البلاغة وعلم المعاني ووجوههما

الوجه الأول: حول إيقاع الخدعة على الله تعالى ظاهر الآية الشريفة إيقاع الخدعة عليه تعالى وهو غير قابل للإذعان، وذلك لأن الله تعالى يعلم السر وما يخفى والضمير والظاهر، فلا يحق في حقه الخديعة حسب معتقدات الخادعين. هذا، مع أن المنافقين ما كانوا يخادعون الله، لعدم اعتقادهم برسالة الرسول الأعظم الإلهي، حتى يصح أن يقال: إنهم يخادعون الله، فما كانوا يعتقدون في حق المؤمنين أنهم على الحق وعلى وحي منه تعالى، ولقد وقعوا في حيص بيص دفاعا عن هذه النسبة الواقعة في كلامه تعالى. وبالجملة، هنا مشكلتان:

الأولى: أن المنافقين إذ لم يعتقدوا برسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يكونون يخادعون الله.

والثانية: أن مخادعة الله مما لا يعقل رأسا.

والجواب عن الأولى: أن الاعتقاد واللااعتقاد لا يوجبان قلب الواقع، فإن الحقائق ليست مرهونة الاعتقادات والعلوم، فعلى هذا إذا كان الرسول الأعظم من قبل الله تعالى وهم يريدون الخداع، فلابد أن تقع المخادعة عليه تعالى مثلا، سواء قصدوا ذلك أم لم يقصدوا.

وعن الثانية: قد أجابوا بأجوبة أدبية خارجة عن محيط البلاغة والأدب، ومن شاء فليراجع المفصلات (1). والذي هو الحق جوابا عن المعضلتين: أن المؤمنين والرسول المعظم كانوا في معرض المخادعة من قبل المنافقين، فأراد الله تعالى - مضافا إلى توجيههم إلى النفاق والخداع، وإلى سوء مقاصدهم وفعالهم - أن يعززهم ويكونوا ردافا له تعالى - بمقتضى العطف - إلى حد يقع اسمهم تلو اسم الله، ويكون الله تعالى شريكهم في الخير والسوء حسب التوهم والتخيل، فتلك الرحمة الإلهية المشفوعة بالشفقة واللطف، اقتضت هذه النسبة حتى يعلموا أن مخادعة المنافقين مخادعة لله ومخادعة للمؤمنين، ولأجل ذلك وتعظيما للمؤمنين وتشويقا، اقتصر في الآية على ذكر الله والمؤمنين، من غير أن يذكر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأدرجه في عنوان المؤمنين حتى يكون فخرا ثانيا لهم، وشأنا عاليا لزمرة المؤمنين، وفي ذلك ترغيب إلى الإسلام والإيمان، وأن المؤمن في مملكة الإسلام على حد سواء مع الرسول الأعظم، وأنه في محيط القرآن يذكر مع الله تعالى، بحيث يسند الفعل الذي أريد وقوعه عليهم إليه تعالى، وفيه ترغيم لأنف الأعداء وتذليل لخراطيم الأشقياء.

الوجه الثاني: حول دلالة المخادعة على الاشتراك قضية باب المفاعلة هي المشاركة، فيكون المنافقون يخادعون الله وهو خادعهم، مع أن الخدعة من الأوصاف المذمومة أولا، وأنه لم يكن - حسب التاريخ - خداع من الله تعالى بالنسبة إليهم ثانيا. ومن الممكن أن نقول: إن الخدعة جوابا عن الخدعة ليست مذمومة، ولو كان الله تعالى يخادعهم فهو كان لما خادعوا الله تعالى. ويشهد لذلك ما ذكر في محله: أن المفعول المذكور بعد المفاعلة هو الفاعل ثانيا، أي هو المفعول به بالأصالة والفاعل بالتبع، بخلاف باب التفاعل، فإن كل واحد من الطرفين فاعل بالأصالة، ولذلك يذكر بشكل الفاعل، فنقول: تضارب زيد وعمرو، فهم الخادعون أولا وبالأصالة، وهو خادعهم تبعا وردا لفعلهم، فليس كل خدعة مذمومة، وقد ورد: " أن الحرب خدعة " (2). هذا أولا. وثانيا: قد مر إنكارنا لكون المفاعلة للمشاركة على الإطلاق، وقد فصلنا بين موارد استعمالها (3). وثالثا: إن خداع الله تعالى أيضا معناه إظهار ما في قلوبهم من الكيد والمكر، مع عدم اطلاعهم على اطلاع المؤمنين على سوء حالهم، فعندئذ يصح أن يقال: إن الله تعالى خادعهم. ورابعا: إن حقيقة الخدعة والمكر أخذه تعالى بتبعات أعمالهم وملكات أفعالهم من غير اطلاعهم على أن هذه الخدعة ترجع عليهم، وراجعة على أنفسهم.

