بحوث حكمية ومسائل فلسفية

البحث الأول: حول الجبر والتفويض قيل: في هذه الآية أدل دليل وأوضح سبيل على أن الله سبحانه، خالق الهدى والضلال والكفر والإيمان. فاعتبروا أيها السامعون وتعجبوا أيها المتفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم وهداهم، فإن الختم هو الطبع، فمن أين لهم الإيمان ولو جهدوا وقد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ؟! فمتى يهتدون ؟! أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم ؟! (ومن يضلل الله فما له من هاد) وكان فعل الله ذلك حقا وعدلا لا ظلما وجورا، فإنما نفعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم (1).

أقول: يا أيها العوام ويا أيها المبتدئون العارفون باللغة تعجبوا واضحكوا على عقول المجبرة، كيف ذهلوا وغفلوا عن هذه الآية الشريفة التي تكون في حكم الذيل للآية السابقة: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله) ؟! فهم الذين كفروا من غير أن يخلق الله كفرهم بالمعنى الذي توهمه الجبابرة الأذلون والمجبرة الأجهلون. إذا عرفت ذلك، وعلمت أيضا: أن الحقائق الحكمية والمعاني الكلية الفلسفية، لا تقتنص من الإطلاقات اللغوية والاستعمالات العامة، الأعم من الاستعارات والمجازات والحقائق، وإن كان تظافر النسب والقضايا والكلمات يوجب حسن الظن بأحد طرفي المسألة، إلا أن المحرر في محله عدم إمكان الاتكاء وعدم حصول الاعتقاد من هذه الطرق إلا للمبتدئين من الخلق والأراذل من الناس، دون المفكرين المتعمقين.

وبالجملة: إذا تحصل لك ذلك فاعلم: أن مسألة الجبر والتفويض من المسائل الغامضة الربوبية والبحوث الجليلة الإلهية، وقد سبقت مباحثها في محالها بما لا مزيد عليها، من غير اختصاصها بمسألة المكلفين وغير المكلفين، لأنها بحث عام في جميع مراتب الوجود والأعيان، وفي عموم سلسلة العلل والكائنات، حتى في دخالة مقدمات القياس بالنسبة إلى العلم بالنتيجة، كما مر مرارا في الكتاب، وأشرنا كرارا في ذيل الآيات إلى بعض ما يتعلق به، حتى يكون القارئ الكريم على ذكر من ذلك إلى أن تصل النوبة إلى البحث عنها بمقدماتها في ذيل بعض الآيات الشريفة وعند بعض الحكايات والقصص، كحكاية موسى (عليه السلام) والخضر (عليه السلام) إن شاء الله تعالى.

ومجمل القول في المقام: أن في نسبة الطبع إلى الله تعالى دقيقة لطيفة، وتكون النسبة على نعت الحقيقة دون التوسع، وهو أن معنى الختم - كما عرفت - هو الفراغ عن الشئ، أو الفراغ عنه بجعل سمة عليه وعلامة له، ولا شبهة في أن الفراغ والختم يتقوم بالمبادئ الخاصة المعينة، فكما أن القوى العمالة تنتهي إلى غاياتها، وتكون تلك الغايات حاصلة بعد سير تلك القوى العمالة، ولا تكون تلك الغايات مفاضة عليها إلا من المبادئ الإلهية الغيبية، ولا تكون مفيضة عليها إلا بعد سير تلك القوى والمبادئ المادية الظاهرية، كذلك الأمر فيما نحن فيه، فإن طبع القلوب وجعل الختم عليها، أو ختم القلوب بالفراغ عنها، وبجعل العلامة عليها والسمة لها، بعد سير أرباب القلوب والأسماع والأبصار، حسب اختياراتهم في المبادئ المادية الإعدادية، باختيار الكفر والفسق والإثم والإصرار عليها، والمداومة والمزاولة لها حتى تصير ملكة راسخة، ويصير الكفر واردا في حد وجوده وموجوديته وكمالا ثانيا وهميا له، يقتضي ويهيئ نزول الصورة الخاصة المتعصية عن قبول أية هداية كانت، ويوجب أن تنتهي هذه المادة السيالة إلى مرتبة من القساوة والبعد والشقاوة والانحراف، حتى تكون الصورة المفاضة من الله تعالى، مانعة عن قبول جميع أنحاء الاستضاءة والاستنارة والسعادة والهداية.

