مسائل الصرف واللغة

الآية التاسعة من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ﴾

المسألة الأولى: حول كلمة " يخادعون " خدعه يخدع بالفتح، ويكسر كما عن أبي زيد، وهو قول نادر. خادعه - كخدعه - مخادعة وخداعا، وهو أن يتحيله، ويريد به المكروه من حيث لا يعلم (1). وفي غير " الصحاح ": الخدع: إظهار خلاف ما تخفيه (2). وفي " المفردات " و " البصائر ": الخداع: إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه (3). وقيل: أصله الإخفاء، ومنه سمي البيت المفرد في المنزل " مخدعا "، لتستر أهل صاحب المنزل فيه. ومنه الأخدعان، وهما العرقان المستبطنان في العنق. وسمي الدهر خادعا، لما يخفي من غوائله (4). وقيل: أصله الفساد. هذا ما حكاه الثعلب عن ابن العربي (5).

وعن ابن عباد الطالقاني (رحمه الله) وخدعت الأمور اختلفت (6). وعن اللحياني: خدعت العين غارت (7)، وقيل: غابت، وخدعت السوق كسدت أو قامت (8)، وعن الصاغاني: الخداع المنع والحيلة (9). والذي في " اللسان " عن ابن الأعرابي: الخدع منع الحق، والختم منع القلب من الإيمان (10). انتهى ما في اللغة مادة وهيئة. وأما تفصيل القول في الهيئة فيأتي في المسألة الآتية. وأما التحقيق في المادة: فالذي يجب التنبيه عليه: أن في فهم اللغة لابد من رفض القيود الراجعة إلى مقتضيات المذاهب ولوازم الاعتقادات، ومع الأسف إذا راجعنا الكتب حتى الكتب اللغوية، نجد كثيرا ما وقع الاختلاط الكثير بين وجوه اللغة ومزايا المسالك، فوقعوا في تفسير لغة الخدعة - مثلا - على جهة تصحيح نسبة المعنى إليه تعالى وتقدس، وهذا من الخبط جدا، ومن الإغراء بالباطل حقا. وبالجملة: الخداع والخدعة بتثليت الخاء، وفي " الصحاح " الفتح أحسن (11)، وعن الثعلب بلغنا أنها لغة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (12)، ونسب الخطابي الضم إلى العامة، وقال: رواه الكسائي وأبو زيد كهمزة (13).

وعلى كل تقدير: من ملاحظة موارد استعماله، ومن الاطراد الذي هو من أمارات الحقيقة فقط، يعلم أنها التسبيب إلى نيل الهدف متشكلا بشكل السبب وبأشكال مختلفة غير حقيقية، ويشترك فيها الإنسان والحيوان. وبناء على هذا التفسير تكون الخدعة من الأوصاف المذمومة، ويشهد لذلك التبادر وعدها في الكتب الأخلاقية من الذمائم النفسانية وإلى ما ذكرنا يرجع التعابير الاخر، مثل: أنها إظهار الإحسان وإبطان الإساءة، أو إظهار الموافقة وإبطان المخالفة. وربما يتوهم: أن الخدعة من الصفات النفسانية من غير ارتباطها بالخارج، مع أن المؤمن يدرك طريق الخدعة والتدليس والحيلة والمكر، من غير كونه خادعا. فالخادع هو الذي ينجز وينفذ ما يدركه، لنيل مرامه على الطريقة غير المشروعة، متشكلة بشكل الحق والصدق.

المسألة الثانية: حول هيئة " يخادعون " ينقل إلى فاعل لإفادة المشاركة، وهو الغالب، وللمبالغة نحو ضاعف بمعنى ضعف، وبمعنى أفعل وفعل مثل: عافاك الله، بمعنى أعفاك الله، وباعدته، أي أبعدته، وسافر، وقاتله الله، وبارك فيه، وعاقبت اللص، وطارقت النعل، ويهاجر إلى الله، ويراؤون الناس، ونافقوا، وشاقوا، وعاجله، وبارزه، وساعده، كل بمعنى غير متقوم بالطرفين، ولا يكون للمشاركة.

