التفسير والتأويل على مسالك مختلفة ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (ومن الناس من يقول آمنا بالله) الذي أمرك بنصب علي إماما وسائسا لامتك ومدبرا، (وما هم بمؤمنين)، ولكنهم يتواطؤون على إهلاكك وإهلاكه، يوطئون أنفسهم على التمرد على علي ان كانت بك كائنة (1). وعن " الكافي " مسندا عن أبي بصير، قال: قال: " إن الحكم بن عتيبة ممن قال الله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)، فليشرق الحكم وليغرب، أما والله لا يصيب العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل " (2). وقريب منه: كان المقصود من سوق تبجيل الكتاب إلى ذكر المؤمنين واستطرادهم بالكافرين، ذكر هؤلاء المنافقين الذين نافقوا بولاية علي (عليه السلام)، خصوصا على ما هو المقصود الأتم من الكتاب والإيمان والكفر والنفاق، أعني كتاب الولاية والإيمان والكفر والمنافق، فإنه أقبح أقسام الكفر في نفسه، وأضرها بالمؤمنين، وأشدها منعا للطالبين، ولأجل ذلك بسط في ذمهم وبالغ في ذكر قبائحهم. ويعلم من تمثيل أحوالهم في آخر الآيات النازلة في ذمهم: أن المراد هم المنافقون بالولاية، لأن المنافقين بالرسالة ليست حالهم شبيهة بحال المستوقد المستضئ، فإن المنافق بالرسالة لا يستضئ بشئ من الأعمال، لعدم اعتقاده بالرسالة وعدم القبول من الرسول، بخلاف المنافق بالولاية، فإنه بقبوله للرسالة يستضئ بنور الرسالة والأعمال المأخوذة من الرسول، لكن لما لم يكن أعماله المأخوذة وقبوله الرسالة متصلة بنور الولاية، كان نوره منقطعا.

وعلى مسلك أصحاب التفسير وأرباب الرواية والحديث: فعن ابن عباس: يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم. وعن قتادة، قال: هذه في المنافقين. وعن مجاهد، قال: هذه الآية إلى ثلاث عشرة في نعت المنافقين. وعن ابن مسعود: هم المنافقون. وعن الربيع بن أنس: إلى (فزادهم الله مرضا) قال: هؤلاء أهل النفاق (3). وغير خفي: أنه لا تنافي بين هذه الأقوال مع ما مر من الأخبار، لأن هذه الطائفة متعرضة لمعنى كلي. نعم في روايات ابن عباس ما يتعرض لأسماء المنافقين وقد تركوها لإطالة الكلام بها (4) ولكنها - مع ضعف سندها - لا توجب حصر الدلالة في الأشخاص المذكورين حسب ما تبين عند أهله.

وعلى مسلك الفقيه: (ومن الناس من يقول) ويظهر إيمانه مع عدم اعتقاده، ويعلن إسلامه واعترافه بالرسالة وبالمعاد وبالتوحيد، ولكنه ليس بمسلم ولا بمؤمن بالله ولا باليوم الآخر. ومن الممكن أن تكون الآية في موقف الإنشاء والدعوة العامة إلى أن لا يكون الناس هكذا، من غير كون المقصود إخبارا. وقريب منه: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر)، ويقول: أسلمنا واعترفنا بالرسالة، لأن الإيمان بالله على وجه يقتضيه الإسلام، هو الاعتراف بالله وباليوم الآخر، فيكون في اعترافه بهما معترفا بالإسلام قهرا وطبعا، ولكنه مجرد لقلقة اللسان، فلا يكونوا بمؤمنين ولا مسلمين.

وعلى مسلك المتكلم: (ومن الناس من يقول آمنا بالله)، وآمنا (باليوم الاخر) إيمانا مستقلا آخر، من غير أن يكون في الإيمان بالله الإيمان بالآخرة، (وما هم بمؤمنين) ومن هو المؤمن هو الذي يؤمن بالله على حسب أدلته، ويؤمن بالآخرة حسب أدلته، ولا يكون ذلك من مقولة القول، بل هو من مقولة الكيف النفساني، سواء أظهره واعترف به، أم لم يظهره بالقول أو الفعل. وقريب منه: (ومن الناس من يقول آمنا) حالفين (بالله)، ويظهر إيمانه بالمبدأ والرسالة، وبجميع ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (وباليوم الاخر)، وهو اليوم العقيم الذي لا يوم وراءه ولا ليل خلفه، (وما هم بمؤمنين)، أو يكونون حالفين بالله وباليوم الآخر، ويدعون الإيمان المطلق، قال الله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) (5)، فإن من الناس من يقول: آمنا حالفين بالله، وباليوم الآخر، ولكنهم ليسوا بمؤمنين، ويخادعون الله... إلى آخره.