وهذا الأمر هي الحقيقة السارية في جميع مراحل الوجود المتحرك من النقص إلى الكمال، وفي مجموع منازل الفيض النازل تدريجا حسب القوابل والاستعدادات، وحسب الكمالات الموجودة حقيقية كانت أو وهمية. وإن شئت قلت: نسبة الختم إليه تعالى كنسبة الإضلال لا يستلزم جبرا، لأن الختم من شعب الرحمة الرحمانية التي تختلف باختلاف القوابل، وهي نظير شعاع الشمس الذي يبيض ثوب القصار ويسود وجهه، ويطيب ريح الورد وينتن ريح العذرات. ومن الغريب ما في الآلوسي: من أن ماهيات الممكنات معلومة له سبحانه أزلا، فهي متميزة في أنفسها تميزا ذاتيا غير مجعول، وأن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة أيضا مختلفة الاقتضاءات (2). انتهى ما أردنا نقله. وأنت تجد ما تخيله من هذه الجمل: وهو أن الجبر ثابت إلا أن الجابر ليس هو الله تعالى، بل الله يختار ويريد ما تقتضيه الماهيات حسب ذاتياتها. وأيضا تعلم فساد هذا المعنى، ضرورة أن الماهيات ليس لها شأن حتى تقتضي شيئا، وليست الاستعدادات من الذاتيات الإيساغوجية بالضرورة، ولا من الذاتيات في باب البرهان، أي المحمولات بالضميمة وخوارج المحمول، فكن على بصيرة.

البحث الثاني: حول تجرد القوى من المحرر في محله والمقرر عند أهله: أن الأصل في الاستعمالات هو الحمل على الحقيقة، إلا في صورة استحالة الحمل، أو في صورة قيام القرينة (3)، وفي هذه الآية بنوا على المجازية، لأجل وجود القرينة: وهي أن القلوب تفقه والأسماع والأبصار مشغولة بالسمع والإبصار فيكون الاستعمال على خلاف الحقيقة. أقول: لأحد أن يقول: بأن القوى المجردة بمراتبها العقلية والإحساسية، ليست محسوسة حتى يتبين لنا: أنها ليست مختومة ولا مغشية، فإذا قال الله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)، وكان الفاعل هو الله تعالى، وكان محط الفعل القلب، وهي مرتبة النفس العليا غير القابلة للإحساس والقوة السامعة، وهي أيضا غير قابلة للدرك الحسي، ومثلها الباصرة، ولا يكون المراد الاذن، ولا البصر الظاهري، ولا الجسم الصنوبري، فلابد أن تكون النسبة على الحقيقة، وتكون الآية الشريفة دليلا على تجرد هذه القوى المندمجة في النفس والمتعلقة بها.

وبعبارة أخرى: إن ثبت بدليل قطعي خارجي أن النفس مادية، وهكذا قواها، فتحمل الآية على المجاز في الإسناد، وإلا فقضية الأصل المزبور - المستنبط من بناء العقلاء في المحاورات - هو الحمل على الحقيقة اللازم لكشف حال النفس، وأنها من المجردات واللطائف الروحانية، وأنها تتكدر بالمعاصي والآثام، فيطبع على إدراكها العقلاني وحسها السمعي، ويجعل على بصرها الغشاوة التي تناسب ذات الإنسان والجوهر المجرد، من الطبع والغشاوة، لا الغشاوة والطبع الجسمانيين، وذلك لأن طبع كل شئ بحسبه، وغشاوة كل موجود بالنسبة. وفي النتيجة: وصلنا إلى أن أرباب الفضل والتفسير - صدرا وذيلا - انغمروا في ماء المادية وبحر الطبيعة الجسمانية، فلم يجدوا هناك طبعا ولا غشاوة، فحملوهما على ما حملوه، ولو تفطنوا إلى هذه المنزلة الرفيعة وتلك اللطافة والصفاء في الجوهر الإنساني، لحكموا بأن هذه النسب كلها على الحقيقة في هذه المنزلة واللحظة، فلا تخلط.

