البلاغة وعلم المعاني

وهناك بحوث ونكات:

البحث الأول: حول موضع الآية قد اختلفوا على أقوال في هذه الآية والآية السابقة المختصتين بالكفار:

أحدها: أنها نزلت في يهود كانوا حول المدينة، وهو قول ابن عباس، وكان يسميهم.

ثانيها: نزلت في قادة الأحزاب من مشركي قريش، وهذا عن أبي العالية.

ثالثها: أنها في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك.

رابعها: أنها في أصحاب القليب، وهم: أبو جهل، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة، ووليد بن المغيرة.

خامسها: في مشركي العرب، قريش وغيرها.

سادسها: في المنافقين (1)، وقد مر وجه استفادة كونهما في حال قسم من المنافقين في ذيل بحوث الآية السابقة. وقيل: إن كانتا في أناس بأعيانهم وافوا على الكفر فالذين كفروا معهودون، وإن كانتا لا في ناس معينين وافوا على الكفر فيكون عاما مخصوصا، لما قد تبين: أنه قد أسلم خلق كثير من هؤلاء الطوائف - اليهود وقريش والمنافقين - بعد نزولهما (2). أقول: قد تبين في الأصول: أن القيود المتأخرة تمنع عن انعقاد الظهور في الجملة المصدر بها الكلام، وهذه الآية الثانية بضميمة قوله: (سواء عليهم...) إلى آخره من الشواهد القطعية على أخصية قوله: (إن الذين كفروا) وعلى أن من عرض عليه الكتاب وأسباب الهداية لا يخلو: إما يؤمن، أو لا يؤمن، فإن آمن فهو خارج طبعا عن مفاد الآيتين، وإن لم يؤمن فهو مندرج فيهما، فالحكم يدور مدار عنوانه صدقا وكذبا.

البحث الثاني: حول نسبة الختم إلى الله تعالى قد اختلفت آراؤهم في وجه نسبة الختم المحسوس - بحسب المعنى - إلى الله تعالى وإلى القلب، بل وإلى السمع والبصر، وفي وجه نسبة " الغشاوة " إلى البصر، مع أنه ليس فيه الغشاوة الحسية والتكوينية، على أقوال وآراء (3). وبالجملة: هناك أسئلة متداخلة:

1 - وجه نسبة الختم إليه تعالى.

2 - وجه استعمال الختم الموضوع للمحسوس في الأمور المعقولة.

3 - وجه إسناد الختم إلى القلوب والأسماع مع أنها ليست مختومة.

4 - وجه نسبة الغشاوة إلى الأبصار مع أنها ليست عمياء، ولا علة فيها بوجه. ولا بأس بالإشارة الإجمالية إلى الأجوبة المذكورة في كتب المفسرين - على نهاية التلخيص والاختصار - قضاء لحقوقهم:

الأول: أن الختم والتغشية على حقيقتهما اللغوية (4)، بناء على أن الألفاظ موضوعة للمعاني العامة، كما ذكرناه في بعض البحوث السابقة بتفصيل، مشفوعا بالبرهان ومؤيدا بالوجدان والذوق العرفاني، وهذه المقالة منسوبة إلى أرباب العرفان وأصحاب الإيقان، وقد فرغنا عن تزييف ذلك وتضعيفه، بعدم جواز الخلط بين البحوث اللغوية السوقية، وبين الذوقيات الخارجة عن أفق الخواص، فضلا عن العوام.

الثاني: أن هذه الأمور محسوسة، وقد روي عن مجاهد أنه قال: " إذا أذنب العبد ضم من القلب هكذا - وضم الخنصر - ثم إذا أذنب ضم هكذا، وضم البنصر، وهكذا إلى الإبهام، ثم قال: وهذا هو الختم والطبع والرين ". وهو عندي غير معقول، ولا يخفى ما فيه من السخافة (5).

