التفسير والتأويل على مسالك مختلفة ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (يخادعون الله) يعني يخادعون رسول الله بإظهارهم الإيمان خلاف ما في جوانحهم (والذين آمنوا) كذلك أيضا، الذين سيدهم وأفضلهم علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، (وما يخدعون) ما يضرون بتلك الخديعة (إلا أنفسهم)، فإن الله غني عنهم وعن نصرتهم، ولولا إمهاله لهم لما قدروا على شئ من فجورهم وطغيانهم، (وما يشعرون) أن الأمر كذلك، وأن الله يطلع نبيه على نفاقهم وكذبهم وكفرهم ويأمره بلعنهم في لعنه الظالمين الناكثين (1). الحديث. وقريب منه: (يخادعون الله) في خداعهم في أمر البيعة والخلافة، فأظهروا إيمانهم بها وبعلي (عليه السلام)، حتى قالوا ما قالوه بعد ما نصبه الرسول الأعظم - حسب آيات الإكمال والإبلاغ - وأبرزوا اشتياقهم إليها، ولكنهم أنكروها بعد مدة قليلة، فخادعوا الله والمؤمنين، وكان خداعهم من الابتداء وحين البيعة لا بعدها، ولكنهم لا يشعرون برجوع خداعهم على أنفسهم، فيقعون فيما لا ينبغي. وعن ابن زيد: (وما يشعرون) أنهم ضروا أنفسهم بما أسروا من الكفر والنفاق (2).

وعلى مسلك أرباب التفسير: (يخادعون الله)، أي عند أنفسهم وعلى ظنهم، بإظهار الإيمان وإبطان الكفر ليحقنوا دماءهم وأموالهم (3). وعن الحسن وغيره: (يخادعون) رسول الله (4). وقيل: (يخادعون الله)، أي يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرياء (5). وقيل: كذا جاء مفسرا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (6) وقد مرت رواية شريفة في هذا المضمار في البحث السابق (7). أو يقال: (يخادعون الله) بقصدهم مخادعة الله، وهو أيضا خادعهم، لأنه سبحانه أيضا يعاملهم معاملة الخادع بإيجاد ما في صورة الخدعة، فيفعل بهم ما يظنون أنه خير لهم، وهو في الحقيقة شر لهم (8). وقريب منه: (يخادعون الله)، ومخادعة الله بالنسبة إليهم بإجراء أحكام الإسلام عليهم، والاكتفاء منهم في الدنيا بإظهاره وإن أبطنوا خلافه، ومخادعة المؤمنين لهم كونهم ممتثلين أحكام الإسلام في حقهم، مع ما فيه من سوء العاقبة وعذاب الآخرة (9). وقريب منه: (يخادعون الله) مجازا ويخادعهم الله حقيقة، ويخادعون المؤمنين حقيقة ويخادعهم المؤمنون مجازا، أو (يخادعون الله) مشاكلة لخداع الله لهم حقيقة، (وما يخدعون) أحدا أو شيئا أو مؤمنا (إلا أنفسهم وما يشعرون) بأنهم يخدعونها، أو بأن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، أو باطلاع الله نبيه على خداعهم وكذبهم، أو هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم، أو لا يشعرون بشئ، أو (ما يخدعون إلا أنفسهم) وهم غير شاعرين بذلك. وقريب منه: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين) الذين (يخادعون الله...) إلى آخره. وقريب منه: (يخادعون الله) على سبيل الاستهزاء (والذين آمنوا) أيضا كذلك، وذلك مما لا يشعرون بأنه في غير محله وراجع إلى أنفسهم، فتكون الآية استهزاء بالنسبة إليهم بالحمل الشائع، كما ستتعرض الآيات الأخر لاستهزائهم بالحمل الأولي.

وقريب منه: (يخادعون الله) أي فليخادعوا الله (والذين آمنوا). وبعبارة أخرى: إن الذين قالوا: ربنا الله، وقالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر وهم غير مؤمنين، فليخادعوا الله بعد ذلك، ولكن لا يخدعون إلا أنفسهم ولا يشعرون، فيكون الأمر بالخداع من باب التعجيز والاستهزاء. والله العالم بالحقائق. وقريب منه: (يخادعون الله) حسب تسويلاتهم (والذين آمنوا)، ومنهم الرسول الأعظم والولي المعظم. أو يقال: تكون الآية هكذا: يا أيها الذين آمنوا اعلموا أنهم يخادعونكم، ولو كانت مخادعتهم الله نافعة فخداعكم ينفع، وليعلموا أن خدعتهم ترجع عليهم وهم لا يشعرون.

وعلى مشرب الحكيم: (يخادعون الله) أي يخادعون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قضاء لصحة الانتساب إذا كان المعلول في جميع فعاله إلهيا، حتى صارت حركاته وسكناته ربانية، من غير أن تخرج هذه النسبة في هذا التقدير من المجاز إلى الحقيقة، فلو كانت حقيقة فهي حقيقة على كل تقدير، ولو كان مجازا فكذلك، ضرورة انمحاء حالة البشرية بعد وصول المعلول إلى حد انسلاب أحكام الكثرة. (وما يخدعون) حين خدعتهم (إلا أنفسهم)، فإنهم يخادعون أنفسهم بنفس خداعهم الله والمؤمنين، لا بخداع آخر، ويخدعون أنفسهم في هذه النشأة، لا في النشآت الاخر، فيكون راجعا إليهم في الوقت وهم لا يشعرون بذلك، لبعد أفهامهم عن إدراك هذه الرقيقة الإلهية والدقيقة الربانية.

وعلى مشرب العارف: (يخادعون الله) بعين خدعتهم المؤمنين، فخدعتهم الله خدعة إجمالية بالنسبة إليهم، وخدعتهم خدعة تفصيلية بالنسبة إليه تعالى، كل ذلك حسب الحقيقة العرفانية، أو حسب التشريفات السياسية، حتى يقف المؤمن أمام هذه المنزلة، فيجاهد في سبيل هذا المحبوب على الإطلاق والمعشوق بالحق والحقيقة. وقريب منه: (يخادعون الله) بعين خدعتهم أنفسهم وهم لا يشعرون، ومكروا ومكر الله لا بمكر آخر وراء مكرهم، من غير انحطاط في الوجود الواجبي، ولا ارتقاء في الوجود الإمكاني والافتقاري، بل كل ذلك حسب البرهان والعرفان، ضرورة أن جميع الحركات والسكنات والأفعال والأعمال المتأخرة، مستندة إلى الأوائل بأقوى الاستنادات وبأتم النسب، من غير كونه مجازا أو ادعاء، بل النسب المتأخرة أقرب إلى المجازية من المتقدمة، كما لا يخفى على البصير الناقد والعارف الشامخ. ولقد علمت منا: أن اختلاف الأذواق والمذاهب، لا يرجع إلى اختصاص الكتاب العزيز بطائفة منها دون أخرى، بل هذا النموذج الإلهي جامع هذه الكثرات الوهمية بعين الحقيقة الجامعة، كجامعية العالم الكبير لها، ولا نحتاج إلى تكرار وجهها، فلاحظ وتدبر.


1- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 114 / 59.

2- راجع تفسير الطبري 1: 120، والدر المنثور 1: 30.

3- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 195.

4- الجامع لأحكام القرآن 1: 195.

5- الجامع لأحكام القرآن 1: 196.

6- نفس المصدر.

7- تقدم في الصفحة: 62.

8- تفسير سورة الحمد والبقرة، الكمپاني: 227.

9- راجع الكشاف 1: 57، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 23.