وقريب منه: (ومن الناس من يقول آمنا بالله) وبيوم آخر، وهو يوم الرجعة، أو ظهور الحجة، فإنه يوم حقيقة، بخلاف اليوم الآخر، فإنه لاوقت في النشآت الغيبية، حتى يعتبر يوما، وأما في هذه النشأة فيوم الظهور أو يوم الرجعة يوم آخر، باعتبار انتهاء الظلم والشر وظهور الخير والنور والكرامة والسعادة. وقريب منهما: (ومن الناس) وبعض الجماعة الموجودين من أهل الشرك أو من أهل الكتاب أو غيرهما، (يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين)، لعدم اعتقادهم بالولاية والرسالة، (وما هم بمؤمنين)، أي بالآخرة والرسالة، وما هم بمؤمنين، أي بالله وبجميع ما جاء به الإسلام، (وما هم بمؤمنين)، أي بالله وباليوم الآخر، ويكونون مشركين. وقريب منهما: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) معا، (وما هم بمؤمنين) بالنسبة إلى مجموع المبدأ والمعاد وإن كانوا مؤمنين بالنسبة إليه تعالى، وأهل الكتاب والشرك مشتركون في عدم اعتقادهم باليوم الآخر على الوجه الذي كان يصر عليه الإسلام، فيصح أن يقال في حق مجموعهم: إنهم لا يؤمنون، وليسوا بمؤمنين.

وعلى مشرب أهل العرفان والإيمان: (ومن الناس) - وليسوا بناس - (من يقول) ويتفوه بقوله: (آمنا بالله) وبالمبدأ الأعلى (وباليوم الآخر) والمعاد، (وما هم) بحسب الفطرة والذات (بمؤمنين) قط، ولا يمكن انتزاع مفهوم الإيمان - المتقوم بالصفة الثابتة - عنهم في جميع الأوعية والنشات. ومن الناس) - وهم الأكثر منهم - (من يقول آمنا بالله) بحسب الصورة الظاهرة، وبحسب القلب والطبع، بل بحسب الروح والسر، (وما هم بمؤمنين) بحسب الحقيقة، فإنهم على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون، والذين هم بالغيب يؤمنون وبالآخرة يوقنون، وذلك لعدم ظهور آثار الإيمان من سيماهم ولعدم بروز خواص الإسلام والتسليم والرضا من حركاتهم وأقوالهم.

وقريب منه: (ومن الناس من يقول آمنا بالله)، وهو مؤمن قلبا واعتقادا ولسانا، وهو مؤمن بحسب العمل بالأركان، وموقن بالآخرة، ولكنه أيضا ليس بمؤمن عند الله تعالى، فإن المؤمن عنده هو المظهر الأتم والمجلى الأعظم للاسم الجامع، المسافر إلى الله تعالى بالتحقق والعيان وبالشهود والعرفان، القاطن في العماء، الراجع إلى العيان بعد الفناء، الحافظ للبرزخية الكبرى، الجامع بين الغيب المطلق والشهادة المطلقة، النائل إلى الحضرات الخمسة، وكل من كان دونه يكون دونه في مراتب الإيمان، إلى أن يصل إلى مرتبة الإقرار باللسان مقترنا بعدم الاعتقاد، وأسوأ حالا منه إذا كان يعتقد خلافه، وأسوأ منه إذا كان إقراره خدعة واستهزاء، وكان بداعي إلقاء البغضاء والعداوة بين أبناء الإيمان وأرباب الإيقان أو بسائر الدواعي الفاسدة. فبالجملة: تشمل الآية تلك الطوائف إلا الذي خرج عن حد الإمكان، ورجع، وهو الحق المخلوق به، ولا يترنم أو لا يتمكن من أن يترنم بقول الآخرين: وجودك ذنب لا يقاس به ذنب وفي الفارسية: گرفتم آنكه نگيرى مرا بهيچ گناهى همين گناه مرا بس كه با وجود تو هستم وغير خفي: أن في مقارنة الكفار بالمؤمنين، ومقارنة المنافقين بالكفار، نوع شهادة على أن الطائفة الثالثة أسوأ حالا من الثانية، وأسود وجها في الآخرة، كما تقارن اليهود والحمار في سورة الجمعة (6)، ثم اختص المؤمنين بالخطاب، فلا يستبعد أن يكون الكتاب ناظرا إلى هذه النكات.


1- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 113.

2- الكافي 1: 463 / 4.

3- راجع تفسير الطبري 1: 116.

4- راجع تفسير الطبري 1: 116، والدر المنثور 1: 29.

5- العنكبوت (29): 2.

6- الجمعة (62): 5 - 6.