التفسير من الآية 19 إلى الآية 26

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النور/19) ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (النور/20) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (النور/21)

ذكرنا أن القرآن يؤكد كثيرا على وجوب نقاء الأجواء الإسلامية من التهمة والافتراء والبهتان والقول السيء. والمسلمون مكلفون بوأد كلّ ما يسمعونه عن إخوانهم وأخواتهم المؤمنات طالما لم يبلغ حدّ اليقين القطعي - لا بمجرد الظن والتصور - وأن لا يتناقلوه حتى بصورة "لقد سمعت" ما دامت ليست فيه أية بينة شرعية، لأن نقل الكلام على هيئة "سمعت ان ..." هو نوع من إشاعته أيضا.

والإسلام يرفض أي نوع من الإشاعة لمثل هذه الأقاويل والأخبار القذرة الدنيئة فقد جاء في الآية ﴿وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة/216) أي أنكم لا تعلمون مدى جسامة هذه الجريمة ولا تعلمون حجم العقوبة المقررة لها.

الإسلام يريد أن تتوطد أسس المجتمع الإسلامي على أساس الثقة المتبادلة وحسن الظن والقول الحسن، لهذا السبب حرم الغيبة إلى الحد الذي جعل القرآن الكريم يقول عنها: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحجرات/12). وعلى هذا الأساس يؤكد القرآن بصيغ وأساليب شتى على هذه القضية، ومن جملة ذلك ما ورد ي الآية الشريفة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النور/19). وهذه الآية من الآيات التي تحمل معنيين وكلاهما صحيح.

أحد الذنوب الكبيرة التي توعّد القرآن بالعذاب الأليم جزاء لها هي إشاعة الفحشاء بين الناس. هناك من يروج لإشاعة الفساد بين الناس لأغراض مادية أو لأطماع أخرى. وأكثر هذه الأغراض في عصرنا الحاضر أغراض استعمارية. يريدون إشاعة الفحشاء بين الناس لأنه ما من شيء يضعف العزائم مثل شيوع الفساد والفحشاء. إذا كنت ترمي إلى صرف شباب بلد ما عن القضايا الجادة والمصيرية وتلهيهم عن النشاط والعمل المثمر الذي يهدد مصالح القوى الاستعمارية، ما عليك إلا أن تشيع الفساد وتكثر من المشروبات الكحولية، والملاهي والمراقص وفسح المجال أمام سبل الاتصال والعلاقات بين الفتيان والفتيات. وبنفس القدر الذي يضعف فيه الهيروئين والترياق القوى الجسمية والروحية للشباب، ويوهن مشاعر الكرامة والرجولة والقوة منهم، كذلك يفعل الفساد في المجتمع.

لدى الأمريكيين برنامج يستهدف إفساد العالم بأسره وخلاصته: انشر الفساد أكثر تكون مرتاح البال من الشعوب. يقال إن مدير إحدى المجلات كتب في عدد هذا الأسبوع (نلفت نظر القارئ إلى أن هذه المحاضرات القيت في العهد الشاهنشاهي البائد).

"سأقوم بعمل تكون نتجته أن لا توجد في طهران حتى عشر سنوات أخرى فتاة باكرة واحدة من سن العاشرة فما فوق" وهذا كله يجري وفق خطط وبرامج.

أما السبب الذي جعل الإسلام يؤكد على أهمية العفة فهوا أن الطاقات الإنسانية كامنة فيها. قد لا يصدق أحدنا أن الإدارة الإنسانية كامنة في الجهاز التناسلي، لكن حقيقة الأمر هي هذه. الإسلام لا يعارض العلاقات الجنسية ولكن يريدها أن تكون ضمن إطار العائلة، ولا يؤيد ما تذهب إليه الكنيسة والمذهب الكاثوليكي. إلا أنه لا يجيزه خارج الزواج الشرعي.

ويستهدف الإسلام من وراء هذا، المحافظة على روح النخوة والنبل والشهامة والإنسانية والشرف عند الرجل المسلم والمرأة المسلمة. وسنتحدث بمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع في الآيات التالية الواردة بشأن الحجاب.

يقول القرآن الكريم عمن يريد إشاعة الفاحشة لقتل هذه الروح الإنسانية:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النور/19) ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (النور/20) وقد حددت الآية نوع العذاب الأليم للإشارة إلى أهمية وحساسية هذه القضية في الرؤية الإسلامية. هذا تفسير للآية التي تتحدث عن إشاعة الفحشاء بين أهل الإيمان.

