الأخلاق والنصيحة والأدب

من الأخلاق الذميمة والأوصاف الرذيلة الخدعة، وضدها الصراحة والصدق. وربما يقال: إن هذه الصفة وكثير مما قارنتها، ليست محكومة بالحسن والقبح إلا لأجل الآثار والمقاصد، فمن يخادع لأجل إحقاق الحق وإبطال الباطل، فخدعته حسنة، ومن ينعكس يكون من المخادعين المقبحين. والذي يقوى في النظر: أن الأوصاف تنقسم إلى الحسنة والقبيحة انقساما واقعيا، إلا أن من الشجاعة والسخاوة ما يستعمل في جهة الشر، فيكون استعمالهما فيه قبيحا، دونهما في ذاتهما، ومن الخدعة والمكر والحيلة وأمثالها ما يستعمل في ناحية الخير فهو أيضا كذلك، فيكون نفس الاستعمال حسنا لما رجح العامل جانب الأمر الأهم، بابتلائه بالخدعة التي هي مذمومة ذاتا ورذيلة حقا. فكثيرا ما يخفى حقيقة الأمر على الرواد والمحصلين وعلى طلاب العلوم، خالطين بين الجهات والعناوين، معتقدين أن تلك الأوصاف حسنها وقبحها ذاتيان أو طبعيان أو فطريان على اختلاف التعابير، مع أن الأمر ليس كما تخيلوه. فبالجملة: الخدعة مذمومة جدا. نعم ربما يجب الخداع للوصول إلى صفة أهم منها، أو إلى أمر وفعل وحادثة هي عظمي من تلك الخدعة، ولذلك يركبها العقل ويسوقها الفكر حتى لا يضل ولا يشقى، فإعمال تلك الأوصاف الحسنة أو القبيحة، ليس مستحسنا على كل حال، أو قبيحا في كل مجال.

ويشهد على هذه المقالة: قوله تعالى ردا عليهم: (وما يخدعون إلا أنفسهم)، فإنه يستكشف منه أن الخدعة من الرذائل الراجعة إليهم حقيقة أو أثرا، وخاصة وأن هذه الآية في موقف هتكهم و التشنيع عليهم بأنهم يريدون خداع الله تعالى والمؤمنين، فيعلم منه أنها من الصفات القبيحة في حد ذاتها وإن أمكن أن تستحسن عرضا وبالغير، فتدبر. إذا تبينت هذه المسألة فليعلم: أولا: أن الإنسان - حسب النوع والعادة - وإن لا يتمكن من تحقيق جميع النعوت الكمالية، ورفض جميع الرذائل والقبائح والشرور والسيئات، ولا سيما أن يتحقق بأعلى مراتبها ويتخلى عن جميع زواياها، ولكنه يقتدر على أن يتجلى فيه الأوصاف إجمالا، ويرفض ويتخلى عن تلك الرذيلات بالنسبة. ومما يجب أن يهتم به الأوصاف الكريمة، المنتهية إلى الأعمال والأفعال الإنسانية والإسلامية، حتى يكون إنسانا كاملا ومسلما مؤمنا بالحمل الشائع، ومما يلزم عليه التحرز عن أضداد هذه النعوت، برفض الشرور والملكات المنتهية إلى الأعمال الخبيثة والأفعال القبيحة، ومن هذه الأوصاف هي الخدعة ومقابلها الصراحة. وقد شوهد أحيانا بعض الأكابر من المسلمين، قد ابتلوا ببليات كثيرة حتى القتل والسبي حذرا عن الخدعة والاحتيال، وما ذلك إلا لأجل قوة إيمانهم وصفاء ذاتهم وصراحة قولهم وصدق فعلهم.

فيا أيها العزيز القارئ الكريم: وإن كان راقم هذه الحروف من القاطنين في سجن الشرور والطبائع، والمخلدين في سراديب الأسواء والظلمات، ولكنك لا تكن مثله، فعليك الجد والاجتهاد والقوة والنشاط بترك الخدعة والمكر، ولا سيما مع المؤمنين الأبرياء والمسلمين الأصدقاء، ولا تكتف من هذه الآية بقراءتها وكتابتها أو تفسيرها وتوضيحها، كخادمك راقم الحروف، فإن هذه المفاهيم والأساطير مما ترجع إلينا وفيه الحسرة الكلية والتأسف الشديد (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) (1) عن كدورات الخداع والاحتيال والمكور، ولا يتمكن الإنسان - يا أخي العزيز - من تحصيل القلوب السليمة في البرازخ والنشات المتأخرة، فعليك بالتهذيب وتحصيل السلامة والقلب السليم في هذه النشأة، ولا سيما في عصر الشباب والأزمنة الابتدائية والأحيان الأولية، وإلا فربما يصبح الإنسان شيخا وقد امتلأت قلبه قبحا، وصارت ملكاتها راسخة بحيث لا يتمكن من قلع مادة فسادها، فنعوذ بالله العزيز من شر النفس اللئيمة. وليعلم ثانيا: أن هذه الآية ربما تشير إلى ممنوعية جميع أنحاء الخدع، وأن مخادعة الله مذمومة بأقسامها، ومنها الرياء، فإن المرائي يتشكل بشكل العابد إلا أنه يعبد الشيطان، وهو له قرين، والخدعة ليست إلا ذلك حسب ما عرفت منا في توضيحها، ولا يكون المرائي إلا مبطنا شره ومظهرا خيره وهكذا.

