الفقه وبعض مسائله

اعلم: أن من المسائل المحررة في الفقه وتكون مورد الخلاف: هو أن الإسلام الذي به حقنت الدماء، وعليه جرت المواريث، وجاز النكاح، وحل أكل الذبيحة والتجهيز، هل هو مجرد الإسلام الصوري وإظهار الشهادتين الذي هو حال المنافقين، أم لابد من المطابقة مع الاعتقاد، بعقد القلب على مضمون الشهادتين، أم يشترط اليقين بمفهومهما؟وجوه بل أقوال: فعن الفقيه الإسلامي الجامع ل? " جواهر الكلام " (رحمه الله) في بحوث نجاسة الكافر: أنه يستفاد من التأمل والنظر في الأخبار - خصوصا ما ورد في تفسير قوله تعالى: (قالت الاعراب...) إلى آخره - أن الإسلام قد يطلق على مجرد إظهار الشهادتين والتلبس بشعار المسلمين وإن كان باطنه واعتقاده فاسدا، وهو المسمى بالمنافق، وحكى فيها عن " شرح المفاتيح ": أن الأخبار بذلك متواترة، والكفر عبارة عن عدم ذلك (1).

واختاره الفقيه الهمداني في " مصباحه " قائلا: إن ذلك لا يخلو عن قوة، كما يشهد بذلك معاشرة النبي مع المنافقين المظهرين للإسلام، مع علمه بنفاقهم، مضافا إلى شهادة جملة من الأخبار بكفاية إظهار الشهادتين في الإسلام، الذي به تحقن الدماء، من غير إناطة بكونه ناشئا من القلب، وإنما يعتبر ذلك في الإيمان الذي به يفوز الفائزون (2). وقال بعض من الإمامية: ويشهد لذلك بعض ما ورد في ذيل قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) (3). والمحكي عن المحقق الأعظم الأنصاري: الحكم بنجاستهم (4)، وعليه جمع من أتباعه، كالفقيه اليزدي (5) وغيره، وفيهم الوالد المحقق مد ظله (6). وقال بعضهم: الأقوى طهارتهم مع العلم بالخلاف بشرط أن لا يظهر الخلاف، أو بشرط أن يكون المظهر للشهادتين جاريا على طبق الإسلام (7).

وبالجملة: تكون المسألة خلافية. وقال العلامة في " التذكرة ": إن ابن إدريس قال بنجاسة كل من لم يعتقد الحق إلا المستضعف، لقوله تعالى: (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) (8)، والأقرب طهارة غير الناصب، لأن عليا (عليه السلام) لم يجتنب سؤر من يأتيه من الصحابة (9). وتحصل: أن ما يظهر من التفاسير: أن الكرامية فقط ذهبوا إلى كفاية الإقرار باللسان، في غير محله، بل الإمامية أميل إليه. نعم إذا كان رأي الكرامية كفايته للنجاة من النار والفوز بالجنة، فلا يقول به أحد من الإمامية، كما هو الظاهر. إذا تبينت المسألة بحدودها، واتضحت الآراء على كثرتها، فلنشر إلى كيفية الاستدلال لها بهذه الآية الشريفة: اعلم: أن الإيمان المذكور في هذه الآية إثباتا ونفيا هو الإسلام وإظهار الاعتقاد بالنبوة، حسب ما اتفقت عليه كلمات المفسرين من العامة والخاصة، فعليه تكون الآية دالة على أن المنافق والمظهر للشهادتين مع العلم بالخلاف - كما هو المفروض - ليس مسلما، ومن لا يكون مسلما لا يحقن دمه ولا يحل ذبيحته... وهكذا. وبتقريب آخر: إن الآية - حسب التاريخ - نزلت في مورد المنافقين (10)، وعليه روايات الفريقين (11)، وإذا كان إظهار الإيمان بالله وباليوم الآخر غير كاف لكون المظهر مؤمنا ومسلما - حسب الآية الشريفة - فعدم كونه مسلما بإظهار النبوة يكون بطريق الأولى وبوجه أقرب. وأما الآية المشار إليها - وهو قوله تعالى: (ولا تقولوا) (12) - فهي ليست في مورد العلم بالخلاف، مع احتمال كون الاعتقاد مطابقا للكلام والإظهار.