الوجه الثالث: حول مشاركة المؤمنين في الخدعة قضية المشاركة وقوع الخدعة من قبل المؤمنين بالنسبة إلى المنافقين أيضا، مع أنه منفي، ولا شاهد له بحسب التاريخ. اللهم إلا أن يقال: بأن جمعا من خواص المؤمنين كانوا مطلعين على مقاصد المنافقين، ولعل لتلك النكتة اندرج ذكر الرسول الأعظم في سلك المؤمنين. وعلى هذا كان يتوجه إليهم من قبل المؤمنين أيضا خداع، لكتمانهم عليهم ما قصدوه.

الوجه الرابع: حول جهة الخداع حسب اقتضاء حذف المتعلق العموم، يكون جهة الخداع عامة، أي إن المخادعين كانوا بصدد الخدعة، وأما الجهة التي خادعوا بها الله والمؤمنين، يمكن أن تكون إظهار الإسلام والإيمان، أو هما مع العمل بالوظائف الإسلامية، وغير ذلك مما تقتضيه السياسة الشيطانية. ومن الممكن دعوى استفادة الجهة الخاصة من الآية السابقة، فإن قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر) شاهد على أنهم كانوا يخادعون بلباس الإيمان بالمبدأ والمعاد، أو بالإسلام وبالرسالة، حسب ما مر تفصيله في تلك الآية.

الوجه الخامس: حول عمومية الآية هذه الآية أيضا فيها العموم الأفرادي والأزماني، ولا تختص بطائفة خاصة، ويؤيد عموم قوله تعالى: (والذين آمنوا) أن هذه الآية والآية السابقة ليستا ناظرتين إلى الجماعة الخاصة والأشخاص المعينين، خلافا لجمع من أرباب الآراء في التفسير والتأويل.

الوجه السادس: حول سبب الخداع لأحد أن يسأل عن سبب خداع المنافقين، وما هو غرضهم من هذه الخدعة؟فإن كان الغرض اشتراكهم مع المؤمنين في التعظيم والتفخيم والتنعيم، فهو لا يوجب أن يكونوا مخادعين، فإنه من التقية المداراتية، والمتقي ليس مخادعا، فالمنافقون كانوا يظهرون الإسلام والإيمان لجلب المنافع الحياتية، كما يجوز التقية المداراتية حفاظا على الوحدة الإسلامية والتحبيب الاجتماعي العمومي. وإن كان الغرض والقصد الحفاظ على أنفسهم وأموالهم من الدولة القوية الإسلامية، فهو أيضا لا يناسب مفهوم الخدعة والحيلة والمكر، كما نجد في الشريعة الإسلامية جواز التقية من غير كونه من الخدعة والحيلة. وإن كان المقصود كسب الأموال والغنائم من دار الحرب وما شابه ذلك، أو كان المقصود التجسس والتفحص عن أمور الإسلام وبناءات المسلمين ومقاصدهم، فهو من الخدعة والحيلة. فما في كتب التفاسير من إمكان كون الكل من الخدعة (4) في غير محله.

الوجه السابع: سوق الآية لإفادة فضاحة المنافقين لا بأس بدعوى: أن هذه الآية - بعد الآية السابقة - سيقت لإفادة فضاحتهم، وتكون في موقف توبيخهم وتثريبهم، وفيها نوع شعار عليهم، وأنهم بصدد مخادعة الله والمؤمنين، وتعلن أنهم يتخيلون ذلك، ولا يشعرون امتناع خدعة الله تعالى والمؤمنين، الذين هم متصلون بالغيب بتوسط الوحي والملك الأمين، فعلى هذا تكون الآية في حكم القضية الإنشائية، وليست إخبارية.