البحث الثالث: حول عدم تعدد النفس من البحوث المحررة في الفن الأعلى: هو أن لكل بدن نفسا واحدة، وأن القوى التي تنشعب منها تنشأ منها وترجع إليها (4). وفي تعبير آخر: هي شؤون ذاتها وتفاصيل هويتها. وقد خالف أرباب المعقول جماعة من الأخسرين أفكارا، وظنوا أن الإنسان مركب من نفوس ثلاثة بينها نحو ارتباط غير جوهري. ومنشأ اعتقادهم: أنهم رأوا أن في الإنسان آثارا مختلفة وأفاعيل متشتتة وخواص وحركات كثيرة متفاوتة، والكثير لا يصدر عن الواحد، فلابد من الاعتقاد بكثرة العلل بعد اتفاق أفاعيلها في الوحدة النوعية، وبلوغها إلى ثلاثة أنواع، كالحرارة، والبرودة، والجذب والدفع، مما يصدر مثلها من صور العناصر، فهي طبعية، وتكون من الأجزاء الإنسانية.

وهناك نفوس ثلاثة اخر: نباتية، وحيوانية، وإنسانية، لاختلاف الأفعال والحركات المسانخة معها الصادرة عنها. وأنت خبير: بأن الآية الشريفة تؤمي إلى خلاف هذه المقالة الواضح فسادها، فإن في إتيان " القلب " بشكل الجمع، وإتيان " السمع " بعده بشكل المفرد، دلالة على أن القلوب المذكورة بلحاظ الآحاد من الأفراد، وأن لكل فرد قلبا واحدا، لا قلوبا كثيرة، وإذا كان المراد من القلب هي النفس - كما عرفت في بحوث اللغة - يظهر أن كل إنسان ذو قلب واحد ونفس فاردة، ويأتي تفصيله في ذيل قوله تعالى في سورة الدهر: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) إلى قوله تعالى: (إما شاكرا وإما كفورا) (5) - إن شاء الله تعالى - فإن في هذه الآية بسط المباحث العقلية الإلهية والعقلية الطبيعية. وأما التمسك بقاعدة امتناع صدور الكثير عن الواحد، فهي لو كانت مأخوذة على إطلاقها، فلابد من أن يكون الإنسان مركبا من النفوس غير المتناهية مثلا، لأن الأفعال الشخصية المتكثرة تقتضي العلل الكثيرة. وإن كانت هي القاعدة المحتاجة إلى ضم البراهين إليها، فمصبها - حسب ما تحرر - مخصوص بالواحد المتوحد بالوحدة الشخصية الحقة الحقيقية الأصيلية، وفي جريانها في الوحدة الظلية إشكال، وأما سائر الوحدات فهي لا تقتضي وحدة الأثر، فضلا عن الوحدة النوعية والجنسية، وفي ذلك كفاية لأهله، والعذر من الجاهل بها مقبول إن شاء الله تعالى.

البحث الرابع: حول أن النفس في وحدته كل القوى من المسائل الخلافية مسألة أن الإنسان له هوية واحدة ذات نشأت ومقامات وتجليات، وهو في وحدتها كل القوى (6)، وهي تبتدئ أولا من أدنى المنازل، وترتقي إلى درجة العقل تدريجا يسيرا يسيرا، وإلى الوحدة الظلية للوحدة الإلهية، وهي بذاتها قوة عاقلة إذا رجعت إلى موطنها الأصلي، وهي القوة الحيوانية على مراتبها من حد التخيل، أي حد الإحساس باللمس، وهي أدنى مرتبة الحيوانية في السفال، وهي القوة النباتية على مراتبها التي أدناها الغاذية، وأعلاها المولدة، وهي - أيضا - ذات قوة محركة طبيعية قائمة بالبدن، وتكون النفس الناطقة - وهي القلب - رئيستها، وتلك القوى خدامها ومسخرة لها، والقلب متصرف فيها، وقد خلقت مجبولة على طاعة القلب، لا تستطيع له خلافا، ولا عليه تمردا، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت، وإذا أمر اللسان بالكلام تكلم، وكذلك سائر الأعضاء والحواس، وتسخيرها للقلب يشبه تسخير الملائكة لله تعالى (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون). هذا هو قول الحكماء العظام.