وعلى هذا يخطر بالبال شبهة: وهي أن الالتزام بكون الهيئة ذات أوضاع متعددة مشكل، بعد كثرة استعمالها في غير المشاركة، ولأجل ذلك قال بعض أهل التحقيق: إن الظاهر كون هيئة المفاعلة لمجرد التعدية وإنهاء المادة إلى الغير، مثلا: الكتابة لا تقتضي إلا تعدية المادة إلى المكتوب، فيقال: كتب الحديث، من دون تعديتها إلى المكتوب إليه، بخلاف قولهم: كاتبه، فإنه يدل على تعديتها إلى الغير، بحيث لو أريد إفادة هذا المعنى بالمجرد لقيل: كتب إليه، وربما تدل الهيئة المجردة على نسبة متعدية، كقولهم: ضرب زيد عمرا، إلا أن إنهاءها إلى المفعول غير ملحوظ في الهيئة وإن كان لازم النسبة، بخلاف " ضارب زيد عمرا "، فإن التعدية والإنهاء إلى المفعول ملحوظ في مفاد الهيئة (14).

وبتعبير آخر: إن المتكلم إذا أراد الإخبار عن وقوع القتل عن زيد فقط، من غير نظر إلى وقوعه على الغير، فلابد وأن يقول: قتل زيد، ولا يجوز أن يقول: قاتل زيد، لأنه إخبار بما يزيد عما قصده وتعمده، فيعلم من هنا أن هيئة المجرد المتعدية ليست موضوعة للحكاية عن الصدور، والنسبة الصدورية تستلزم تلازم المنتسب إليه، بخلاف الهيئة المفاعلة، ولكن بعد اللتيا والتي، إنا إذا راجعنا الهيئات الاشتقاقية نجد اختلافها في المعنى الملازم لتعدد الموضوع، مثلا هيئة تفاعل في صورة إفادة الشركة، تستعمل بنحو خاص، كقولهم: تضارب زيد وعمرو، وفي صورة إفادة غير الشركة تستعمل بصورة أخرى، كقولهم: (تبارك الله رب العالمين) تعالى الله الملك الحي القيوم، والالتزام بالاشتراك لكثرته أولى من الالتزام بالمجاز، فتأمل. هذا، مع أن دعوى: أن هيئة المجرد ليست موضوعة لإفادة إنهاء المادة إلى المفعول، غير مبينة ولا مبرهنة، بل المتبادر منها خلافه، كما هو خلاف كلمات القوم. نعم ربما يستظهر من قوله تعالى: (يخادعون الله وهو خادعهم) (15) أن الهيئة ليست للشركة، وإلا يلزم التكرار، ضرورة أن معنى (يخادعون الله) مقرون بأن الله تعالى خادعهم. اللهم إلا أن يقال: بأن ذلك من صنعة التجريد، وقد تعارف ذلك في الاستعمالات، مثلا: الإسراء هو السير في الليل، ومع ذلك يقول القرآن الكريم: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) (16) فليتأمل جيدا.

المسألة الثالثة: حول كلمة " نفس " النفس: الروح، يقال: خرجت نفسه، أي روحه، والنفس الدم، يقال: دفق نفسه، بمعنى دمه، والجسد والعين، ويراد بالنفس الشخص والإنسان بجملته، وبمعنى " عند " يقال: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) (17). انتهى ما في " الأقرب ". وقيل: كونها بمعنى الدم من المجاز، فما في " الصحاح ": سالت نفسه، أي دمه، وفي " الأساس " دفق نفسه، أي دمه، وفي الحديث: " مالا نفس له سائلة لا ينجس الماء " مجاز. قال بعض المحشين على " الصحاح ": هذا الحديث لم يثبت. وقال ابن بري: وإنما سمي الدم نفسا، لأن النفس تخرج بخروجه. ومن المجاز أيضا النفس بمعنى الجسد، وبمعنى العين (18).