وإلى هذه اللطيفة تشير رواية شريفة، على ما رواه الصدوق بإسناده المعتبر عن مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهم السلام): " سئل فيما النجاة غدا؟فقال: إنما النجاة في أن لا تخادعوا الله فيخدعكم، فإنه من يخادع الله يخدعه، ويخلع الله عنه الإيمان، ونفسه يخدع لو يشعر. فقيل له: كيف يخادع الله؟فقال: يعمل بما أمر الله عز وجل به، ثم يريد به غيره، فاتقوا الله والرياء، فإنه شرك بالله عز وجل، إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، وبطل أجرك، ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له " (2). فيا أيها الإنسان الكريم، ويا أيها المؤمن المسافر إلى رحمة الله وبركاته: ما ألهاك عن الله العزيز ؟! وما أشغلك عن ربك الرؤف الرحيم ؟! حتى تصبح من الغادرين المحتالين، وتعمل لغير الله، مع أن الأمر كله بيده في هذه النشأة وسائر العوالم والنشات فكأنك تظن في ريائك مأدبة في الدنيا ومكانة فيها ترى أن في جلب قلوب - الناس وأفئدة الخلائق معيشة مرضية لك مقضية، كلا ثم كلا.

أزمة الأمور طرا بيده والكل مستمد من مدده (3)، فلا تقرع أبوابا كثيرة، ولا تدع أربابا شتى، (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد) (4) وقدير. ونعم ما قيل: كيف يمكن أن يرائي من يعتقد بالتوحيد، ومن يعبد الله ويعتقده فكأن المرائي لا يصير كافرا بريائه، بل رياؤه كاشف عن كفره السابق وعدم اعتقاده وإيمانه، والله هو الحافظ المنعم، وعليه التوكل والتكلان.

توجيه وتشريف

قيل: في هذا الفن وأمثاله تقف أمام حقيقة كبيرة وأمام تفضل من الله الكريم، تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائما ويقررها، وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين، إنه يجعل صفهم صفه وأمرهم أمره وشأنهم شأنه، يضمهم سبحانه إليه، ويأخذهم في كنفه، ويجعل عدوهم عدوه، وما يوجه إليهم من مكر موجها إليه سبحانه، وهذا هو التفضل العلوي الكريم، التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق، والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود أكبر وأكرم الحقائق، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها، وهو يرى الله جل شأنه يجعل قضيته هي قضيته، ومعركته هي معركته، وعدوه هو عدوه، ويأخذه في صفه، ويرفعه إلى جواره الكريم، فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم ؟! وهو في ذات الوقت تهديد وعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم وإيصال الأذى إليهم، تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم، إنما هي مع الله القوي الجبار القهار، وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه، وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة. وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون، ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم، لا يبالون كيد الكائدين ولا خداع الخادعين، ويتدبرها أعداء المؤمنين، فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين (5). وفي هذا النص: إرشاد وإيعاز إلى كيفية مداراة المالكين لمماليكهم والسادة لعبيدهم والرؤساء لرعاياهم، فإذا كانوا مؤمنين فهم في صف الله تعالى مع بعد الفصل، فكيف بهم في عشرتهم معهم ومواساتهم ومساواتهم، والله ولي الحمد والتوفيق. وفيه أيضا: إيماء وإشارة إلى إغماضه تعالى عن خطيئاتهم، واكتفائه بجعلهم في صفه سبحانه بإيمانهم، فليكونوا مثله حتى يعامل معه معاملته.


1- الشعراء (26): 88.

2- راجع معاني الأخبار: 341، وثواب الأعمال: 303 / 1.

3- راجع شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 8.

4- فصلت (41): 53.

5- التفسير في ظلال القرآن 1: 45 - 46.