بعض بحوث كلامية

البحث الأول: حول حقيقة الإيمان ذهب محمد بن كرام السجستاني وأصحابه إلى أن الإيمان هو القول باللسان وإن لم يعتقد القلب. واحتجوا بقوله تعالى: (فأثابهم الله بما قالوا) (1)، وبما ورد في السنة المنسوبة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم (2)، (3). وتدل هذه الآية الشريفة على خلافهم، لنفي إيمان القائلين بالمبدأ والمعاد على نعت النفاق، فمجرد القول والإقرار باللسان لا يكفي إذا كان ينكر ضميرهم. والآية السابقة لا تدل على أن الثواب لمجرد القول، بل ربما كان ذلك للتلازم العرفي بين القول وبين الإيمان القلبي، وقوله: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) (4) لا يدل على أن الفلاح مرهون نفس القول ولو كان بنحو الاستهزاء والحكاية، فيكون المراد على هذا ما كان قولا حاكيا عن الإيمان القلبي. نعم لو ثبت شرعا أن الإقرار باللسان إيمان يصون به النفس والعرض والمال، لا تدل هذه الآية على خلافه، لإمكان إسراء الاحتمال إليها، وهو كون النفي ناظرا إلى نفس الإيمان القلبي، وتكون الآية في موقف إنذار المؤمنين عن تدخل الأجانب المفسدين في أمورهم، وتكون في معرض إخبارهم بوجود المنافقين فيهم، من غير كونها بصدد نفي الإيمان، الذي هو موضوع لتلك الأحكام المحررة الشرعية في فقه الإسلام، كما سيأتي بعض الكلام حوله في البحوث الفقهية.

البحث الثاني: في مسألة اختلافهم في أن الكافر أسوأ حالا أم المنافق (5) يمكن الاستدلال بهذه الكريمة وما بعدها من الآيات الواردة في حق المنافقين على أن المنافقين أسوأ حالا من الكفار الجاحدين، وذلك لاشتمال الآيات الكثيرة على تعييرهم وذمهم وسوء عاقبتهم، وأما في حق الكافرين فلا تكون الآيات في هذه السورة بتلك المثابة، مع أن آيات الكفرة تشمل المنافقين، ولا عكس، فتأمل جدا.

البحث الثالث: حول عدم معذورية من لا يعرف الله أن من المتكلمين من يقول: بأن من لا يعرف الله تعالى يكون معذورا (6)، وهذه الآية تدل على عدم معذوريتهم، لما ذمهم الله تعالى على عدم عرفانهم وإن كانوا مقرين بألسنتهم. ومن الممكن المناقشة في ذلك: بأن الذم يتوجه إليهم لنفاقهم دون عدم عرفانهم، فما تخيله الفخر مزيف جدا (7).

البحث الرابع: حول الملازمة بين العلم بالمبدأ والمرجع في مسألة الملازمة بين العلم بالمبدأ والعلم بالمرجع، وبحث استتباع الإيمان بالله الإيمان بالآخرة - لأن العلم بالعلة يورث العلم بالمعلول، والإيمان بالفاعل يوجب الإيمان بالفعل - يمكن التمسك بهذه الكريمة على عدم الاستلزام وعدم الاستتباع، وذلك لقوله تعالى: (من الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر) بتكرار الباء موميا إلى أن الإيمان المتعلق بالأول غير الإيمان المتعلق بالثاني، والغيرية تنادي بعدم الملازمة الخارجية، كما إذا قال: مررت بزيد وبعمرو، فإنه يومئ إلى أن المرور كان متعددا. وفي تعبير آخر: في مسألة استقلال شرافة كل واحد من العلم بالمبدأ والعلم بالمعاد، أو علم المبدأ وعلم المعاد، يمكن استكشاف: أن كل واحد شريف في حد ذاته، ولا يلزم أن يكون الإيمان بالآخرة داخلا في الإيمان بالله تعالى، وبالعكس. أقول: العلم بالعلة بما هي علة يستلزم العلم بالمعلول، وبالعكس، مع اختلاف مراتب العلم، إلا أن العلم بذاتها لا يستتبع شيئا مما ذكر، وهكذا العلم بذات أحد المتلازمين لا يستلزم شيئا إلا مع العلم بالملازمة. ثم إن الكريمة الشريفة وإن كانت تشعر بالتعدد، ولكنها لا تشعر بعدم التلازم، وما هو المقصود هو الثاني، دون الأول، ضرورة أن العلم بالمعاد ليس عين العلم بالمبدأ، ولا يقول به أحد، وما يمكن أن يقال: هو التلازم الساكتة عنه الآية ظاهرا ومن الممكن دعوى استفادة أشرفية علم المبدأ والإيمان به من الكريمة لأجل تقديمه وكونه معطوفا عليه، وأما تكرار الباء فلا يدل إلا على المتعدد، على إشكال فيه محرر في النحو، والأمر سهل. وغير خفي: أن نظرنا في هذه البحوث إلى إمكان انبساط الكرائم القرآنية والآيات الفرقانية على المسائل المختلفة وبحوث شتى، والتصديق أخص منه. وإنا نذكر كيفية الاستخراج قوة وإمكانا، توهما أن يأتي من يصدقه ويعتقد به، وحرصا على أن كل آية في الكتاب ربما ينفتح منها الأبواب. والله ولي الصواب، وإليه المتاب والمآب.


1- المائدة (5): 88.

2- راجع شرح المقاصد 5: 178 و 182 - 183، والملل والنحل 1: 103 - 104.

3- راجع بحار الأنوار 18: 202 / 32.

4- انظر بحار الأنوار 18: 202.

5- راجع في تفصيل البحث إلى التفسير الكبير 2: 60.

6- راجع التفسير الكبير 2: 60.

7- التفسير الكبير 2: 60.