اللغة والصرف

الآية العاشرة من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: حول كلمة " مرض " المرض - محركة - إظلام الطبيعة واضطرابها، بعد صفائها واعتدالها، كما في " العباب "، وهو قول ابن الأعرابي. وعن ابن دريد: المرض السقم، وهو نقيض الصحة، يكون للإنسان والبعير، وهو اسم للجنس. وقال سيبويه: المرض من المصادر المجعولة كالشغل والعقل. وقيل: المرض - بالفتح - للقلب خاصة. وعن الأصمعي: أنه قال: قرأت على أبي عمرو بن العلاء: (في قلوبهم مرض)، فقال لي: مرض يا غلام. وقال أبو إسحاق: المرض والسقم في البدن والدين جميعا، كما يقال: الصحة في الدين والبدن جميعا (1). وفي " القاموس ": وبالتحريك أو كلاهما الشك والنفاق وضعف اليقين (2). وقال ابن الأعرابي: أصل المرض النقص يقال بدن مريض، أي ناقص القوة، وقلب مريض، أي ناقص الدين (3). وفي " الأقرب ": المرض والمرض فساد المزاج، وقال ابن فارس: المرض كل ما خرج بالإنسان عن حد الصحة، من علة ونفاق وشك وفتور وظلمة ونقصان وتقصير في أمر، جمعه: أمراض (4). انتهى ما في كتب اللغة.

والذي هو المهم في النظر: أن هذه المادة مخصوصة بالأعراض الظاهرية والجسمية، فيكون استعمالها في الانحرافات الروحية من المجاز والتوسع، بعد وضوح بطلان عكسه، ولا يحتمله أحد، أم يعم جميع الانحرافات والأسقام. ومن التدبر في موارد استعمالها في الكتاب لا يظهر شئ، لأنه في جميعها مصحوبة بالقرينة، وهي قوله تعالى: (في قلوبهم) وأمثاله. ومن المحتمل كون الانحرافات الروحية مستلزمة لبعض التحرفات القلبية الجسمية، فيكون في قلوبهم الصنوبرية مرض ظاهر من الأخلاط والأثقال بحسب الواقع ونفس الأمر. وإن أريد من هذا دعوى انحرافاتهم الروحية فلا يلزم مجاز في المفرد. والإنصاف: أن في عرفنا هذا يكثر استعماله في مطلق الأسقام والآلام المعنوية والجسمية، إلا أن عند السؤال عن مفهوم هذه المادة بلا اقترانها بالقرائن الخاصة، يتبادر الجواب إلى أنه الانحراف الجسماني. ويحتاج إثبات الأعمية إلى مؤونة غير معلومة جدا، وقد اضطربت كلمات اللغويين في هذه المسألة كما عرفت، ومع ذلك يكون الأقرب إلى عبائرهم الاختصاص، وهو المساعد للاعتبار، لأن في بدو حدوث اللغات، لم يكن توجه من أهل الاستعمال إلى هذه التوسعة، ثم بعد ذلك يستعمل للمناسبات والأغراض. وهذا أصل أصيل في فهم الحقائق من المجازات.

المسألة الثانية: حول كون " مرض " مصدرا قد استفادوا من أهل اللغة أن كلمة " مرض " مصدر، ومعناها كذا وكذا (5). وهذا غير صحيح، ضرورة أن المعاني التي ذكروها مخصوصة بما ليس بمصدر، فإن المصادر ومادة المشتقات هي المعاني الحدثية، ولا يعقل أن يكون المرض الذي معناه كذا وكذا، وهو من الكيفيات الخارجية الموجودة الباقية الذات، مصدرا، ولأجله قال سيبويه: هو مصدر جعلي (6). وهذا منه قبيح، لأن المصادر الجعلية هي المصادر المتخذة من الجوامد والذوات. والذي هو التحقيق: أن ما هو مصدر هو مادة " م رض "، وما هو اسم لهذه المعاني هي المادة المتخصصة بهيئة خاصة، وهي هيئة فعل أو فعل، ولا ينبغي لأهل الفضل الخلط بين حقيقة المادة الاشتقاقية - السارية في الأشكال المشتقة - وبين نفس المشتقات المتخصصة بالهيئات الخاصة الطارئة على تلك المادة، فهناك أمران: أحدهما مرض، وهو مصدر، ومرض، وهو جامد موضوع لمعنى خاص، وتفصيله في الأصول (7).

