البلاغة والمعاني

وهنا بحوث:

المبحث الأول: في وجه تقديم الجار والمجرور على الموصول الأحق بالتقديم أقول: أولا: إن من وجوه التقديم والتأخير في الكتاب العزيز الإلهي، وفي الأشعار وكلمات أهل البلاغة والأدب: هي مراعاة السماع وكيفية الأداء، والمواظبة على المزايا الخارجة عن الأدب الاصطلاحي. وبعبارة أخرى: لا ينحصر وجوه تحسين الكلام بما في الكتب الأدبية والأسفار البلاغية، بل أهم الوجوه هو اشتمال الكلام على الرنمة الخاصة، المناسبة للأرواح اللطيفة والممزوجة مع لطافة القريحة، المعبر عنها بالموسيقى، فإنه ليس كل ما يسمى بالموسيقى والموسيقي مذموما ومنهيا عنه. وثانيا: ربما لا يوجد في سائر الطوائف - كالجن وغيره - من كان منافقا فأفيد ذلك بقوله: (ومن الناس) يكون منافقا دونهم.

المبحث الثاني: وجه الإتيان ب? " من " التبعيضية ربما يخطر بالبال: أن يسأل عن وجه الإتيان ب? " من " التبعيضية مع أن المقام ليس مقام التقسيم. أقول: أولا: إن تعرض الآيات السابقة لحال المتقين والكفار يوجب التعرض للقسم الثالث - وهو المنافقون - فأشير إلى إفادة تلك الآيات القسمين الأولين، وتشير هذه الآية إلى القسم الثالث، وبذلك تستوعب الأقسام. وأما القسم الرابع، وهو المؤمن بحسب الواقع والسيرة والكافر أو المنافق بحسب الصورة، فهو أمر يطرأ لجهات نادرة من الاضطرار والتقية، ولا يكون من الأقسام الرئيسة. وثانيا: في هذا النحو من التعبير نوع تهديد إلى أن المنافق يتذكر إلى سوء ما بشر به، فإنه ربما يذكرون بأسمائهم وألقابهم الخاصة. وثالثا: فيه نوع هتك لهم وتوهين بالنسبة إليهم، فكأنه يقال: ومن الناس من يقول: كذا، وما هو بإنسان، أو وما هم من الناس، لأنهم من الناس في الصورة الإنسانية، وأما في السيرة فهي بريئة منهم، خذلهم الله تعالى.

المبحث الثالث: حول اللام من " الناس " اختلفوا في اللام من " الناس "، هل هو للجنس، أم للعهد الخارجي؟أو إن كان " من " موصولا فهو للعهد، وإن كان موصوفة فهو للجنس؟وعن ابن هشام: تجويز عكسه أيضا (1). والذي هو التحقيق ما عرفت: أن تقسيم " من " إلى الموصول والنكرة الموصوفة غير صحيح. وعلى أي تقدير: يكون موصولا، ولا وجه لحمل الألف واللام على العهد الخارجي، لاحتياجه إلى القرينة، لما تحرر: أن الأصل هو الجنس، لدخوله على الجنس ونفس الطبيعة، بل قد مضى منا: أن ما اشتهر من أن الألف واللام قد تكون للجنس، أيضا من الأغلاط، وأوضحنا سبيله في ذيل بحوث (الحمد لله رب العالمين)، فراجع (2).

المبحث الرابع: حول تغيير الضمير من المفرد إلى الجمع في وجه الإتيان بصيغة المضارع المفرد، ثم الإتيان بصيغة الجمع، وهو قوله: (آمنا). فربما أنكر بعضهم بأنه غير جائز، لأنه من الرجوع إلى الجمع من المفرد (3). وقال بعضهم: إن في ذلك لطفا، لما فيه من الجمع بين حكم اللفظ والمعنى (4). أقول: والذي يظهر لي: أن الإتيان بالمفرد فهو لأجل أن مفاد " من " ليس إلا الواحد على البدل، وأما قوله: (آمنا) فهو مقول قول هذا الواحد على البدل، فإنه يجوز أن يقول: (آمنا) إما تفخيما لشأنه، أو كان نائبا عن طائفتهم ووكيلا من قبلهم أصالة أو فضولة، فلا ينبغي الخلط الذي ابتلي به أرباب التفسير، فوقعوا في حيص بيص.

المبحث الخامس: حول شبهة في المقام وهو أن هذه الآية والآيات التي تكون بعدها، نزلت لتوضيح حال المنافقين، كما عرفت عن العامة والخاصة، وقد صرح في كتب التفاسير: بأن أكثرهم من اليهود (5)، وهم قائلون بالمبدأ والمعاد، وينكرون الرسالة والولاية، فعليه لا يبقى وجه لقوله تعالى: (آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين)، وكان المناسب أن يقال: آمنا بك وبأحكامك وما هم بمؤمنين، حتى يندرجوا في سلك المنافقين. وما في بعض كتب التفسير: أن اعتقادهم التقليدي الضعيف، لم يكن له أثر في أخلاقهم ولا في أعمالهم، فلو حصل ما في صدورهم ومحص ما في قلوبهم، وعرفت مناشئ الأعمال من نفوسهم، لوجد أن ما كان لهم عمل صالح كصلاة وصدقة، فإنها رئاء الناس وحب السمعة (6)، لا يخلو عن سخافة. وبالجملة: هنا معضلتان:

الأولى: أن اليهود كانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر حسب إيمان المسلمين بهما، فلا معنى لنفي إيمانهم بهما.