الثالث: ما ذهب إليه المحققون، وهو أن الختم استعير من ضرب الخاتم على نحو الأواني، لإحداث هيئة في القلب والسمع مانعة من نفوذ الحق إليهما، كما يمنع نقش الخاتم تلك الظروف من نفوذ ما هو بصدد الانصباب فيها، فيكون استعارة محسوس لمعقول بجامع عقلي، وهو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه أن يقبل، ثم اشتق من الختم ختم، ففيه استعارة تصريحية تبعية. وأما الغشاوة فقد استعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم تقتضيها، لعدم اجتلائها بالآيات، والجامع ما ذكر، فهناك استعارة تصريحية أصلية أو تبعية، إذا أولت الغشاوة بمشتق، أو جعلت اسم آلة على ما قيل (6).

الرابع: أن في الكلام استعارة تمثيلية، بأن يقال: شبهت حال قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم - مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من الانتفاع بها - بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم والتغطية، ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به، فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركبا، والجامع عدم الانتفاع، وهو أمر عقلي منتزع من ذلك المركب (7).

الخامس: نسبه إلى السبب لما كان الله تعالى هو الذي أقدر الشيطان ومكنه، فأسند إليه الختم (8).

السادس: أنهم لما كانوا مقطوعا بهم أنهم لا يؤمنون طوعا، ولا يمكن هدايتهم إلا بإلجاء وإكراه وقسر، عبر عن تركه بالختم (9).

السابع: أنه حكاية تهكمية عن قول الكفار، كقولهم: (قلوبنا في أكنة) (10).

الثامن: أن الختم منه تعالى هي الشهادة منه بأنهم لا يؤمنون وهذا هو مختار " التبيان " (11).

التاسع: أنها في قوم مخصوصين فعل بهم ذلك في الدنيا عقابا عاجلا، كما عجل لكثير من الكفار (12).

العاشر: أن تكون عقوبة غير مانعة عن قبولهم الإيمان (13).

الحادي عشر: أنها حكاية عن أحوالهم في الآخرة (14).

الثاني عشر: أن ذلك علامة وسمة يجعلها الله تعالى في قلب الكافر، تستدل بذلك الملائكة على أنهم لا يؤمنون. وهذا هو مختار أبي علي الجبائي والقاضي تبعا للحسن البصري (15). أقول: الخبير البصير يعرف أن المستعملين البدويين ليسوا يعرفون هذه الدقائق والتخيلات، إلا في بعض الأحيان مما يخطر ببالهم حين الإطلاق والاستعمال، وليس حقيقة الأمر إلا استعمال هذه الألفاظ في المعاني الموضوعة، مقرونا بالقرائن التي بها يستدل المستمع على الآراء والمقاصد الحقيقية والذاتية الموجودة في أنفسهم، من غير ادعاء أو تجوز وتلاعب في استعمال اللفظ في غير الموضوع له، بل للمستعمل نقل أذهان المخاطبين والقارئين إلى مقاصده العالية - الخارجة عن حدود اللغات - بالمفاهيم القريبة من تلك المعاني الرقيقة لبعض المناسبات، من غير إمكان الاطلاع على تلك المناسبة إذا كانت كثيرة. ولا يجوز للباحث الفاحص تعيين تلك المناسبة القريبة إلى ذهنه، لأن القرب والبعد ليسا ميزانا للخطور حين الاستعمال، مع أن القرب والبعد عنده غير القرب والبعد عند الشاعر والناثر، حسب اختلاف المحيط ومنطقة الاستعمال وحال المستعمل، وحيث إن الكتاب الإلهي -في هذه النشأة والمرحلة - لا يتجاوز عن سائر التآليف العربية والنسائج الكلامية فلا يمشي ممشاة أخصائية، فلا يستعمل كلمات الختم والغشاوة، ولا كلمات القلوب والاسماع والأبصار - بناء على كونها للآلات والجوارح - إلا في المعاني اللغوية الموضوعة لها ألفاظها، ولكن المتكلم يريد نقل المستمع إلى مرامه ومراده الجدي لأدنى مناسبة تقتضيه، فتدبر. هذا هو الحق الصريح في هذه المواقف من المجازات، ولا شبهة عندنا تعتريه، ولا شك لدينا فيه.

