التفسير والتأويل على مسالك مختلفة ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)، طبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، كما قال الله تعالى: (بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا) (1). هكذا عن الرضا عليه آلاف التحية والثناء (2). وفي آخر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو أصحابه، فمن أراد الله به خيرا سمع وعرف ما يدعوه إليه، ومن أراد الله به شرا طبع على قلبه لا يسمع ولا يعقل. هكذا عن الباقر (عليه السلام) (3). وفي ثالث: (ختم الله) وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظر إليها، بأنهم الذين لا يؤمنون، (وعلى سمعهم) كذلك بسمات، (وعلى أبصارهم غشاوة)، وذلك أنهم لما أعرضوا عن النظر فيما كلفوه وقصروا فيما أريد منهم، جهلوا ما لزمهم من الإيمان به، فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه، فإن الله عز وجل يتعالى عن العبث والفساد، وعن مطالبة العباد بما قد منعهم بالقهر منه، فلا يأمرهم بمغالبته، ولا بالمصير إلى ما صدهم بالعجز منه. ثم قال: (ولهم عذاب عظيم) يعني في الآخرة العذاب المعد للكافرين، وفي الدنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبهه لطاعته، أو من عذاب الاصطلام ليصيره إلى عدله وحكمه (4)

وفي أخبار العامة وأقوال الأولين: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) يقول: فلا يعقلون ولا يسمعون، وجعل (على أبصارهم غشاوة)، يقول: على أعينهم فلا يبصرون. هكذا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بطريق فيه ابن مسعود (5). وعن ابن عباس: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)، والغشاوة (على أبصارهم) (6). وعن السدي (ختم الله) طبع الله. وقال قتادة في هذه الآية: استحوذ الشيطان عليهم إذ أطاعوه، ف? (ختم الله على قلوبهم)، ولا يفقهون ولا يعقلون (7). وقال ابن جريح: قال مجاهد: (ختم الله على قلوبهم) قال: الطبع التثبت في الذنوب على القلب. وفي خبر آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق شتى عن أبي هريرة - لا يخفى لطفه - قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الرين؟الذي قال الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) " (8).

وفي بعض كتب أصحابنا: ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): انظر، فنظر إلى عبد الله بن أبي وإلى سبعة من اليهود، قال: قد شاهدت، ختم الله على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت يا علي أفضل شهداء الله في الأرض بعد محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: فذلك قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) تبصرها الملائكة فيعرفونهم بها، ويبصرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويبصرها خير خلق الله بعده علي بن أبي طالب (عليه السلام). ثم قال: (ولهم عذاب عظيم) في الآخرة بما كانوا يكذبون، من كفرهم بالله وكفرهم بمحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (9). وفي الطبري مسندا عن ابن عباس: " (ختم الله...) إلى آخره، أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك حتى يؤمنوا به وإن آمنوا بكل ما كان قبلك ".

ومسندا عن ابن أنس: هاتان الآيتان إلى قوله تعالى: (ولهم عذاب عظيم) هم الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، وهم الذين قتلوا يوم بدر، فلم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان بن حرب، والحكم بن أبي العاص (10). ولا يخفى ما فيه من الشذوذ. وقد مر عن ابن عباس مسندا في قوله تعالى: (ولهم عذاب عظيم): أي (ولهم) بما هم عليه من خلافك (عذاب عظيم). قال: فهذا في الأحبار من اليهود فيما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم (11). أقول: قد تحرر وتقرر في محاله أن هذه الأخبار لا توجب قصورا في عموم الآية وإطلاقها ولا حصرا في مفاد الكتاب ودلالته، ولا سيما المآثير الواردة من الطرق غير السديدة. نعم إذا كانت الرواية مشتملة على بيان مهبط الوحي ومصب الآية، فربما تصير قرينة لصرفها ودليلا على الاختصاص وعدم كونها في مقام البيان من كل جهة، كما في الأخبار الناظرة إلى فتاوى العامة، ولأجل ذلك كما لابد في الفروع من الاطلاع على فروعهم كذلك لابد في تفسير الكتاب من الاطلاع على آرائهم حتى يتبين حدود الحق وموازين الصدق.


1- النساء (4): 154.

2- راجع عيون أخبار الرضا 1: 123 - 124 / 16.

3- راجع تفسير العياشي 2: 273 / 77، وتفسير البرهان 2: 386.

4- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 98، والاحتجاج 2: 260.

5- راجع الدر المنثور 1: 29 / السطر 19.

6- راجع الدر المنثور 1: 29 / السطر 18.

7- راجع الدر المنثور 1: 29 / السطر 16.

8- راجع تفسير الطبري 1: 112.

9- راجع تفسير البرهان 1: 59 / 2.

10- راجع تفسير الطبري 1: 115.

11- راجع تفسير الطبري 1: 115.