وأبعد عن الحق ما اشتهر: أنه بمعنى " عند "، فإن ما في الآية ليس بمعنى " عند "، بل جملة " في نفسك " بمعنى " عند "، لا كلمة " نفس "، كما لا يخفى، وفي كلمات اللغويين مواضع كثيرة من المناقشة. والذي يظهر للمحقق المتضلع المراجع للمجامع والقرآن الكريم - مع كثرة استعمالها فيه البالغة إلى أكثر من ثلاثمائة مورد - هو أن النفس ليست الجهة الروحانية المجردة ولا البدن الخالي عنها، بل النفس هو الفرد المتمادي المقرون بالحياة الإنسانية، سواء كانت تلك الحياة مجردة روحانية أو غير مجردة، فإن الاعتقاد بالروح خلافي، دون الاعتقاد بالنفس. نعم ربما يطلق لبعض التوسعات في شخصية كل شئ وذاته، ومنه سبحانه تعالى، وربما يطلق على الروح والجهة العقلانية والرتبة الخاصة منها، وهذا أيضا بضرب من التوسع المحتاج إلى القرينة، والالتزام بالمعاني المتعددة غير ممنوع عقلا ولا عرفا.

وإن شئت قلت: النفس هي العين وعين الشئ، وبهذا المعنى تجمع على " الأنفس "، وبهذا المعنى كثير استعمالها في الكتاب العزيز، إلا أن كثرة استعمالها في الأفراد من الإنسان، بلغت إلى حد يحتاج سائر حصص المعنى الوحداني إلى القرينة. وأما إذا ورد قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والاذن بالاذن) (19)، فهي ظاهرة في حصة من المعنى الموضوع له. وتوهم: أن القرينة ناهضة عليه، مدفوع: بأن من الممكن دعوى أن المراد من " النفس بالنفس " أن كل شئ مضمون بالمثل، وكان ذلك عاما، وأما أجزاء الإنسان خصوصا ففيها حق القصاص أيضا، بخلاف أجزاء غيره من الأموال، حيوانا كانت أو غير حيوان.

إيقاظ

ربما يخطر بالبال أن يقال: بأن النفس من الألفاظ الموضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص، بناء على إمكانه، وينافيه قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها) (20)، فتدبر تعرف.

تنبيه

في المتون الفقهية إطلاق النفس السائلة على الدم، وليس في أخبارنا منه أثر إلا في " فقه الرضا " ففيه: " لا ينجس الماء إلا حيوان ذو نفس سائلة، أي ما له دم " (21)، وفي حديث عامي أشير إليه (22)، فعليه لا يمكن استفادة كون الدم أحد معانيها. نعم بناء على ما عرفت منا يمكن جواز إطلاقها عليه، لأن الحياة الحيوانية قائمة به في النظر العرفي، وبذهابه تذهب تلك الحياة، كما يقال: (بلغت القلوب الحناجر) (23)، فإنه أيضا بنحو من التوسعة على الوجه الذي تحرر فيما سبق بتفصيل. ويأتي معنى الشعور عند قوله تعالى: (ولكن لا يشعرون) إن شاء الله تعالى.


1- راجع تاج العروس 5: 312.

2- راجع لسان العرب 8: 63، وتاج العروس 5: 312.

3- راجع المفردات في غريب القرآن: 143، وتاج العروس 5: 312.

4- راجع البحر المحيط 1: 52.

5- راجع لسان العرب 8: 65، والجامع لأحكام القرآن 1: 196.

6- تاج العروس 5: 312.

7- نفس المصدر.

8- تاج العروس 5: 313.

9- تاج العروس 5: 314.

10- راجع لسان العرب 8: 65.

11- راجع الصحاح 3: 1202.

12- راجع تاج العروس 5: 312.

13- نفس المصدر.

14- حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 2 / السطر 9.

15- النساء (4): 142.

16- الإسراء (17): 1.

17- أقرب الموارد 2: 1328.

18- راجع تاج العروس 4: 359.

19- المائدة (5): 45.

20- الأعراف (7): 189.

21- الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 92، الباب 5.

22- النهاية، ابن الأثير 5: 96.

23- الأحزاب (33): 10.