القراءة والنزول

البحث الأول: حول القراءة ما وجدنا خلافا في قراءة هذه الآية يعتد به، وأما مذهب خلف عن حمزة، ومذهب أبي عثمان الفريد عن الدوري عن الكسائي في الإدغام بلا غنة عند الياء، من نحو " من يقول "، فيدغم النون في الياء، وهكذا مذهب الدوري عن أبي عمر، وفي إمالة الناس في حالة الجر، فهو ليس من الخلاف في القراءة، بل يرجع إلى الخلاف في كيفية تحسين الكلام وتجويده، ويكون راجعا إلى البحث الكلي في جميع القرآن بل وغيره.

البحث الثاني: حول النزول ذكروا أنها نزلت إلى الآية العشرين في المنافقين، وهم عبد الله ابن أبي بن سلول، وجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهم، وأكثرهم من اليهود (1). وفي الطبري: هم الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم، وقد سمى في حديث ابن عباس هذا أسماءهم عن أبي بن كعب، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم (2). ثم أخرج روايات بأسانيده الظاهرة في أنها في المنافقين خاصا. أقول: لا يظهر لي بعد التدبر أن هذه الآيات نازلة في المنافقين على وجه تخيلوه، فإن البقرة - حسب ما يؤدي إليه النظر - نزلت مرة واحدة، ولو كانت مرارا ولكن نزلت إلى تسعة خاصة منه مرة واحدة، كما مر البحث فيه في بحوث فواتح السور.

فعلى هذا يستظهر: أن هذه الآيات تشير رمزا إلى وجود هذه الجماعة بين الذين آمنوا وأظهروا إيمانهم، وتكون إلفاتا لنظره إلى مفاسدهم ومقاصدهم، وتومئ إلى لزوم التوجه إلى انتشارهم بين المؤمنين، حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم، فأظهر الله تعالى أضغانهم ومكايدهم، وأبرز ممشاهم وطريقتهم، من غير أن يكون النظر إلى جماعة معينين، أو كان في عصر نزولها واحد منهم، بل من الممكن أن لا يكون منهم أحد، إلا أن القرآن نبه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، مخافة وقوعه (صلى الله عليه وآله وسلم) في إضلالهم إذا اتفق أحيانا من يحذو حذوهم. وبالجملة: لا وجه لاختصاص الآية بطائفة خاصة من المنافقين حين النزول، ولا دليل على تمامية سبب النزول. والأمر سهل.

وفي بعض التفاسير: إنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية، لأن مكة لم يكن فيها نفاق، فلما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع حلفاء الخزرج، وبنو النضير وبنو قريظة حلفاء الأوس، فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة أسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من اليهود، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا، لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل كان (صلى الله عليه وآله وسلم) وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبي بن سلول - وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر - قال: هذا أمر قد توجه، فأظهر الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته وجماعة أخرى من أهل الكتاب، ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب. فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد منافق، لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرها، بل يهاجر فيترك ماله، ولده وأرضه رغبة فيما عند الله، فلا يوجد فيهم من المنافقين أحد (3). انتهى مع تصرف يسير، فافهم.


1- راجع تفسير الطبري 1: 116، والكشاف 1: 54، والتفسير الكبير 2: 60، والبحر المحيط 1: 54، والجامع لأحكام القرآن 1: 192.

2- تفسير الطبري 1: 116.

3- راجع تفسير ابن كثير 1: 83.