المسألة الثالثة: حول كلمة " زاد " زاد الشئ يزيد زيادة، لازم ومتعد، وهي بمعنى أن ينضم إلى ما عليه الشئ في نفسه شئ آخر، وهي النماء والزكاء، وزاده الله خيرا، يتعدى إلى مفعولين، وفيهم من أنكره، ويتعدى لواحد ومطاوعه " زاد " لازما، ومطاوع المتعدي لاثنين يتعدى لواحد، نحو زاد كذا وازداد (8). انتهى ما في كتب أهل اللغة. أقول: الزيادة أعم من كونها على وجه الكمال أو النقيصة، فمن الأول قوله تعالى: (زاده بسطة في العلم والجسم) (9)، ومن الثاني هذه الآية. هذا هو حكم المادة. وأما الهيئة: فالحق أن إتيانه متعديا ولازما مما لا منع عنه بعد اقتضاء الاستعمال ذلك، ومن الثاني قوله تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) (10).

وغير خفي: أنه ربما يستعمل في الكتاب العزيز متعديا بالحروف، وليس منه الأثر في كتب اللغة، ومنه قوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) (11)، وقوله تعالى: (أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا) (12). ومن هنا يخطر بالبال أن يقال: إن تعديته إلى المفعول الثاني، ربما كانت لأجل حذف حرف التعدية في جميع موارده، ويشهد له قوله تعالى: (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) (13)، فعلى هذا ما هو المفعول حقيقة هو الشئ الواقع عليه الزيادة، وأما المفعول الثاني فهو في الحقيقة من متعلقات المفعول الأول، وهو يضاف إليه، مثلا: إذا قيل: زاد الله رزقه، فهو معناه: زاد الله رزق زيد أو مرضه أو علمه وبسطه.. وهكذا، وهذا في الاعتبار ليس مفعولا ثانيا بلا واسطة. والتحقيق الحقيق بالتصديق الخارج عن أفق اللغة والصرف: أن مسألة تعدي الأفعال إلى المفعول الثاني والثالث من الأغلاط والخلط بالنظر إلى المعنى والواقعيات، وذلك لأن المفعول الثاني بالنسبة إلى المفعول الأول: إما يكون محمولا في جملة تامة فلا تكون الجملة مفعولا، ولو كانت فهي المفعول الواحد، أو يكون محمولا في جملة ناقصة فهو يرجع إلى البدل. والتفصيل في موقف آخر إن شاء الله تعالى.

تنبيه

قد أومأنا آنفا إلى الخلاف بين أرباب اللغة في تعدية " زاد " إلى مفعولين وعدمها، وقد استدل المثبتون بآيات كثيرة، وفيها هذه الآية الشريفة. وأيضا قد أشرنا آنفا إلى الخلل في الاستدلال: بأن قضية بعض الآيات الأخر أن يكون هناك حرف محذوف، فتكون هذه الآية هكذا: في قلوبهم مرض فزاد لهم الله مرضا، كقوله تعالى: (نزد له في حرثه) (14) و (نزد له فيها حسنا) (15). هذا، مع أن مفاد الآية بحسب الواقع: هو أن الزيادة كانت في مرضهم حقيقة، وفي أنفسهم وقلوبهم بلحاظ آخر. وسيأتي توضيح الآية بحسب الإعراب والنحو حتى يتبين الحق.