أشير هنا إلى قضية لغوية حول معنى حرف الجر "في" لإلقاء الضوء على المعنى الثاني للآية. هذا الحرف يأتي أحيانا بمعني يشير إلى الظرف المكاني، وأحيانا بمعنى "بشأن" أو "فيما يخص". ويمكن تفسير هذه الآية على الوجهين وهو تفسير صحيح، وينطبق كلاهما مع سياق آيات الإفك. وبهذا يكون المعنى الثاني للآية هو:"الذين يحبون إشاعة الفاحشة عن أهل الإيمان" أي ليس المراد: الذين يحبون إشاعة الفساد ذاته بين الذين آمنوا، بل أن تشيع تهمة الفساد بشأن الذين آمنوا، أي أن يساء إلى سمعتهم.

هناك عدد من الناس لديهم ما يمكن أن يصطلح عليه علم النفس اليوم باسم "العقدة"، فحيثما شاهدوا شخصا له مكانة بين الناس يبادرون إلى إشاعة ما ينتقص منه حسداً منهم له لعدم قدرتهم على مجاراته. يقولون في أنفسهم: ما دمنا لا نستطيع بلوغ منزلته إذن فلنحاول الهبوط به. والطريق إلى ذلك يتم بمنتهى الدناءة عبر تلفيق الإشاعات ضدة. ولا شك في أن الإثم الناتج عن هذا العمل لا يعلم مداه إلا الله !

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات مرة لأصحابه: " ألا أخبركم بشر الناس؟ قالوا: بلي يا رسول الله قال: الذي يمنع رفده ويضرب عبده ويتزود وحده، فظنوا أن الله لم يخلق خلقا هو شر من هذا. ثم قال: إلا أخبركم بمن هو شر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله .

قال: الذي لا يرجى خيره ولا يؤمن شره فظنوا أن الله فظنوا أن الله لم يخلق خلقا هو شر من هذا، ثم قال ألا أخبركم بمن هو شر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال المتفحش اللعان الذي إذا ذكر عنده المؤمن لعنهم وإذا ذكروه لعنوه؟(الكافي ج2/290 ح7) وإلى هنا توقف الرسول. ومعنى هذا إنه لا يوجد من هو شر من هذا.

إذن فالمعنى الثاني للآية هو أن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة بشأن الذين آمنوا لهم عذاب أليم. ثم يقول: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ لم يقولوا لنا سابقا أن لكل ذنب عذاب في الدنيا والآخرة، بل وان الكثير من الذنوب لا عذاب لها في الدنيا. ولكن لكل ذنب عقوبة في الآخرة. إلا أن ثمة ذنوب لا يتغاضى الله عن المعاقبة عليها حتى في الدار الدنيا. أحد الذنوب التي لها عقوبة في الدنيا - ويمكن تجربة ذلك عمليا ! - هو ذنب التهمة وهدر كرامة الآخرين. فمن يتهم الآخرين بالباطل سيقع هو في نفس هذا المأزق يوما ما، فقد يأتي شخص مثله ويتهمه بالباطل، أو يفتضح أمره وتهدر كرامته بشكل أو آخر.

﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي أن الموضوع على قدر عظيم من الأهمية بحيث أنّ الله يعلم خطورته وأنتم لا تعلمونها. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (النور/20) أي كل ينبغي أن يصيبكم عذاب عظيم بسبب غفلتكم هذه إلا أن الله بفضله منع عنكم ذلك.

ثم يأتي تأكيد آخر هو: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾ (النور/21) وهذه الآية حثٌّ على عدم اتباع الشيطان. وقد يقول قائل: نحن لا نعرف الشيطان ولا نراه، فمن أين لنا أن نفهم أن هذا موضع لقدم الشيطان فلا نضع قدمنا فيه؟ والحقيقة أن هذا الأمر لا يحتاج إلى رؤية. اعرفوا الشيطان من وساوسه. فمتى ما شعرتم بوسوسة الشيطان في قلوبكم يدعوكم فيها إلى ارتكاب القبيح والمنكر، فهناك خطوات الشيطان، فهو قد تقدمكم ويدعوكم للسير خلفه. وهذا مما لا يستلزم الرؤية بالعين، بل تحرز رؤيته بالقلب. ﴿وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ عليه أن يعلم أن من يتبع خطوات الشيطان ﴿فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾.