الثانية: أن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان بالرسالة وبما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه الآية ساكتة عن هذه الجهة. وتلخيص المسألة: أن ما هو مورد تعرض الآية لا يصلح للنفي، وما هو اللازم أن تتعرض له الآية قد سكتت عنه. وما وجدت في كتب التفاسير من توجه إلى هذه المعضلة بهذا الشكل، وإن كان يوجد في كلماتهم بعض ما يندفع وتنحل به المعضلة حسب ظنهم (7). أقول:

أولا: إن قلنا بأن الأدلة الناهضة على أن هذه الآيات نازلة في اليهود والمنافقين منهم غير نقية، فلا معضلة، لأن المستظهر من الكتاب - حينئذ - يكون أن جمعا من الناس - في عصر النزول وفي المدينة - كانوا ينافقون بإظهار الإيمان بالله وباليوم الآخر ولم يكونوا من اليهود، بل يشتركون مع المسلمين في الاعتقاد بهما، وكان المسلمون لأجل أن يهتدوا بالهداية الكاملة غير مجتنبين عنهم، ولا متحرزين منهم، فنزلت الآيات إنباء عن حالهم وإخبارا عن أغراضهم السيئة: أنهم لا يؤمنون، وما هم بمؤمنين.

وثانيا: من الممكن أن نقول: بأن هؤلاء من المنافقين المشركين، فأظهروا إيمانهم مقسمين بالله، فيكون جملة " بالله " حلفا على إيمانهم، وحيث يكون متعلق الإيمان محذوفا، فيعلم منه أن المراد هو الإيمان بالرسالة لما كانوا مؤمنين بالتوحيد الذاتي وأظهروا إيمانهم بالآخرة، كما كانوا منكرين لها، وينادون: (من يحيي العظام وهي رميم). وثالثا: إن هذه الآية ولو كانت غير مشتملة على ما يدل على المراد، إلا أن الآيات الآتية - التي تكون من توابعها - ترشد إلى أن المقصود من قوله تعالى: (ومن الناس) هم المنافقون الذين شاركوا المؤمنين في الإيمان اللفظي بالرسالة وبما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخالفوهم في الباطن وسرا، ومن تلك الآيات قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) (8)، فإن إقرارهم بالإيمان بالله عند المسلمين لا ينفعهم كثيرا، وما هو الأنفع بحالهم دخولهم في المؤمنين وتزييهم بزيهم الكامل، حتى يتمكنوا من أن يجولوا خلال الديار. وبالجملة: تشير الآية الشريفة إلى أن تمام الإيمان هو أن يكون بالله وباليوم الآخر، وإلى ما ذكرناه لأجل القرينة الخارجية.

المبحث السادس: في وجه تكرار الجار قيل: كأنهم أشاروا بتكراره إلى أن إيمانهم بكل من المبدأ والمعاد كان عن برهان واستقلال، من غير كون الإيمان بالآخرة من توابع الإيمان بالله (9)، وفي ذلك تقوية لأذهان المؤمنين إلى انسلاكهم في زمرتهم وانخراطهم في خريطة الإسلام. وإن شئت قلت: إن الإيمان بالله ما كان أمرا حديثا بالنسبة إلى حالهم، لأنهم معروفون بذلك، وإنما الإيمان بالآخرة كان مورد اهتمام القرآن والمؤمنين، وكان يعلم من الإيمان بالآخرة إيمانهم بالكتاب والرسالة، لأن أهالي جزيرة العرب كانوا يستغربون الحشر، ويقولون: أإذا متنا وكنا ترابا أإنا لمحشورون ؟! كلا. فعلى هذا لابد من تكرار الجار، وهذا أيضا رمز خاص إلى أن هذه الآية تشير إلى المنافقين المظهرين للإسلام والاعتقاد بالرسالة، فاغتنم.