المسألة الرابعة: حول كلمة " كان " كان يكون، عليه كونا وكيانا: تكفل به، وكان الشئ كينونة: حدث، وكنت الغزل، أي غزلته، وكان زيد قائما، أي وقع منه القيام وانقطع، وهي هنا ناقصة تدخل على المبتدأ والخبر (16). وفي الجوهري: " كان " إذا جعلته عبارة عما مضى من الزمان احتاج إلى الخبر، لأنه دل على الزمان فقط، وإذا جعلته عبارة عن حدوث الشئ ووقوعه استغنى عنه، لأنه دل على معنى وزمان، مثلا تقول: كان الأمر وأنا أعرفه مذ كان، أي مذ خلق (17). وبالجملة: قد تكون تامة - حسب الاصطلاح - ومنه قوله تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) (18)، وربما تجئ في خبره الحروف الجارة، ومنه قوله تعالى: (قل من كان في الضلالة) (19)، أو في الاسم والخبر، ومنه قوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله) (20). وهذا مما لا بحث فيه، وإنما الإشكال في أنه ربما عد من عجائب الأفعال، لأنه كما يجئ ناقصا من الأفعال الناقصة يكون من الأفعال الاخر، كما عرفت، فهل يتعدد فيه الوضع، فإذا قيل كنت الصبي، أي كفلته، فهو بالوضع الآخر، أم في المقام شئ؟وهو أن معنى قولهم: كنت الغزل، وكنت الصبي، فيه نوع مبالغة، وكانت العرب تستحسنها، واشتبه الأمر على اللغويين، فوقعوا فيما لا ينبغي، وأما اختلاف التمام والنقص، فإن كان مفاده أصل التحقق مع الاقتران بالزمان الخاص، فهو يرجع إلى النقص، لأن معنى قوله تعالى: (كيف كان عاقبة المفسدين) (21)، أي كيف تحققت عاقبة المفسدين في العصر الأول، وقد اتفقت كلماتهم في دلالته على الزمان الخاص.

وبالجملة: جملة " كان زيد في السوق "، أو " كان زيد في الأمس " من النقص، ولا يعد من التمام بالضرورة وإن كان معناه نفس الاتصاف بالوجود، فيكون القضية - حسب الاصطلاح - ثنائية غير مشتملة على النسبة والربط، فهو يعد تاما، ولكنه خلاف المتبادر منه، وخلاف نصوص الأصحاب في هذه المسألة. وأما ما اشتهر بين أبناء الأصوليين: من عدم دلالة الأفعال على الأزمان (22)، فهو في المضارع والحال كذلك دون الماضي، لشهادة الوجدان والتبادر، ولا سيما في الأفعال الناقصة التي لا معنى لها إلا إفادة الزمان، مثلا قولك: " كان زيد قائما " لو لم يكن يفيد الزمان السابق لما كان فيه الخير الكثير، كما لا يخفى. وأما ما في " الأقرب " وغيره: من أنه يفيد وقوع الفعل وانقطاعه (23) كما عرفت، فهو خال عن التحصيل، بل هو يفيد حدوث الفعل في الأمس وأما الانقطاع واللاانقطاع فهو من توابع المادة، فما كان من قبيل الضرب والشتم فهو منقطع طبعا، وما كان من قبيل العلم والشرف فهو باق، فكلمة " كان " تدل على الزمان الذي وقع فيه الفعل وحدث، من غير دلالة على بقاء الحادث وزواله، فلاحظ واغتنم. فبناء على هذا لا يصح ما اتفقوا عليه: من أن " كان " ربما تكون ناقصة، بل هي كلا ناقصة، لا أساس لتمامها، إلا إذا أريد منها التمام والنقص في الكلام، فما كان خبره مذكورا ومن غير أن يفيد الزمان الماضي المطلق فهو تام، وإلا فهو ناقص، فقولك: " كان زيد " تام، و " كان زيد في الأمس " ناقص، وأما إذا قيل: " كان زيد في الزمان الماضي " فهو تام، لأن الخبر مفاده، ويعد من التكرار، وإن كان بحسب المعنى والحقيقة ناقصا، لأنه إخبار عن الربط والنسبة دون أصل وجود المبتدأ، فلا تخلط.