الوجه الثامن: عدم اختصاص الآية بطائفة خاصة كما يمكن أن يكون الفعل المضارع " يخادعون الله " و " ما يخدعون " و " ما يشعرون "، إشعارا بأن القضية المزبورة والخدعة المذكورة من الأوصاف الثابتة والملكات الخاصة، فيكون المقصود جماعة خاصة، ويكون مورد الآية طائفة معينين، كما في كتب التفاسير، وقد مضى أسماؤهم إجمالا في ذيل الآية السابقة. كذلك يمكن أن يكون الفعل المضارع مشعرا بأن هذه الصفة ليست صفة خاصة لطائفة معينين، بل هو أمر ثابت لطائفة من الناس في طول الأزمنة وفي جميع الأحيان والأزمان، وحيث إن الظاهر من الآية السابقة أن موضوع هذه الآية، يكون قوله تعالى: (ومن الناس) من غير نظر إلى زمان معين، يتعين الاحتمال الثاني. هذا مع أن خداعهم ورياءهم ومكرهم لم يتكرر حتى يثبت مزاولتهم وممارستهم في ذلك. ومن العجيب ما في " تفسير المراغي " من تخيله: أن هيئة باب المفاعلة ربما تدل على الممارسة والمزاولة، واستشهد بقوله: مارست وزاولت (5)، وأنت خبير بأن ذلك من دلالة المادة دون الهيئة، فتوهم: أن هيئة باب المفاعلة هنا تقتضي كون المقصود بالآية جماعة خاصة، فاسد أيضا.

الوجه التاسع: حول استثناء " إلا أنفسهم " حذف المستثنى منه دليل على أن الآية ناظرة إلى قضية شخصية، وإلا يلزم أن يكون جميع الخدعات راجعة إلى المخادعين، مع أن الضرورة قاضية بخلاف ذلك، فقوله تعالى: (وما يخدعون إلا أنفسهم) يرجع إلى أنهم ما يخدعون المؤمنين والمسلمين، ولكن يخدعون أنفسهم، فيكون الاستثناء منقطعا، أو يكون المراد مطلق المؤمنين والمسلمين، دون الطائفة المخصوصين، فيكون خداع مخادعي المؤمنين راجعا إلى أنفسهم في جميع الأعصار والأزمان، وعلى كل تقدير يكون الاستثناء منقطعا. وربما يقال: إن الاستثناء المنقطع على خلاف الأصل، أو أن الكتاب والسنة خاليان عن الاستثناء المزبور، وتفصيله يأتي في مقام آخر. والذي هو التحقيق: إمكانه وجوازه ووقوعه وحسنه في الأدب والبلاغة جدا، وأنه مؤكد للعموم ويوجب صراحة الجملة في الاستغراق والإطلاق. ولكن الشأن إمكان كون الآية من الاستثناء المتصل المفرغ، ويكون المحذوف من العناوين العامة، وتصير الآية: وما يخدعون إنسانا أو أحدا إلا أنفسهم، ولا يكون ذلك من الكذب، لأن نظر القرآن إلى أن وبال الخدعة راجع عليهم في الحقيقة، فيكون هناك نوع ادعاء أو مبالغة مستحسنة أو تكون الآية في موقف توبيخهم بإرجاع ثمرات الملكات الفاسدة إلى أربابها وأصحابها. وبالجملة: هنا أسئلة:

الأول: هل الاستثناء منقطع أم متصل؟

الثاني: كيف يتصور خداع أنفسهم على نعت الحقيقة؟

الثالث: هل يمكن أن يكون حذف المتعلق في قوله تعالى: (وما يشعرون) دليلا على ما هو المحذوف وما هو المستثنى منه في قوله تعالى: (وما يخدعون إلا أنفسهم)؟