المبحث السابع: حول نفي الإيمان الحالي في الآية يخطر بالبال أن يقال: إن قضية السياق أن تكون الآية هكذا: ومن الناس من يقول: آمنا بالله وباليوم الآخر، وما كانوا يؤمنون حتى يتبين أنهم في ظرف ادعائهم الإيمان كانوا كاذبين، وأما إذا قيل: وما هم بمؤمنين، فلا يتبين كذبهم في ذلك الزمان، لأن ذيل الآية ينفي إيمانهم الحالي، لظهور المشتق في الفعلية وظهور الباء في النفي في الحال، كما مر في بحوث النحو، فإذا قيل: ليس زيد قائما، فربما يمكن أن يكون ذلك مسببا عنه في الأزمان الماضية، وأما إذا دخلت الباء في الخبر فتفيد النفي في الحال. ومن الممكن حل هذه المشكلة: من ناحية دعوى ظهور المشتق في الحال بما تبين في محله: من أنه تابع لحاظ زمان الإجراء، ولا يدل بالوضع على الاتصاف في الحال إلا عند الإطلاق (10)، وحيث إن صدر الآية يتكفل حال المنافقين في الزمان الماضي، فيكون قرينة على أن الجري كان بلحاظ ذلك الزمان. وأما حل المشكلة من ناحية الباء فهو غير ممكن لدعواهم: أن الباء في خبر " ليس " يدل بالوضع على النفي في الحال (11). أقول: أولا: كون الباء للنفي في الحال غير مرضي، بل الباء: إما زائدة أو توكيد النفي، ويكون في الزمان تابعا لزمان المنفي، فيؤكد ذلك. مثلا: إذا قلنا: ليس زيد في الزمان الماضي بقائم، أو ما كان زيد بعادل، فهو يؤكد النفي من غير اقتضاء لمعنى آخر، وإلا يلزم كونه موضوعا بالوضع التركيبي، وهو غير موافق للتحقيق، لما تقرر: أن الجمل لا وضع على حدة لها، ويلزم أيضا كونها في خبر " ما " ذات وضع آخر، وهو واضح المنع. وثانيا: قد عرفت (12) أن هذه الآية لا تختص بالمنافقين المخصوصين بالذكر في صدر الإسلام، بل الآية ترشد إلى تنبيه الرسول إلى إمكان وجود هؤلاء الناس في جماعتهم أو إلى وجودهم بنحو أعم من الزمان السابق واللاحق، ضرورة أن قوله تعالى: (ومن الناس من يقول) يصدق على الذي في زمرة المنافقين بعد عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصر النزول، فعليه يصح أن يقال: إنهم ليسوا بمؤمنين بحساب الزمان المقارن لزمان النفي. ولعل سر الإتيان بالجملة الاسمية، والعدول عن مقتضى الصدر وتناسب الرد: هو الإيماء إلى أن الآية ليست ناظرة إلى الجماعة الخاصة من المنافقين، ولا تكون القضية خارجية، بل هي حقيقية حسب سائر القضايا المتعارفة في الكتاب والسنة، وأيضا إيماء إلى أن الإيمان منفي عنهم فطرة وذاتا، من غير التقيد بالزمان ماضيا أو حالا أو مستقبلا، وفي الاسمية أيضا تأكيد للنفي، كما لا يخفى.

المبحث الثامن: حول ظهور الآية في غير المنافقين لأحد أن يقول: إن هذه الآية - مع قطع النظر عن الآيات اللاحقة - ليست ناظرة إلى حال المنافقين، بل المستظهر منها هي حال الذين يقولون ويظهرون الإيمان، ويشهدون بالشهادتين أو الشهادات، إلا أنه مجرد لقلقة اللسان وإظهار بالبيان، من غير عقد قلبي الذي هو من الأركان، ومن غير رسوخ في الأعيان والأذهان. وبهذه الخصيصة ربما يشعر اختلاف سياق الآية صدرا وذيلا، حيث يقول: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر)، ويظهرون ذلك حسب الخيال والوهم، إلا أنهم ليسوا بمؤمنين، فإن من يصدق عليه المؤمن هو الراسخ في نفسه ملكة الإيمان، والثابت في قلبه شجرة الإيقان بالشهادة والوجدان، أو بالدليل وبالبرهان، لا باللسان والهذيان. وعلى هذا تكون هذه الكريمة على مثابة قوله تعالى: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (13). هذا، ولكن الرجوع إلى الآيات الآتية، تعطي أن هذه الكريمة تصدت لبيان حال المنافقين، الذين لا يكون الإيمان ولا الإسلام في نفوسهم على سبيل الحالة ولا الملكة، بل كان ذلك لإضلال المؤمنين والتعمية على المسلمين، حسب تسويلاتهم الشيطانية وخدعهم الباطلة. وقد مر - بناء على هذا - ما يكون سببا للالتفات من الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية في البحوث الماضية.


1- روح المعاني 1: 134.

2- الفاتحة: الآية 2، اللغة والصرف، المسألة الأولى.

3- البحر المحيط 1: 54، روح المعاني 1: 134.

4- روح المعاني 1: 134.

5- راجع الكشاف 1: 55، والتفسير الكبير 2: 61، وروح المعاني 1: 134.

6- تفسير المنار 1: 149.

7- راجع الكشاف 1: 55، والتفسير الكبير 2: 61، وروح المعاني 1: 134، وتفسير المنار 1: 149.

8- البقرة (2): 14.

9- تفسير بيان السعادة 1: 56 / السطر 23.

10- راجع تحريرات في الأصول 1: 327.

11- مجمع البيان 1: 46.

12- انظر تحريرات في الأصول 1: 117 وما بعدها.

13- الحجرات (49): 14.