التفسير من الآية 11 إلى الآية 18

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النور/11) ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ (النور/12)

تسمى هذه الآيات بآيات الإفك. الإفك معناه الكذب العظيم الذي اختلقة بعض المنافقين بشأن زوجة رسول الله لغرض الإساءة إليه (صلى الله عليه وآله) خلاصة هذه القصة نقلا عن أهل السنة: إن عائشة زوجة الرسول دخلت بستانا لقضاء الحاجة اثناء عودة المسلمين من إحدى غزواتهم، وهناك سقطت عصابة رأسها فظلت تبحث عنها وتأخرت - نتيجة ذلك - عن القافلة، ثم أنها دخلت المدينة متأخرة برفقة صفوان الذي كان يسير خلف القافلة لمساعدة المتخلفين عنها. وفي أعقاب هذه الحادثة روج المنافقون تهما ضد زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله).. يستفاد من هذه الآيات قضايا تربوية واجتماعية ذات أهمية بالغة، وقد نتعرض نحن في عصرنا الحالي لابتلاءات من هذا القبيل.

تؤكد الآية إن الذين جاءوا بهذا الإفك هم عصابة منكم. وبهذا الأسلوب ينبه القرآن المسلمين والمؤمنين إلى وجود مجاميع بينهم تتظاهر بالإسلام ولكنها تستهدف من وراء ذلك مقاصد خطيرة. أي أن القرآن يريد القول أنّ اختلاق هذا الإفك على يد تلك الفئة لم يكن عن جهل أو غفلة، بل كان عملا مقصودا ومبيتا يرمي إلى الإساءة إلى الرسول وانتهاك حرمته، إلا أنهم لم يحققوا غايتهم تلك.

يذكر القرآن إن هؤلاء عصبة منكم، وكان قصدهم شرا لكن النتيجة جاءت خيرا: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾. لا تظنوا أنّ في هذه الحادثة انتكاسة لكم أنتم أيها المسلمون، أبدا بل أن هذه القصة مع ما فيها من مرارة كانت خيرا للمسلمين. ولكن لماذا يعتبر القرآن هذه القصة ذات مردود إيجابي مع إنّها كانت تنطوي على مرارة فضيعة؟ هذه القصة وضعت حدّاً لانتهاك حرمة الرسول (صلى الله عليه وآله) وبقيت تتداولها الألسن أياما متوالية _ حوالي أربعين يوماً _ إلى أن نزل الوحي وتوضّحت الأمور تدريجيا. والله يعلم بما جرى على الرسول والمقربين إليه خلال هذه المدة?.

أما قول القرآن انه خير فيعزى إلى سببين هما:

أولا: إن هذه الفئة المنافقة قد كشف عنها. من أكبر المخاطر التي تهدد المجتمعات هو تداخل الخنادق واختلاط الصفوف. فالمنافقون والمؤمنون كلهم في خندق واحد. وما دامت الأوضاع مستقرة فلا خطر في ذلك. ولكن ما أن يتعرض ذلك المجتمع إلى هزّة حتى يلحق به المنافقون أفدح الأضرار. ولهذا فالأحداث التي تمر بالمجتمع تؤدي إلى الكشف عن الوجوه.

وإذا وقع للمجتمع بلاء يقف المؤمنون إلى جانب المؤمنين، ويمزق المنافقون حجب نفاقهم ويقفون في الخندق الذي ينبغي لهم الوقوف فيه. وهذا خير كبير للمجتمع. المنافقون الذي وضعوا هذه القصة بقي لهم منها - حسب تعبير القرآن _ "الإثم" فقط، والإثم بمعنى وصمة الذنب. فأولئك المنافقون قد سقطوا من الاعتبار ما بقوا على قيد الحياة.

ثانيا: إن الذين لفقوا هذه التهمة لفقوها عن وعي، إلاّ أن سائر المسلمين صاروا كأداة لهذه الزمرة، فأكثرية المسلمين مع ما تتصف به من الإخلاص والإيمان ونزاهتهم عن الأغراض والمساوئ إلا أنهم اتخذوا من قبل هذه الزمرة كأداة إعلامية ولكن لا عن قصد أو عن وعي. وهذا ما يبينه القرآن لشلك واضح.