إلا أن قضية الذوق السليم والفهم المستقيم - على تقدير التنازل - هو غير ما ذهب إليه هؤلاء التلاميذ، وذاك أن من كان يرى ويدعي أن تمام حقيقة القلب والسمع والبصر، هو الإدراك والتصديق الصحيح والإيمان بالغيب والاستماع وإبصار الحقائق الغيبية وأسباب الهداية، يصح له أن يرى في هذه اللحظة ويدعي أن القلب والسمع والبصر التي ليست كذلك، فإما ليست بقلب ولا سمع ولا بصر، كما إذا ادعى أن تمام حقيقة الرجولية هي البطولة والشجاعة، وإذا لم تكن البطولة في الرجل فليس برجل، وينادي " يا أشباه الرجال، ولا برجال، وحلوم الأطفال "، أو يدعي أنها قلوب مختومة وأبصار مغشية كسائر الأشياء المختومة والمغشاة. وهذا ليس من الاستعارة، ولا من المجاز في اللفظ، بل هو تلاعب في المعاني، وتوسعة في نطاق المعنى الموضوع له، مدعيا أن هذا من الختم ومن الغشاوة واقعا وحقيقة، ولأجل ذلك يسمى هذا بالحقيقة الثانية، وليست من الحقيقة الادعائية الكمالية، فإنها غير هذه الحقيقة وبين المقالتين فروق مذكورة في كتاب " الوقاية " لعلم الهدى والعلامة الفذ، الشيخ محمد رضا الأصفهاني - تغمده الله تعالى بأغلفة أنواره وبركاته ورحمته - وسيظهر في البحوث الآتية وجه آخر لكون النسبة إليه تعالى على وجه الحقيقة الأولية أيضا إن شاء الله تعالى.

البحث الثالث: استعمال الختم مع القلب والسمع بخلاف الغشاوة قيل: إن النكتة في استعمال الختم مع القلب والسمع، واستعمال الغشاوة مع البصر، هي: أن الختم من شأنه أن يكون على المكنون المستور، وهكذا موضع حس السمع وموضع الإدراك من العقل والأسماع في ظاهر الخلقة، وأما البصر فالحاسة منه ظاهرة منكشفة. وفي " المنار ": إن مثل هذه الدقائق هي المرادة بقول صاحب " التلخيص ": ولكل كلمة مع صاحبتها مقام (16). أقول: قد عرفت أولا - في بحث الإعراب -: أن كون الغشاوة مفعولا به - بحسب المعنى - أرق وأحق، مع أن بعضا قرأها بالنصب. وثانيا: أن وجه الاستعمال: هو أن البصر فيه الغشاوات السبعة، وفيه التغطية الحسية، فيناسب دعوى الغشاوة العقلية، أو ادعاء الغشاوة الحسية عند عدم ترتب الآثار لمقصودة من الهداية والإيمان، بخلاف القلب والسمع، فالطبع يناسب البصر، بخلاف الغشاوة، فإنها لا تناسب القلب والسمع، وتكون أشد تناسبا مع البصر، ولذلك اختير له. والله العالم.

البحث الرابع: تقديم القلب على السمع والسمع على البصر قيل في وجه تقديم القلب على السمع، والسمع على البصر: أن الآية تقرير لعدم الإيمان، فناسب تقديم القلوب، لأنها محل الإيمان، والسمع والأبصار طرق وآلات له (17)، وأن السمع أقوى وجودا من البصر، ولذلك يقدم عليه في الكتاب. ومما يشهد على أقوائية وجوده: أن شرائط الاستماع أقل من شرائط الأبصار، فإنه يسمع الإنسان ليلا ونهارا، ولا يبصر إلا نهارا، ويسمع الإنسان من كل جانب، ولا يبصر إلا عند المواضع الخاصة والمقابلة المخصوصة. وقد ذكرنا وجوها اخر في تعاليقنا على بعض الكتب العقلية. ولك أن تقول: قدم القلب لأنه إذا ختم عليه يكون الأعضاء التابعة للرئيس مختوما عليها بالطبع والتبع، ولا يطبع عليها استقلالا، لأنها الوجودات الفانية في تلك القوة الأصلية السارية الرئيسة. وإن شئت قلت: نسبة القلب إلى السمع والبصر نسبة إيجاب، ونسبة الأعضاء والحواس إليه نسبة إعداد، فإن كان المتكلم في موقف البحوث الإدراكية العقلية، فيلاحظ القلب أولا، وإذا كان في موقف البحوث العملية والعلوم الأفعالية كالأخلاقيات، يقدم القوى الإعدادية على القوى الإيجابية.

