كلمات اللغويين في المقام.


1- راجع أقرب الموارد 1: 7، ومغني اللبيب: 46 - 53.

2- طه (20): 20.

3- انظر الإتقان في علوم القرآن 2: 175.

4- مغني اللبيب: 46، الإتقان في علوم القرآن 2: 175.

5- راجع نفس المصدر.

6- نفس المصدر.

7- الروم (30): 24.

8- مغني اللبيب: 46، الإتقان في علوم القرآن 2: 175.

9- الأنبياء (21): 92.

10- انظر مغني اللبيب: 46، والإتقان في علوم القرآن 2: 175.

11- راجع مغني اللبيب: 46، والإتقان في علوم القرآن 2: 175.

12- راجع مغني اللبيب: 47 - 48، وأقرب الموارد 1: 7.

13- الزمر (39): 71.

14- راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 176 - 177.

15- الروم (30): 33.

16- راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 179.

17- نفس المصدر.

18- راجع الإتقان في علوم القرآن 2: 180.

19- نفس المصدر.

20- القاموس المحيط: 391.

21- تاج العروس 2: 452.

22- تاج العروس 2: 452 - 453.

23- المفردات في غريب القرآن: 379.

24- راجع كفاية الأصول: 149.

25- راجع تحريرات في الأصول 4: 91.

26- راجع البحر المحيط 1: 60 - 61.

27- نفس المصدر.

28- المفردات في غريب القرآن: 16.

29- أقرب الموارد 1: 8.

30- سبأ (34): 9.

31- فاطر (35): 3.

32- سبأ (34): 22.

33- فاطر (35): 38.

34- الرعد (13): 7.

35- النازعات (79): 45.

36- الكهف (18): 110.

37- الإتقان في علوم القرآن 3: 168.

38- تحريرات في الأصول 5: 184.

39- أقرب الموارد 2: 1178.

40- كفاية الأصول: 211.

41- راجع تاج العروس 10: 448.

42- تاج العروس 9: 356.

43- راجع تاج العروس 9: 356.

44- نفس المصدر.

45- الصحاح 4: 2210.

46- راجع تاج العروس 9: 356.

47- أقرب الموارد 1: 656.

48- المفردات في غريب القرآن: 284.

49- أقرب الموارد 1: 15.

50- مغني اللبيب: 35 - 36.

51- أقرب الموارد 2: 1159.

52- أقرب الموارد 2: 1159.

53- البحر المحيط 1: 62، مغني اللبيب: 152.

54- أقرب الموارد 1: 594.

55- المفردات في غريب القرآن: 262.