وفي حذائهم من يقول: إن الإنسان هي النفس العاقلة، وسائر المقامات أمور عارضة لها، من مبدأ حدوثها إلى آخر دهرها، حتى يكون البدن وقواه بالنسبة إليها كآلات ذوي الصنائع، من حيث لا مدخل لها في حقيقتها ونحو وجودها، بل في تتميم أفعالها، فإن كان يرجع هذا إلى أن شيئية الشئ بكماله، وكمال النفس هي مرتبة العاقلة، لا مرتبة العاملة، فهو في غاية الجودة، فإن ما دونها فانية فيها فناء المظهر في الظاهر، وإلا فهي في نهاية السخافة. وفي مقابلهما قول من يظن: أن الجوهر النفساني روحاني الحدوث والبقاء، وتلك القوى والأعضاء أسباب رفع الحجب بظهور كمالاتها. وبالجملة: لها الرئاسة القطعية عليها.

وإلى هذا الخلاف يؤمي أحيانا قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)، فإن الظاهر منه أن انطباع القلب كان يكفي عن انطباع قواه، فإذا كانت الآية تفيد استقلالها في الانطباع والغشاوة، يعلم استقلالها في الوجود وتباينها بالنوع مع النفس إذا كانت متباينة بالشخص، على الخلاف المعروف في مسألة تباين القوى بعضها مع بعض، والكل مع النفس. فبالجملة: يستظهر من الكتاب الإلهي أن السامعة والباصرة في عرض الناطقة والقلوب العاقلة، لا في طولها وخدمتها. أقول: أولا: قد احتملنا - في بحوث البلاغة - أن تكون الآية بالنسبة إلى انطباقها على الذين كفروا وعلى الذين لا يؤمنون، على سبيل منع الخلو، لا المنفصلة الحقيقية، فلا يصح الاستدلال المزبور، لأن الذين طبع الله على سمعهم غير الذين طبع الله على قلوبهم إمكانا لا وجوبا. وثانيا: لأحد أن يستظهر من الكريمة اشتداد الطبع، أو أن المتكلم في مقام إفادة شدة الانحراف إلى حد الاستغراق في بحار الظلمات، فلم تبق لهم قلوب يفقهون بها، ولا آذان يسمعون بها، ولا أبصار يبصرون بها، بل هم لأجل هذه الانحطاطات في العذاب العظيم خالدون، ولا تدل الآية على شئ من تلك المسائل نفيا ولا إثباتا.

البحث الخامس: حول جواز تعذيب الكفار من المسائل الخلافية مسألة جواز تعذيب الكفار، وقد ذهب إليه أكثر الفرق الإسلامية، وعن فرقة منهم: أنه لا يحسن، واستدلوا بأدلة عقلية إن تمت لا تقاومها النقليات، من الكتاب كانت أو من السنة، فدلالة هذه الآية وما شابهها على جوازه، منوطة بإبطال تلك الوجوه العقلية والسبل البرهانية، ولأجل ذلك نشير إلى تلك الوجوه أولا حتى يتبين الاستدلال (7).