﴿الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ هذا تأكيد آخر على أنكم أيها المسلمون كنتم على شفا حفرة في عهد الرسول، وان مجتمعكم كاد أن يسقط فيها لولا وجود الرسول. واعلموا أنه لو وقعت مثل هذه القضية في عصور أخرى وكثرت الإشاعات التي تنتهك أعراض المسلمين، فأنكم ستسقطون وتقعون في مهلكة كبرى "كما هو حالنا اليوم" ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ أي لولا فضل الله عليكم لما كان أي واحد منكم طاهرا ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ الآية اللاحقة تتعلق بهذه القضية، ولكن تتناولها من جانب آخر وهو:

﴿وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النور/22) يشير القرآن هنا إلى مسألة تتعلق بامتناع الأثرياء وأولي الفضل عن الإنفاق. والمراد هنا بالفضل المال والثروة، وأولوا الفضل بمعنى الأغنياء.

كلمة "الفضل" تستخدم في يومنا هذا بمعنى الفضل العلمي فقط، ونحن اليوم إذا قلنا هذا رجل فاضل فمعناه أنه رجل عالم. إلاّ أن القرآن يطلق كلمة الفاضل على من لديه مال وثروة حصل عليها من سبل مشروعة. ومن جملة ذلك ما ورد في سورة الجمعة وهي قوله: إذا قضيت الصلاة ﴿وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الجمعة/10). أي إذهبوا للكسب والتجارة والحصول على المال من سبل مشروعة.

يقول القرآن: على الأغنياء وأصحاب الثروة المشروعة أن لا يقسموا على قطع العطاء عن المستحقين، حيث كان بعض أغنياء المسلمين يقدمون العون إما للمهاجرين أو للمساكين أو لأقربائهم، ولكنهم في أحد المواقف - ويبدو انه هذا الموقف - رأوا منهم ما يغيض ويبعث على الغضب. ولهذا قالوا: عجيب أمر هؤلاء القوم نحن نساعدهم لوجه الله وهم يستغلون هذا العون ويرتكبون المعاصي ! نحن نساعدهم لوجه الله وهم يلفقون الأكاذيب ويبثون الإشاعات! ولهذا السبب عزموا على قطع العون عمن كانوا يساعدونه من الفقراء الذين شاركوا في قضية الإفك تلك، وأقسموا أنهم لن يقدموا لهم أي عون بعد الآن. إلا أن القرآن الكريم يحرص على وحدة المجتمع الإسلامي أكثر من أي شيء آخر.

مع ان هذه القضية كان فيها إفك وتهمة كبرى وارتكب عامة المسلمين خطأ في هذا الصدد، انبرى القرآن لإصلاح الخطأ الماضي وقال لعامة المسلمين: أنكم اخطأتم حينما جعلتم أنفسكم أداة لبث إشاعة تلك العصابة. وبعد أن عزم الأغنياء على قطع معوناتهم عن الفقراء، فبما أن قطع تلك المعونات من شأن أن يؤدى إلى عزل تلك الفئة عزلا تاما، جاء الأمر بالصفح عنهم: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (النور/22) بعد نزول هذه الآية قرر الأغنياء عدم قطع معونتهم عمن كانوا يقدمونها له.

أود هنا الإشارة إلى نقطة معينة وهي أن من لا يعرف الإسلام لا يدرك انه ينتهج أسلوب المحبة في أعلى درجاته ولكن في الموضع المناسب. كثيرا ما يصرح المسيحيون ويشيعون أن الدين المسيحي دين المحبة والإحسان والتسامح. وما الدليل على ذلك؟ الدليل هو أن المسيح (عليه السلام) قال: إذا صفعك أحد على خدك الأيمن صَعِّر له خدك الأيسر. لكن الإسلام دين العنف والشدة والسيف، لا صفح فيه ولا تسامح ولا محبة.

هذا خطأ فاضح. الإسلام دين سيف ودين محبة. دين عنف ودين لين. وفي هذا تكمن عظمة الإسلام لأنه يبيح القسوة في موضعها والعفو في موضعه. ولو لم يكن هذا منهج الإسلام: أي الرد على العنف بالعنف، والمنطق بالمنطق والتعامل بالمحبة في الموضع الصحيح، بل وحتى استعمال أسلوب المحبّة في مواضيع الإساءة، لما قبلناه. الإسلام لا يأمر أبداً بأنّه إذا صفعك شخص متجبر على خدك الأيمن قدم له خدك الأيسر، وإنما يقول ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة/194). ولو لم يكن هذا منطق الإسلام لا أعتبر ذلك منقصة فيه.

