بحث عرفاني وإرشاد أخلاقي

اعلم: أن هذه الآية الشريفة - حسب مراتب الإيمان - قابلة للتطبيق على جميع المؤمنين والمسلمين، وأن كل إنسان إذا راجع قلبه ومخزن علمه وإيمانه بالله وباليوم الآخر، يجد وجدانا أنه ما آمن به تعالى، فإن الإيمان بالاسم الجامع والإيقان بالله له الآثار والخواص، فمن كان يؤمن بالله تعالى، وبأنه تعالى هو الجامع الكلي، وهو الكامل على الإطلاق، وأنه المتحقق بالحقيقة والذات، وأن الوجود لا يليق إلا بالحضرة الإلهية، ومن تجلى قلبه بالوحدة الذاتية الإطلاقية وبالواحدات الأسمائية والصفاتية والأفعالية، كيف يمكن أن يجد نفسه بحذائه تعالى، ويلمس وجوده وراء وجوده، فإذا كان الأمر كذلك حسب البراهين العلمية والأدلة الإيمانية والشواهد العرفانية، فلا يكون مؤمنا بالله، فيستحق أن يقال في حقهم: إنهم لا يؤمنون، وما كانوا مؤمنين. ومن كان مؤمنا بالله تعالى، وبأنه لا إله إلا الله، ولا مؤثر في الوجود إلا هو، وأنه إليه يرجع جميع الكمالات، وبيده أزمة الأمور وجميع الإرادات الكلية والجزئية، فكيف يمكن أن يذهب إلى الأبواب الباطلة، ويرفع أياديه إلى غيره تعالى، ويطلب من غيره تعالى، فإذا كان الأمر كما تبرهن وتبين يجد أنه لا يكون من المؤمنين، وينبغي نفي الإيمان عنه. ومن كان مؤمنا بالله تعالى وباليوم الآخر، وبأن الدار الآخرة دار باقية، والدار الدنيا فانية لا كمال فيها إلا كمالا وهميا، فلا يهتم إلا بالسلوك إلى تلك الدار، بجميع ما يساعده فيها من الخيرات والبركات، وبكسب الحسنات وطرد السيئات، حتى يتحلى بحلية التخلية، ويتجلي بجلاء التجلية والصفات الحميدة. وإذا كان الأمر كذلك فيجد في وجدانه وفي قلبه أنه لا يكون من المؤمنين، ولا يستحق أن يعبر عنه بأنه مؤمن، فيلزم استحقاقه لقوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين). ومن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر يصنع لله ولليوم الآخر، ويهتم بذلك حتى يخلو عن الشرك والرياء، وينجو من الظلمات في البرزخ وفي النار ويتخلص عن السمعة والعجب والعصبية وغيرها، فإذا كان في نفسه من أهل هذه الصفات والأفعال يصدق هذه الآية الكريمة الجامعة العامة، ويعتقد أنها لا تختص بالمنافقين ولا بالمسلمين والمؤمنين، بل قلما يتفق أن يخرج عنها أحد. والله الموفق المؤيد.

وإذ قد تبين لك هذه الآية بسعتها واتضح شمولها، فليتنبه كل مؤمن ومسلم إلى أن يتخلص عن مضمونها، ولا يكون في سلك الكفار واليهود والمشركين. وإني إذا أمر على حالاتي الشخصية وعلى أحوال الخواص نلمس يأسا شديدا، ونظن أن التخلص عن هذه المشكلات وتلك المعضلات - في هذه الأعصار وتلك الأمصار - مما لا يمكن عادة، ولا سيما مع كثرة المهلكات والموبقات وقلة المنجيات وأسباب الهداية. ولكن لما كان القنوط واليأس من جنود الجهل، وعلى ضد الفطرة السليمة والطينة المخمورة، ويكون من توابع الفطرة المحجوبة، وربما يعد من المعاصي الكبيرة، ومن الموانع عن الاهتداء، ويكون سدا عن السعادة والسيادة، ولما كان الإنسان ذا طبيعة مصحوبة بالمادة والإمكانات الاستعدادية، وذا سجية كامنة فيها قوة الوصول إلى الخيرات والسعادات الدنيوية والأخروية في جميع الأحيان والأزمان، ولا تحتجب المادة الحاملة للصورة الإنسانية عن جلوات الحق وتجليات الرب، فلابد ويجب عليه السعي البليغ والاجتهاد الواسع والقيام القاطع، لنيل تلك السعادة ودرك المعارف الحقة، والوصول إلى حمام الصلح وعنقاء الوجود، بتوسيط الأسباب الخاصة وتسبيب المعدات الممكنة، وبالرجوع إلى أرباب الأنفس القدسية، ومزاولة النفوس الراقية المرشدة والأولياء الكملين والأذكياء والأبرياء، مع تطبيق القواعد الشرعية الإلهية والوظائف التكليفية الإسلامية على أقواله وأفعاله وأعماله، راجين - في عين الجد والانتهاض - من الله العزيز الإمداد الغيبي والإعانة السرمدية والعون الأحمدي والمحمدي والإعداد العلوي، ومتوجهين إلى الوسائل الزاكية بالإخلاص والتقوى، ومتعوذين بالله تعالى من شر الشيطان الرجيم اللئيم، ومن كل دابة هو آخذ بناصيتها مترنمين بالآيات الرحمانية والأشعار العرفانية والمدائح الإيمانية. وبالجملة: إذا غلبته الشقوة من كل جانب، فعليه أن يطوف حول السعادة حتى تحيط به، ويحول حول الخيرات حتى يصير خيرا، فإن جنود العقل والخير وإن تكن أحيانا مغلوبة، إلا أنها لأجل ورود الموائد الملكوتية والأغذية الروحانية الجبروتية، تقتدر على هضمها وجبرانها وتتمكن من قطعها وحرمانها فيصبح - إن شاء الله تعالى - مرآة تامة ومجلى عاما، ويكون مؤمنا صريحا بعونه وتوفيقه.