وغير خفي: أن الآية لا تدل على الخلود، فالبحث عن مسألة الخلود هنا - كما في بعض تفاسيرنا - غير واقع في محله. وأيضا لا يخفى أن هذه الآية لا تدل على أنهم يذوقون العذاب العظيم، ولا تدل على وجود العذاب العظيم في الآخرة لسكوتها عنه، ومجرد دلالة سائر الآيات على شئ لا يكفي لعد هذه الآية من الآيات الدالة على تلك المسألة العقلية، فلا وجه للخوض في مطلق الأدلة العقلية، القائم بعضها على عدم جواز التعذيب الخارجي، أو عدم إمكانه عقلا، فإنه أمر آخر يأتي في محاله الاخر إن شاء الله تعالى. والذي هو الممحض للبحث هنا: هو أن هذه الآية ظاهرة في استحقاق الكفار للعذاب العظيم، وقد قامت الحجة العقلية - مثلا - على خلافه. وبالجملة: من الوجوه التي يمكن الاستدلال بها لإنكار الاستحقاق مقالة المجبرة. والجواب عنها - بعد وضوح فساد مقالتهم، وبعد أن المجبرة من القائلين بجواز العقاب لإنكارهم الحسن والقبح العقليين -: هو أن مناط الاستحقاق يمكن أن يكون الحسن والقبح العقلائيين، ولا شبهة في ذلك عند ذي مسكة، فضلا عن اولي الألباب والبصائر. ومن تلك الوجوه، وهو أهمها: أنه سبحانه خالق الدواعي التي تستلزم المعاصي، وتلك لحكمة النظام ومصلحة الخلائق في معيشة الدنيا، وفي التمدن والحضارة التي تكون الناس مجبولة عليها، ضرورة أن الناس لو كانوا كلهم صالحين مؤمنين خائفين من عقاب الله، لاختل نظام الدنيا، وبطل أسباب الحياة الظاهرة.

ولا ريب أن حصول الدواعي ليس تحت اختيار العباد، وإلا لكان للدواعي داع آخر، ويعود الكلام جذعا، فيتسلسل، أو ينتهي إلى داع حصل بخلق الله تعالى، فإذا كان هو الخالق للدواعي الشيطانية التي توجب المعاصي، فيكون هو الملجئ إليه، فيقبح منه تعالى أن يعاقبهم عليها، كما هو الظاهر الواضح (8). فعلى هذا تحمل الآيات الظاهرة في العذاب على مجرد الإرهاب والإرعاب، من غير استتباع للعذاب والعقاب، لعدم استحقاقهم شيئا منها، وظهور هذه الآية في الاستحقاق غير قابل للاعتقاد به، وغير صالح للتمسك والركون إليه، أو تكون محمولة على أن نفس الطبع والختم والغشاوة هو العذاب العظيم الذي لهم فعلا، بل هذا الاحتمال قوي لظهور الجملة في الفعلية، أي ولهم عذاب عظيم بالفعل وفي الحال، وليس هو إلا نفس الابتداء بتلك الحجب العقلانية والسمعية والبصرية. أقول: اختار صاحب " الحكمة المتعالية " في حل المشكلة سبيل التحقيق الإيماني في حقيقة العقوبة، وأنها من ناحية الأعمال وتبعاتها والنتائج وثمراتها، ولا يلحق العذاب ولا العقوبة الكفار من جهة انتقام منتقم خارجي، يفعل الإيلام والتعذيب على سبيل القصد وتحصيل الغرض، حتى تتوجه هذه المشكلة وسائر المعضلات الاخر (9).