وبما أن الدين المسيحي دين غير عملي فقد ظهر اتباعه كأكثر الشعوب وحشية. وما انفك أولئك الذين كانوا يشنون الدعايات ضد الإسلام، ويمسكون الإنجيل بأيديهم وينادون: هذا كتاب المحبة، نراهم اليوم يقذفون عشرات أطنان "المحبة" على فيتنام (ألقيت هذه المحاضرة في أيام الحرب الفيتنامية) هذه هي المحبة التي يدعوهم إليها الإنجيل! لقد تحولت تلك المحبة إلى قنابل، وحتى قنابل نابام تحرق الأطفال والشيوخ والنساء.

الإسلام أول ما ينتهج أسلوب المحبة. ولكن حيثما وجدها لا تجدي، لا يبقى ساكتا. قال الإمام علي (عليه السلام) في وصف الرسول (صلى الله عليه وآله): "طبيب دوّار بطبّه قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه"(نهج البلاغة: الخطبة 106) أي أنه طبيب في إحدى يديه مرهم وفي الأخرى أدوات الجراحة. فما يمكن معالجته بالدواء عالجه بالدواء، وما تعسر علاجه بالمرهم لا بد من استخدام المبضع والسكين وأدوات الكي، أي أنه يستخدم أسلوبي الغلظة واللين.

وجاء في القرآن الكريم عند الحديث عن الدعوة إلى الله: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ (المؤمنون/96). اعلم أيها الرسول أن الحسنة والسيئة لا تستويان وحتى السيئات لا تستوي في ما بينها وكذلك الحسنات، وعليك أن تدفع السيئات بأفضل الحسنات. فإذا أساء الآخرون عليك أن تُحسن. ثم يشير إلى خصلة نفسية ويقول، إنّ عدوّك إذا أساء إليك وأحسنت أنت إليه، ستلاحظ أن خاصية الإحسان هنا في مقابل الإساءة كخاصية الكيمياء، أي انه يقلب ماهيّة الأشياء فتجد فجأة من كان عدوّاً لدودا يتحول إلى موال حميم.

من ذا الذي يقول أن الإسلام لا يأمر بالمحبة؟! ومن ذا الذي يدعي إن الإسلام ليس دين المحبة؟! ولكن حيثما لا تجدي المحبة، لا يهادن، بل ينتهج أسلوب الغلظة، ويستعمل السيف. نلاحظ في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) وفي حياة أمير المؤمنين(عليه السلام) الكثير من مصاديق ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ (المؤمنون/96).

وردت في دعاء "مكارم الأخلاق" كلمات تثير الانتباه: (اللهم أعنّي على الإحسان إلى من يسيء إلىّ، واصل رحم من قطع رحمي، ومن ذكرني في غيبتي بسوء أذكره في غيبته بخير، وما إلى ذلك من الجمل) وللخواجة عبد الله الإنصاري في هذا المجال تعبير لطيف يقول فيه:

الإساءة في مقابل الإساءة من صفات الكلاب"أي أنّ الكلب إذا عضّ كلبا، يلتفت إليه الآخر ويعضه. وإذا أساء إنسان لآخر ورد عليه الإساءة فهو لم يأت بشيء جديد وإنما قلّد الكلاب. وإذا ضرب الإنسان كلبا، يدهمه ويعضه" أما الإحسان في مقابل الإحسان فهو من فعل الحمير"أي إذا أحسن شخص لآخر ورد عليه بالإحسان فإنه لم يأت بشيء جديد فالحمار أيضا - إذا حكّ بأسنانه كتف حمار آخر، فيأتي الآخر فورا ويحك بأسنانه كتف الحمار الأول. وأن مقابلة الإحسان بالإحسان عمل تفهمه حتى الحمير". أما الإحسان في مقابل الإساءة فذاك من فعل الخواجة عبد الله الأنصاري.

يقول: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ على الأغنياء أن لايقسموا، ولا تثار نخوتهم الدينية هنا. إن كان أولئك قد أساءوا فعليكم أن تُحسنوا وأن ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ياله من تعبير لطيف! يابني الإنسان اصفحوا عن بعضكم لأنكم مذنبون وترجون أن يصفح الله عنكم. ويجب عليكم أن تعاملوا عباد الله بمثل ما ترجونه من الله. ولا تستخدموا أسلوب الشدّة لأنه من المحتمل معالجة المذنبين عن طريق الإحسان، فإذا ما تعذر ذلك يمكن حينذاك استخدام أسلوب الشدة.