البحث الخامس: وجه عدم إتيان السمع جمعا قيل في وجه إتيان القلب جمعا وهكذا الأبصار، دون السمع: إن ذلك باعتبار الكثرة الموجودة في المدركات العقلية والمحسوسات البصرية، بخلاف السمع، فإنه لا يدرك إلا الصوت (18). وبتعبير آخر: لا يتعلق إلا بالأمواج والارتعاشات التي كلها من صنف واحد ونوع فارد. ويمكن أن يقال: إن في كلمة " الأسماع " نوع اشمئزاز أفرادي وتنافر سمعي. وقد تداول في الكتاب الإلهي إفراد بعض الألفاظ وجمع ألفاظ اخر تقابلها، كالنور والظلمات، والأرض والسماوات، وغير ذلك، ويمكن أن يكون ذلك في هذه الآية رمزا إلى أن السمع من متعلقات الجملة السابقة، فإن في تغيير الأسلوب منافع كثيرة تأتي في محالها - إن شاء الله تعالى - أو إشعارا بأن بين القوى الإحساسية، تكون السامعة أقوى وأقرب إلى الوحدة من البصر والباصرة، مع أن فقد السامعة فقد الناطقة، بخلاف الباصرة، ومع أن الانتباه والاستيقاظ من النوم لا يمكن بالباصرة، بخلاف السامعة، فكأنها لا تموت بالمرة وإن كان تضعف وتنام الاذن، هكذا في بعض أحاديثنا (19). ومن العجيب - ولا يؤسف عليه - ما عليه أكثر المتكلمين، وهو تفضيل البصر على السمع، لأجل أن السميع لا يدرك إلا الأصوات والكلام، والبصير يدرك الأجسام والألوان والهيئات كلها، قالوا: فلما كانت تعلقاته أكثر كان أفضل، وأجازوا الإدراك بالبصر من الجهات الست (20). وأنت خبير بما فيه من الأغلاط العجيبة، والأعجب أن كثرة تعلقاته توجب أضعفية وجوده وأكثرية الشروط اللازمة في الإحساس به. وبالجملة: ما هو مناط القوة والضعف قلة الشرائط وكثرتها، ومن الواضح أن الإحساس بالسامعة أقل شرطا من الإحساس بالبصر.

البحث السادس: حول إعادة " على " إعادة الجار تشعر بشدة الختم في الموضعين، فإن ما يوضع في خزانة إذا ختمت الخزانة والدار، كان ذلك أقوى في المنع عنه وأظهر في الاستقلال، وذلك لأجل أن في إعادة الجار ملاحظة معنى الختم مرارا، ولذا قالوا: في " مررت بزيد وبعمرو " مروران، وفي " مررت بزيد وعمرو " مرور واحد، والعطف وإن كان أيضا ظاهرا في الإعادة، لكنه ليس ظاهرا مثلها في الإفادة، لما فيه من الشبهة والتردد، وإنما الشأن في أن استفادة كونه تعالى في موقف إفادة اشتداد الختم غير ممكن، حتى يصح الوجه المزبور، ومن المحتمل أن تكرار الجار في جملة (على أبصارهم) كان لازما، لأنها جملة مستقلة، وحذفها عن جملة (على سمعهم) خلاف وحدة السياق واقتضاء النظام. نعم لو كان محذوفا، كان رمزا إلى أن الجملة الثالثة ليست معطوفة بالضرورة، إلا أن رفع " غشاوة " يفيد ذلك، والإتيان بالسمع مفردا كان يكفي لإفادة كونه من متعلقات الجملة السابقة. فعلى هذا يتعين مراعاة السياق بإعادة الجار، والذي هو الأهم في النظر أن لكل آية زنة خاصة ورنمة موزونة في الأسماع لا تكمل تلك الزنة والرنمة إلا بزيادة ونقيصة مرعية في الآيات كثيرا، كما تقف عليه في محاله إن شاء الله تعالى.