وأنت خبير بما فيه المحرر عندنا: من إمكان وجود النار الخارجية والعذاب الأخروي والبرزخي، زائدا على تبعات الأعمال وثمرات الأقوال والأفعال، والتفصيل في مقام آخر حتى يتعانق البرهان والقرآن والطريقة والشريعة. والذي هو الحل لهذه العقدة: أن الدواعي التي تحصل أحيانا في النفوس، وإن كانت إخطارية غير اختيارية، إلا أن الإنسان مجبول على الاختيار ومريد بالاختيار الذاتي، ومجرد استجماع الداعي والعلم والتصديق والقدرة غير كاف في حصول الفعل، فإن الشئ بالنسبة إلى هذه المبادئ بالإمكان، ولا يخرج عن حد الإمكان إلى الوجوب حتى يوجد إلا بالإرادة، وهي صفة وفعل اختياريان للنفس، والنفس بالنسبة إليها مختارة بالذات، كما عليه الوجدان بل والبرهان، فالشبهة المزبورة إن لم تكن ترجع إلى مسألة الجبر ومقالة المجبرة، منحلة واضحة السبيل جدا، وللبحث مقام آخر يأتي إن شاء الله تعالى. الوجه الثالث الذي ينتهي إلى نفي الاستحقاق - وهو مورد البحث هنا، وأما أصل التعذيب واقعا والخلود فهما بحثان آخران لا ينبغي الخلط وإن خلط صدر الحكمة المتعالية (قدس سره) في المقام (10)، والأمر سهل كما مر. وبالجملة - هو: أن الله سبحانه إنما كلف عباده لما يعود إليهم من النفع، قال: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) (11)، فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا المنافع الكثيرة المرغوب فيها، فإذا هل يحسن العقول أن يأخذكم الحكيم، ويعذبكم بالعذاب الشديد، معللا: بأنكم قد فوتم على أنفسكم المنافع والخيرات ؟! وهل هذا يحسن من السيد معللا: بأنك ما جلبت الخير، فأنا أوجه إليك الشر، وغير ذلك من التعابير ؟! فيعلم أن العذاب ليس على مبنى الاستحقاق، خلافا للآية الشريفة الظاهرة في استحقاقهم (12). أقول: إن حكم العقلاء في مثل تعذيب الآباء بالنسبة إلى الأولاد، من الأمور المتسالم عليها عند الكل، مع أنه لا يرجع النفع إلا إليهم. هذا أولا. وثانيا: يكفي للاستحقاق التخطي عن أوامر المولى والتجاوز إلى الحدود الممنوعة والدخول في حماه، من غير نظر إلى المصالح والمفاسد، وإلى من يرجع إليه الخير والنفع أو الشر والضرر، وقد علمت أن الكلام حول الاستحقاق، وأما الاستيحاش من التعذيب بحسب الواقع ونفس الأمر، فلا يستلزم نفي الاستحقاق، لإمكان كون التعذيب - كما سنشير إليه - راجعا إلى خير العبد وصلاحه، ويكون العذاب من مظاهر الرحمة الرحيمية، ومن العنايات الخاصة السبحانية. وثالثا: إن النار في الآخرة تفعل بالإرادة، (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) (13)، وتدرك الفاسقين والملحدين بالاستحقاق، من غير صحة استناد ذلك بلا توسط إليه تعالى، فهي - في النظام الإلهي - كالسلطان العادل، لا يفعل إلا حسب الاقتضاءات والاستعدادات، وأما لزوم دفع شر النار عليه تعالى، فهو كلزوم دفع شر الأشرار في الدنيا، فكما لا ملزم عقلا عليه تعالى في هذه النشأة، كذلك الأمر هناك، فليتدبر. فإذا صح ذلك ينتفي البرهان ويتبين جواز التعذيب وإمكان كون المذنبين مستحقين. والله العالم بحقائق الأمور.

البحث السادس: حول كون العذاب من الآلاء ربما تشعر هذه الآية - لمكان قوله تعالى: (ولهم عذاب عظيم) - بأن العذاب العظيم من الآلاء الإلهية والنعماء السبحانية، وأن فيه الخير الكثير، وفيه العائدة الراجعة إلى المعذبين، ويكون ذلك العذاب العظيم خيرا لهم لا عليهم، ففي الإتيان باللام ربما كان النظر إلى الإشعار بتلك المسألة، التي برهن عليها في المسائل الإلهية وحررت في الفن الأعلى (14)، وقد فرغنا عن توضيحها في قواعدنا الحكمية.