من جملة الخصال الحمية التي كان يتصف بها الأئمة (عليهم السلام) أنهم كانوا يشترون الرقيق ويبقونهم في دورهم مدة من الزمن، لأن الحكمة من الرق في الإسلام هي أن يطوي الرقيق دورة "من الكفر إلى العتق" ويجتازون ممرا يكونون فيه خاضعين لتربية أشخاص مسلمين. وقد اكتسب الإسلام من هذا الجانب فوائد إنسانية كبيرة.

كان من جملة الأعمال التي يمارسها الأئمة هو هذا العمل - لأن أحد أبواب إنفاق الزكاة هو شراء الرقيق وعتقهم - ولكن لا بمعنى أن يشترى الرقيق والعبيد من هذا الجانب ويطلق سراحهم من ذلك الجانب بدون أن يحظوا بأية تربية إسلامية، بل يا حبذا لو كان العبد قد تلقى قبل ذلك التربية الإسلامية، وأما إذا لم يكن كذلك فينبغي أن يعيش مدة من الزمن في عائلة مسلمة حقيقية ليتعلّم منها الأخلاق والآداب الإسلامية عمليا، ومن ثم يُعتق. كان الأئمة الأطهار يفعلون هذا كثيرا، وكان العبيد يتعرفون خلال مدة بقائهم في دورهم على حقيقة الإسلام، ويصبحون مسلمين حقيقيين.

كان ثمة عبيد كثيرون في دار الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وكان يدون في دفتر خاص جميع ما يرتكبونه من أخطاء خلال السنة، إلى أن يحل اليوم الأخير "أو الليلة الأخيرة" من شهر رمضان حيث كان يجمع من في داره من العبيد ويقف هو في وسطهم ويستخرج دفتره وينادي كل واحد منهم باسمه ويقول: يافلان هل تذكر أنك ارتكبت في كذا يوم كذا ذنب؟ فيقول:نعم. ثم كان يقول:اللهم إن هؤلاء كانوا ملك يدي وقد أساءوا لي، وإني عبدك قد تجاوزت عن كل ذلك.

اللهم وإني عبدك المقصر أمامك فتجاوز عن ذنبي. وكان يعتقهم جميعا لوجه الله. وهكذا يتضح لنا أن الأصل الأول في الإسلام هو التسامح. أجل، الإسلام لا يتهاون في القضايا الاجتماعية لأن مثل هذا الصفح والتسامح لا يتعلق بشخص أو فرد فقط وإنما يتعلق بعموم المجتمع. فلو أن أحد سرق مثلا تقطع يده، فهنا لا يمكن لصاحب المال أن يتغاضى أو يقول عفوت عنه لأنه حتى وإن عفا فإن المجتمع لا يعفو عنه، وهذا ليس حقه فحسب، بل هو حق المجتمع.

ذكر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يسير ذات يوم بمفرده - كما هو شأنه على الدوام حيث كان في أيام خلافته يسير بمفرده ويلج حتى في الأماكن الخالية ويستطلع الأوضاع بنفسه - في أحد الدروب بين البساتين في الكوفة، وسمع صوت استغاثة ينادي: الغوث! وكان من الواضح أن هناك شجار. فأسرع نحو مصدر الصوت، وما أن وصل حتى وجد أنّ العراك قد انتهى بين شخصين.

فأراد الإمام أخذ الضارب، فسارع إليه المضروب وقال: لقد عفوت عنه. فقال له الإمام: إن عفوت عن حقك، إلا أن هنالك حق للسلطان، أي حق للحكومة وهي التي يجب أن تعاقب عليه. وهذا مما لا يمكنك التنازل عنه لأنه ليس من حقك.

كان الغرض من الإتيان بهذا المثال هو أن الحق العام لا يمكن العفو أو التنازل عنه. والإسلام لا يتسامح في شأن الحقوق العامة، ولكن يمكن التسامح في الحقوق الخاصة. فإذا كان هناك من يقدم العون لشخص ثم تبين له في ما بعد أنه شخص مذنب، وأراد أن يقطع عنه العون فذلك شأن يتعلق به. ولكن عليه أن يعفو جهد المستطاع. ولهذا السبب يأمر القرآن بالعفو والتسامح ويحث على اتباع سبيل الإحسان والمحبة جهد الإمكان.