البحث السابع: رفع الإجمال عن (لهم عذاب عظيم) في قوله تعالى: (ولهم عذاب عظيم) جهات من الإجمال:

1 - ولهم - بما هم عليه من الخلاف - عذاب عظيم.

2 - ولهم يوم القيامة عذاب عظيم.

3 - ولهم في الدنيا عذاب عظيم.

4 - ولهم في الدنيا والآخرة عذاب عظيم.

5 - ولهم عذاب عظيم دائما.

6 - ولهم عذاب عظيم غير دائم.

7 - ولهم عذاب عظيم، وهو الابتداء بالختم والغشاوة.

8 - ولهم عذاب عظيم آخر غير الابتلائين.

9 - ولهم عذاب عظيم يذوقونه.

10 - ولهم عذاب عظيم لا يذوقونه، فإن الإخبار عن الاستحقاق أعم من الابتلاء بالعذاب والذوق والإحساس.

11 - ولهم نوع من العذاب العظيم.

12 - ولهم عذاب فخم عظيم.

13 - ولهم عذاب عظيم لأجل الغشاوة وعمى الأبصار.

14 - ولهم عذاب عظيم لأجل ختم القلوب والأسماع.

15 - ولهم عذاب عظيم لأجل هذه الأمور كلها.

16 - ولهم عذاب عظيم تابوا أو لم يتوبوا.

17 - ولهم عذاب عظيم، لأنهم لا يؤمنون ولا يرجعون حتى تقبل توبتهم.

18 - ولهم عذاب عظيم معد من قبل أنفسهم ومن سوء اختيارهم.

19 - ولهم عذاب عظيم من قبل الله تعالى لاستحقاقهم.

20 - ولهم عذاب عظيم بتحصيلهم المبادئ الموصلة، وبإفاضة القدير على تلك المواد والمبادئ المهيأة بسوء فعالهم وغير ذلك. أقول: الخروج عن هذه التسويلات وإن كان يمكن باستظهار المعنى المقصود، كما استظهره المفسرون صدرا وذيلا، إلا أن الأظهر كون هاتين الآيتين في موقف إفادة المعنى على نعت الإبهام والإجمال، حذرا عن كونها آية الإغواء والإضلال، ضرورة أن جمعا من الناس إذا كانوا من ضعفاء العقول، ومن المتوغلين في الدنيا وزخرفها، ومن المشتغلين بها عن الآخرة وأحكامها، ربما يضلون بها باختيار العمى على الهداية، معللين بأن الله تبارك وتعالى يعلم بكفرنا، وبأنا لا نؤمن لرب العالمين، وأنه تعالى أخبر بهذه الأمور، وأن قلوبنا غلف وفي أكنة، وأسماعنا وأبصارنا مختومة ومغشية، وقد هيأ الله لنا العذاب العظيم الخالد، فلا ينفع إيماننا ولا رجوعنا وإنابتنا، وهكذا. مع أن الأمر - بحسب التحقيق - ليس كذلك، فإذا ألقينا عليه هذه المجاملات الكثيرة من نواح شتى، وتلك الإبهامات المختلفة في جهات غير عديدة، ليظهر في قلبه رجاء الهداية، ويشرق في أفق نفسه نور الأمل، ويهتدي بهداه تعالى، ويخرج من الظلمات الثلاثة إلى الأنوار البهية الخالدة إن شاء الله تعالى.