وإجمالها: أن الإنسان في هذه النشأة الدنيئة: تارة يزاول الروحانيات والفضائل الأخلاقية ويعانق الملكات الفاضلة النفسانية، وأخرى يكون متحركا نحو الشقاوة متوجها إلى البلاء وإلى الملكات الرذيلة، ويكتسب الموبقات والفجائع ويصير مبدأ الشرور والرذائل، وثالثة يتوسط بين الحركتين، ويعانق من الخير جملة ومن الشر جملة، ولا يتمكن من أن يحول بين نفسه وبين تلك الملكات الخبيثة، أو الأفعال الباطلة المحرمة غير المشروعة، فعلى هذا تكون قد ابتليت بداء لا دواء له وببلية لا علاج يتصور لها بعد الفراغ عنها، فيدخل في النشآت الغيبية مزاولا لما لا ينبغي لمقامه المقدس، فإن النفس هبطت إليه من المكان الأرفع، حتى حكي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عظم يهوديا معللا: بأن له النفس، فإذا بلغ الأمر إلى هذه الورطة وتلك الغمرة، ولم يصل إليه هداية الكتب الإلهية، أو لم يؤثر فيه أنفاس الأنبياء والرسل، فلا تنقطع الرحمة الإلهية ولا الربوبية من الرب السبحاني، بل تشمله الغاية التامة الكلية حتى تحول بين المرء وخبيثه وجليس سوئه. أفلا ترى في الفكرة والحدس: أن الأحجار الكريمة والنقود الجميلة تنادي بلسان الذات، بل بلسان أنطقه الله الذي أنطق كل شئ، وتناجي ربها من سوء ما صنع بها من ناحية جارها، فتصل إليها الرحمة الإلهية بتوسط الأيادي الربانية، فتجعلها في النار، وتصبر على ذلك حتى تخلص عما يؤذيها ويانقه من المؤذيات اللاجنسية والمهلكات الأبدية التي لا زال تبقى معه حتى تفنيه.

فإذا شاهدت ذلك فلتشهد على نفسك: أن الأمر مثل ذاك حذوا بحذو، فإن الجحيم والنار الإلهية التي عدت من الآلاء - كما في قوله تعالى: (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان) (15) - هي النار الحائلة بين الإنسان وجحيمه الذاتي والصفاتي والأفعالي، الذي لا يذوب ولا يذاب ولا يزول ولا يزال يبقى أبديا، فهل ترى في مثل هذا التعذيب الأليم، أنه العذاب الناشئ من سخط الله وغضبه، أو هو من الرحمة التي سبقت غضبه ؟! فنعوذ بالله تعالى من النيران التي نحملها إلى الدار الآخرة على عواتقنا، ومن الجحيم التي كنا فيها، ولم نوفق لمفارقتها في هذه النشأة، مع أن الله تعالى أنزل الكتب وأرسل الرسل حتى يتمكن العباد من ذلك، ومع الأسف أن الخميرة الإنسانية والطينة المحجوبة البشرية، لاحتجابها بأنواع الحجب الظلمانية، تتحرك إلى الشقاوة الذاتية، التي هي العذاب الحاصل من غضب الحليم، ونعوذ بالله منه ومن تلك السجية اللئيمة. اللهم افتح لنا بابا من أبواب رحمتك حتى تتداركنا وتخلصنا، فنستحق أن نذوق مما يذوقه أهلك وعبادك. آمين رب العالمين.


1- انظر الجامع لأحكام القرآن 1: 186 - 187.

2- روح المعاني 1: 124.

3- راجع تحريرات في الأصول 1: 165 وما بعدها.

4- راجع الأسفار 8: 133 - 136 و 9: 56 - 65.

5- الإنسان (76): 1 - 3.

6- راجع الأسفار 8: 221 - 228، وشرح المنظومة (قسم الفلسفة): 314 - 315.

7- راجع التفسير الكبير 2: 54 - 58، وروح المعاني 1: 128 - 131.

8- التفسير الكبير 2: 55.

9- راجع تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 336.

10- تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 337 - 348.

11- الإسراء (17): 7.

12- راجع التفسير الكبير 2: 56.

13- العنكبوت (29): 64.

14- راجع الأسفار 9: 362 - 366.

15- الرحمن (55): 35 - 36.