وأما قوله تعالى: (وقالت الاعراب آمنا) (13) فهي أيضا في مورد نفي الإيمان القلبي الراسخ البالغ إلى حد الملكة والطبيعة، وهذا لا ينافي الإسلام اعتقادا، كما هو حال نوع المسلمين. أقول: الحق أن المنافقين الذين يظهرون الإسلام نظرا إلى التجسس وإيقاع الفتنة، وينسلكون في سلك المسلمين متوجهين إلى إيقاع الفساد والخلاف والبغضاء حتى يصلوا إلى ما أضمروه، من الكافرين الذين اشتهر نجاستهم في الفقه، ولا يكفي مجرد الإظهار المزبور لخروجهم عن تلك الطائفة، ويصح أن يقال في حقهم: إنهم ليسوا بمؤمنين. وأما الذين يظهرون الإسلام صيانة لدمائهم، وناظرين إلى أن الإسلام ربما يتقدم، ويعيشون تحت لوائه وفي ظلاله أحسن العيشة وأكرم الحياة، فيكون إظهارهم حفاظا على مصالحهم الشخصية أو الطائفية، ويجاهدون في سبيله، ويضحون بأنفسهم لرقاه وسلطته، من غير نظر إلى هدم الإسلام، أو إلقاء البغضاء والعداوة بين المسلمين، فهم حسب الأدلة المشار إليها لا يبعد طهارتهم الظاهرية. فهنا طائفتان من المنافقين: الأولى نجسة خبيثة جدا، والثانية نجسة ربما تصير أخبث منهم بعدم الوفاء بجميع الأحكام الإسلامية، أو بعض الأصول الرئيسة الغير المضرة بموضوع الطهارة، ومن تلك الولاية حسب مباني الشيعة الإمامية. عصمنا الله من الزلل إن شاء الله تعالى.

تذنيب

عدم إمكان الاستدلال بالآية لو كان المراد غير المنافقين قد أشرنا في مطاوي بحوثنا السابقة إلى أن هذه الآية، كما يمكن أن تكون ناظرة إلى حال المنافقين، يمكن أن تكون ناظرة إلى حال المشركين الجاحدين، بل النظرة الثانية متعينة حسب الظاهر منها، واتفاق أصحاب التفسير لا يكشف عن نقاب المعضلة شيئا، وليس في الأخبار ما يمكن الوثوق به، فعلى هذا كان العرب المشركون من المنافقين، وأما اليهود والنصارى فهم أيضا كانوا يظهرون الإيمان بالله واليوم الآخر على وجه يعتقده المسلمون، وفي ضمن إظهار الإيمان بالله واليوم الآخر كانوا يظهرون الإسلام والإيمان بالنبوة، حفاظا على ما أضمروه من الوصول إلى مقاصدهم السيئة ومسالكهم الباطلة. فعلى هذا لا يتم الاستدلال بها على ما هو المقصود في المقام، ضرورة أن الجهة المبحوث عنها هو ما إذا أظهر الإسلام، ولم يكن من المسلمين في منطق القرآن، وأما إذا كان يظهر الإيمان بالله وباليوم الآخر، ولا يكون مؤمنا بهما في منطق القرآن، فلا يستفاد منها أن الإقرار بالإسلام المخالف للاعتقاد لا يكفي لحقن الدماء. إن قلت: بناء على أن الإقرار الظاهري بالله من اليهود كان مصحوبا بالإقرار بالنبوة، فيكون النفي دليلا على المطلوب. قلت: لا تنافي بين كون الإقرار بالله وباليوم الآخر مصحوبا بالإقرار بالنبوة والرسالة، ولكن النفي مرتبط بما في الكلام فقط، فتأمل جيدا.

تنبيه

إن التدبر في الآيات الآتية وفي قوله تعالى: (في قلوبهم مرض...) إلى آخره، وفي قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا...) إلى آخره، وفي قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) يجد أن حال المنافقين موضوع البحث وأن الآية التي ابتدأت بذلك هو قوله تعالى: (ومن الناس)، وجميع الضمائر المتأخرة ترجع إلى قوله تعالى: (ومن الناس)، وهذه الآية مرجع الضمائر الكثيرة الآتية إلى الآية العشرين، وهي قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم...) إلى آخره. فلا وجه للمناقشة في اختصاص الآية بالمنافقين، سواء فيه المنافقون المشركون أو المنافقون من أهل الكتاب، ولكن الرجوع إلى قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا)، وإلى قوله تعالى: (إنما نحن مصلحون)، وإلى قوله تعالى: (آمنوا كما آمن الناس)، وإلى قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا...) إلى آخره، وإلى أن هذه السورة مدنية، وإلى تمثيل حالهم بحال المستوقد المضئ، يفيد أظهرية الآيات في المنافقين من أهل الكتاب، فإن المشرك لا يستضئ بشئ من الأعمال لعدم اعتقاده، بخلاف أهل الكتاب، فتدبر تعرف.


1- راجع جواهر الكلام 6: 59.

2- راجع مصباح الفقيه، همداني (كتاب الطهارة): 563 / السطر 35 - 37.

3- النساء (4): 94.

4- انظر الطهارة، المحقق الأنصاري، النظر السادس في النجاسات، الثامن: الكافر.

5- راجع العروة الوثقى 1: 54.

6- راجع حاشية الإمام الخميني (رحمه الله) على العروة الوثقى 1: 54 و 108، تحرير الوسيلة، الإمام الخميني (رحمه الله) 1: 118.

7- راجع العروة الوثقى 1: 109.

8- الأنعام (6): 125.

9- راجع تذكرة الفقهاء 1: 8.

10- راجع السيرة النبوية، ابن هشام 2: 178 - 179.

11- راجع تفسير القمي 1: 34، والدر المنثور 1: 29.

12- النساء (4): 94.

13- الحجرات (49): 14.