الجواب: يمكن الالتزام بكل من الاستثناءين، كما عرفت، كما يمكن أن يكون ذيل الآية دليلا على أن المحذوف والمستثنى منه عنوان الشئ وأمثاله، لأن مقتضى نفي الشعور عنهم صدق العناوين غير الشاعرة عليهم كما لا يخفى. وأما خداع أنفسهم فسيأتي تحقيقه في بعض البحوث الأخر، ولكن قضية الأنظار العرفية في هذه الآيات: أن النظر يكون إلى حقيقة الخدعة، وإلى ما هو مغزاها ومرجعها حسب التبعات والمقتضيات في النشآت الأخروية، أو يكون المقصود إفادة أن الخدعة إذا كانت معلومة عند من أريد خداعه، لا تكون إلا خدعة الخادعين، لأنها ليست من الخدعة واقعا بالنسبة إليهم، فترجع إلى أنفسهم، ويكونون هم المخدوعين، غافلين عن ذلك، ولا يشعرون بذلك.

الوجه العاشر: دلالة " وما يشعرون " على الاستثناء المنقطع في مفعول (ما يشعرون) خلاف، كما أشرنا إليه، والأظهر ما مر أخيرا: من أنهم لا يشعرون برجوع خداعهم على أنفسهم، لما يعتقدون أنهم مخادعون المؤمنين غفلة عن اطلاعهم على حال المنافقين. وهنا نكتة: وهي أن مقتضى قوله تعالى: (وما يشعرون) كون الاستثناء منقطعا، ولو كان المستثنى منه عنوان الأحد وأمثاله - مما ينطبق على ذوي الشعور - فإذا كانت الآية هكذا: وما يخدعون أحدا إلا أنفسهم، يكون الاستثناء منقطعا أيضا، لأن من لا شعور له لا يصح عليه عنوان الأحد والفرد. فافهم واغتنم، وكن من الشاكرين.

الوجه الحادي عشر: حول أن المخادعة على الوجه الحقيقة أو المجاز؟من مشكلات هذه الكريمة: أن مخادعتهم الله أو مخادعتهم المؤمنين: إما تكون على نعت الحقيقة أو المجاز ومخادعة الله لهم والمؤمنين أيضا كذلك، فإن كان الكل على نعت الحقيقة أو المجاز، فربما يشكل للزوم كون اللفظة الواحدة في الاستعمال الواحد حقيقة ومجازا، وهو غير معقول، والالتزام باستعمال اللفظ الواحد في الكثير الحقيقي والمجازي، أكثر إشكالا في الكتاب الإلهي الخالي عن هذه المحتملات والألغاز والتعقيدات جدا. فتعين على هذا: أن تكون المفاعلة هنا بمعنى فعل، كما هو كثير مما عرفت أمثلته. أقول: هذه المشكلة من توابع ما توهموه في الاستعمالات المجازية، وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له. وأما على ما هو التحقيق الحقيق بالتصديق: وهو أن المجاز من أنحاء التلاعب بالمعاني دون اللفظ، وأن الألفاظ في جميع الأحيان مستعملة في الموضوع لها، إلا أنها تارة يراد منها انتقال المخاطب إلى المعاني الاخر القريبة من تلك المعاني، التي هي المراد جدا لا استعمالا، وأخرى يكون من باب الادعاء والتوسع في المعنى الحقيقي، فالخدعة في كل واحد من اللحاظين، مستعملة في معناها اللغوي حسب الإرادة الاستعمالية، وإنما الاختلاف في المقاصد الجدية والمرادات الواقعية، فعندئذ لا منع من كونها حقيقة ومجازا، لأنهما من أوصاف المعاني دون الألفاظ، فافهم واغتنم.


1- راجع الكشاف 1: 56 - 58، والتفسير الكبير 2: 62 - 63، والبحر المحيط 1: 56، وروح المعاني 1: 136.

2- النهاية، ابن الأثير 2: 14، بحار الأنوار 20: 246 / 11.

3- راجع سورة البقرة الآية التاسعة، المسألة الثانية من مسائل اللغة والصرف.

4- راجع مجمع البيان 1: 47، والتفسير الكبير 2: 63، والبحر المحيط 1: 57.

5- تفسير المراغي 1: 50.