المسألة الخامسة: حول كلمة " أليم " " أليم " بحسب المادة، وهو " الألم "، بمعنى الوجع، ألم رأسه ألما: وجع، فهو ألم (24)، ويحتمل اختلافه مع الوجع، فيكون هو الوجع الشديد، ويشهد له قول أهل اللغة: الألم الوجع الشديد (25)، ويساعد عليه الاعتبار، وهو نفي الترادف في اللغة. وأما بحسب الهيئة: ففي اللغة والتفسير: الأليم المؤلم، كالسميع بمعنى المسمع (26)، وقد مر: أن " فعيل " يجئ لمعان كثيرة عند قوله تعالى: (ولهم عذاب عظيم) (27)، ويحتمل أن يكون هنا فيه نوع مبالغة، أي أن العذاب أليم وشديد ألمه ووجعه. اللهم إلا أن يقال: بأن توصيف العذاب بالأليم غير جائز. نعم الإنسان يوصف بأنه أليم، أي ذو ألم، فيكون اعتبار المبالغة ممكنا، أو يقال بأن اعتبار المبالغة لأجل إفادة تجاوز ألمه إلى الغير، كما في توصيف الماء بالطهور، ولا يعتبر في توصيفه مبالغة إمكان توصيفه حقيقة.

المسألة السادسة: حول كلمة " الكذب " في هذه المادة بحوث عميقة مذكورة في الكتب العقلية والعلوم الاعتبارية، وسيجئ في موقف آخر ما يرتبط بها. وأن الصدق والكذب من العناوين المتقابلة التي لا ثالث لهما، وأنهما من أوصاف الكلام أم الأعم، وما مناط الصدق والكذب؟وغير ذلك. والذي هو المقصود بالبحث هنا: هو أن الكذب هل هو من الأفعال اللازمة ولا مفعول لها، أم يقال: زيد كاذب، والكذب معنى صادر منه وقائم به قيام صدور، أم الكذب صفة الكلام الصادر، فلا يكون زيد إلا متكلما بكلام كاذب، وأما زيد فلا يكون كاذبا. نعم إذا قيل: هو كاذب أو يكذب، فيراد منه أنه ينسب الطرف إلى الكذب، وإذا قيل: (لهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون)، أي يكذبون - بالتشديد - وهذا المعنى مما يستفاد من القرآن العزيز حسب الاستعمالات الكثيرة الموجودة فيه. وبالجملة: لنا إطلاق عنان القلم في الآتي، حتى يتضح الكثير من البحوث المحتاج إليها في العلوم المختلفة. والله هو الموفق والمؤيد.


1- راجع تاج العروس 5: 85.

2- القاموس المحيط 2: 357.

3- راجع لسان العرب 13: 80، وتاج العروس 5: 85.

4- أقرب الموارد 2: 1202.

5- راجع البحر المحيط 1: 53.

6- لسان العرب 7: 231، تاج العروس 5: 85.

7- راجع تحريرات في الأصول 1: 356 وما بعدها.

8- راجع أقرب الموارد 1: 483، وتاج العروس 2: 366 - 367.

9- البقرة (2): 247.

10- الصافات (37): 147.

11- الشورى (42): 20.

12- المزمل (73): 4.

13- الشورى (42): 23.

14- الشورى (42): 20.

15- الشورى (42): 23.

16- راجع أقرب الموارد 2: 1114.

17- الصحاح 4: 2189.

18- النمل (27): 14.

19- مريم (19): 75.

20- المؤمنون (23): 91.

21- النمل (27): 14.

22- راجع كفاية الأصول: 40 - 41، وتحريرات في الأصول 1: 363 وما بعدها.

23- راجع أقرب الموارد 2: 1114.

24- راجع أقرب الموارد 1: 16.

25- راجع لسان العرب 12: 22، وأقرب الموارد 1: 16، وتاج العروس 8: 189.

26- أقرب الموارد 1: 16.

27- راجع سورة البقرة الآية السابعة مبحث اللغة والصرف - المسألة السابعة -.