البحث الثامن: حول دلالة اللام على النفع اختلفوا في أن اللام و " على "، هل هما يستعملان في موارد الضرر والنفع مطلقا، كما هو خيار بعض المحشين من الأدباء، أم هما مختلفا الاستعمال ويكون الحكم المزبور غالبيا، كما هو مختار الأكثر؟لا شبهة في عدم وضع لهما في الضرر والنفع، ودعوى عموم الحكم غير مسموعة، ولا داعي إليها حتى يحتاج إلى التأويل في قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) (21)، وقوله تعالى (وما ربك بظلام للعبيد) (22). نعم لا يبعد أن يستشعر أحيانا - في بعض المواقف - اختيار المستعملين هذه الحروف لإفادة أمثال هذه المعاني، وإلا فما هو الأصل أن ذلك مما يستفاد من الجهات الأخر، فإذا قال الله تعالى: (ولهم عذاب عظيم) وإن كان يوهم أن المقام كان يجوز استعمال " على "، فيقال: وعليهم عذاب عظيم، فاختيار اللام ربما كان للإشعار إلى هذه الدقيقة التي يأتي تفصيلها في البحوث الآتية في فن الفلسفة إن شاء الله تعالى، بخلاف اختيار " على " في الجمل السابقة، فإنه مقتضى طبع الختم، فلا تخلط.

البحث التاسع: عدم عمومية الأوصاف لكل كافر إن مرجع هذه الضمائر الأربعة في هذه الكريمة واحد حسب الظاهر، ويكون الكفار مطبوعي القلوب والأسماع ومغشيي الأبصار، إلا أن كون هذا الحكم من العام الاستغراقي، بمعنى أن كل واحد من الذين كفروا ولا يؤمنون مطبوع القلوب والأسماع ومغشي الأبصار، فهو غير واضح، لاحتمال اختصاص جماعة منهم بطبع القلب الموجب لانطباع الأسماع والأبصار، واختصاص جماعة أخرى منهم بطبع الأسماع، المورث لعدم ولوج الهداية إلى قلبه الصافي أو القابل للهداية أحيانا، فإن الأبواب إذا سدت يصير سلطان البيت ورب الدار فقيرا مسكينا مع طول الزمن ومرور الأيام والأعوام حتى يهلك، واختصاص ثلة ثالثة بغشاوة الأبصار أيضا. وبالجملة: الحكم على سبيل منع الخلو، دون منع الجمع، ودون المنفصلة الحقيقية. نعم الكل مشترك في العذاب العظيم. واحتمال كون الجملة الأخيرة مخصوصة بمفاد الجملة السابقة عليها بعيد جدا، أي إن العذاب العظيم لجميع الطوائف من الذين كفروا، ولا يختص بالذين على أبصارهم غشاوة وإن كانت العبارة توهم ذلك. والله العالم.


1- البحر المحيط 1: 50 / السطر 13.

2- راجع البحر المحيط 1: 50 / السطر 17.

3- راجع التفسير الكبير 2: 49 - 52، والبحر المحيط 1: 48، وروح المعاني 1: 123 - 125.

4- روح المعاني 1: 123.

5- روح المعاني 1: 123، تفسير الطبري 1: 112.

6- روح المعاني 1: 123.

7- راجع روح المعاني 1: 123.

8- الكشاف 1: 52، روح المعاني 1: 123 - 125.

9- راجع الكشاف 1: 52.

10- نفس المصدر.

11- راجع تفسير التبيان 1: 64، والتفسير الكبير 2: 50.

12- راجع التفسير الكبير 2: 51.

13- التفسير الكبير 2: 51.

14- راجع نفس المصدر.

15- التفسير الكبير 2: 51، وراجع في جميع هذه الأقوال إلى البحر المحيط 1: 48.

16- راجع تفسير المنار 1: 146 - 147.

17- راجع روح المعاني 1: 126.

18- راجع تفسير المنار 1: 144.

19- لاحظ تهذيب الأحكام 1: 8 / 11.

20- انظر التفسير الكبير 2: 53، والجامع لأحكام القرآن 1: 189 - 190.

21- الأحزاب (33): 56.

22- فصلت (41): 46.