لا أعتقد أن القرآن أكدّ على شيء مثل تأكيده على حرمة التهمة - وخاصة أتّهام النساء - إذ قال في هذا المورد: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النور/23) ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النور/24).

هذا منطق القرآن، ولكن ليس هنا مجال الحديث عنه بشكل تفصيلي. القرآن يقول صراحة إن عالم الآخرة عالم حي وكل شيء في حي. وكل عضو فيه يشهد على ما أرتكب، اليد تشهد على ما ارتكب، والرجل تشهد على ما اقترفت، وكلّ من العين والأذن تشهد بما اقترفت. والجلد - وهو كناية عن الأعضاء التناسلية - يشهد على ما اقترف اللسان هناك يختم عليه ويقال له: اسكت ودع الجوارح والأعضاء تتحدث بنفسها، واللسان لا يتكلم هناك إلا بما اقترف هو بذاته.

يقول القرآن: يوم تشهد علي هؤلاء الأشخاص ألسنتهم " لأن الذنب كان باللسان" وأيديهم وأرجلهم بما اقترفت: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ (النور/25) إذا كانت هناك امرأة - والعياذ بالله - فاسدة، فإن فسادها يؤدي إلى الانتقاص من شرف زوجها، إلا أن فساد الرجل لا يقدح بشرف زوجته. ولهذا سر نفسي خاص. ذكرت في سلسلة المقالات التي نشرتها قبل بضع سنوات في إحدى المجلات النسائية عن حقوق المرأة - ردّاً على ما كانت تنشره تلك المجلة - السر الكامن من وراء هذه الحالة. وأنّ الكثير من أحكام الإسلام تقوم على أساسها فإذا فسدت المرأة لا يمكن للزوج حينذاك ادعاء الشرف لنفسه. ولكن مهما كان الزوج فاسدا، لا يعتبر الناس زوجته فاسدة - إن كانت شريفة ذاتا - بل يقولون أن زوجها فاسد وهي لا ذنب لها. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن المرأة هي شرف الرجل في جوانب العفة والشرف، إلاّ إن جوانبها الأخرى الفردية والذاتية لا علاقة لها بالزوج. أي إذا كانت المرأة فاسدة، فذلك يعتبر تدنيسا لشرف الرجل ولكنها إذا كان فيها نقص آخر فلا يحتسب ذلك على الرجل. فلو كانت المرأة مثلا كافرة أو منافقة فلا صلة للرجل بذلك. ولهذا السبب يضرب القرآن مثلا بامرأتي نوح ولوط. فهذان كان كلاهما نبيين حين كانت زوجتاهما كافرتين ومرتبطتين عقائديا بخصومهما. هنا يقول القرآن: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ (النور/26) والمراد هنا طيب الشرف.

الرجل الخبيث الفاسد يفقد الغيرة ويقبل بالزوجة الفاسدة ولا يغيظه ما هي عليه من الفساد. إلا أن الرجل الطيب والشريف لا يمكن أن يقبل أبدا بامرأة غير شريفة. وهذا يحصل طبعا وفقا لنوع من الاختيار. فالطيبون يطلبون الطيبات والخبيثون يطلبون الخبيثات. وهذا لا يعتبر حكما شرعيا، بل بيان لقانون طبيعي.

نلاحظ أن الشبان الشرفاء يطلبون شابات شريفات والفتيات الشريفات يرتضين لأنفسهن أزواج شرفاء. أما الشاب الفاسد فلا يأبه كثيرا للزواج من فتاة كانت قد "جربت" - كما يصطلحون هم على ذلك - عشرات الشبان. والروح الخبيثة للشخص الفاسد تحبذ المرأة الخبيثة، والروح الخبيثة للمرأة الفاسدة تهوى الرجل الخبيث. إلاّ إنّ الروح الطيّبة للرجل الشريف تميل إلى المرأة الصالحة، الروح الطيبة للمرأة الشريف ترتضي الرجل الشريف.

كيف تتحدثون عن شرف الرسول (صلى الله عليه وآله) بهذه الكيفية؟ من المستحيل أن تكون ي أسرة أي من الأنبياء أمثال هذه المفاسد. أجل قد يقع الكفر بين أفراد عوائل الأنبياء أو أن يكون ابنه كافرا، ولكن من المستحيل أن يكون فاسقا.