من المخاطر الكبيرة التي تواجهها المجتمعات أن يكون أفرادها غير واعين. في مثل هذه الحادثة يتخذهم العدو - إن كان ذكيا - ضد أبناء مجتمعهم. فهو يختلق قصة ثم يلقيها في أفواه هؤلاء الناس غير الواعين فيشيعونها بأنفسهم.

الكلام الذي يختلقه العدو من واجبكم وأده في مهده، لأن العدو يستهدف أساسا أشاعته، والواجب يحتم عليكم عدم نقل ذلك الكلام لأي كان حتى تحبطوا بصمتكم هدف العدو (أشيع مثلا في وقت ما، وربما لا زال شائعا حتى الآن بين البعض ان الفلسطينيين نواصب، والنواصب غير السنة. السني هو الذي يعتبر أبا بكر هو الخليفة الأول وعليا (عليه السلام) هو الخليفة الرابع، ولا يعتقد ان الرسول نصب خليفة من بعده، وان الناس قد اختاروا أبا بكر. السني يحب أمير المؤمنين لأنه يعتبره الخليفة الرابع. اما الناصبي فهو من يكره عليا. السني مسلم، لكن الناصبي كافر ونجس، ونحن لا نستطيع معاملة الناصبي كمسلم. ويشيع البعض أن الفلسطينيين نواصب. والبعض الآخر يقل كلامهم إلى الآخرين، وغيره ينقله إلى شخص آخر وهكذا. فإذا كانوا نواصب فهم كفرة، وهم واليهود في خانة واحدة.ومن المؤسف أن أحدا لا يدرك ان هذا الكلام من وضع اليهود الذين يختلفون لكل موقف كلاما لأجل إزالة مشاعر التعاطف مع الفلسطينيين.

الصهاينة يعلمون ان الايرانيين شيعة ويحبون عليا ويعتقدون ان كل من يبغضه كافر. في حين اننا عندما كنا في مكة في إحدى السنوات كنا نلتقي هناك بالكثير من الفلسطينيين، وجاءنا أحدهم وسألنا: ما حكم المسألة الفلانية في الحج؟ ثم انه قال: انا شيعي، ورفاقي هؤلاء سنة. فاتضح ان من بينهم شيعة أيضا. ليل خالد(فدائية فلسطينية شاركت في عدة عمليات خطف طائرات) هذه المرأة المعروفة، شيعية وقد ذكرت ذلك بنفسها خلال عدة لقاءات أجريت معها في مصر. إلا أن العدو الصهيوني يسخر عملاءه ليشيعوا ان الفلسطينيين نواصب.

في مثل هذه الحالات يحذر القرآن المسلمين من أمثال هذه الفئة التي تسيء إلى جماعة منكم تلفظ بالشهادتين كما تلفظون بها أنتم).

الفائدة الثانية من هذه القصة هي أن المسلمين أدركوا الخطأ الذي وقعوا فيه، مما أدى إلى إيجاد الوعي بينهم. أي انهم وقفوا على حقيقة تلك الفئة من جهة، وعرفوا موضع خطئهم من جهة أخرى.

في أحد الأيام بعد أن انتهيت من درس التفسير جاءني صديق من أحد الأحياء البعيدة في طهران -ولا أريد هنا حتى ذكر اسم ذلك الحي- ودعاني إلى الركوب معه في سيارته القديمة، وفي أثناء الطريق قال لي: هل تعلم لماذا جئت بك إلى هنا؟ لقد سمعت انهم في مسجد الجواد(عليه السلام) لا يقولون في الأذان "أشهد أن عليا ولي الله " قلت له: لنذهب ونرى هل انهم حقا لا يقولون ذلك، وأردفت قائلا: رحم الله والديك إن اجهدت نفسك لترى على أدنى الاحتمالات هل انهم يقولون أم لا يقولون.

ولكن أحيانا يأتي شخص ويقول بشأن مسجد الجواد مثلا: انهم لا يقولون فيه:"اشهد أن عليا ولي الله"، ويقول شخص آخر: أنا سمعت أيضاً أنهم هناك لا يقولون::"اشهد أن علياً ولي الله "حتى تبلغ الأمور حدّاً تجد فيه كل الناس يقولون. سمعنا أن مسجد الجواد لا تذكر فيه جملة "أشهد أن عليا ولي الله" في الأذان.

ولكن ما رأي الإسلام في هذا؟ الإسلام يقول: متى ما سمعتم مثل هذا الكلام لا تذكروه أمام أحد أبدا. أن كنت في شك منه أذهب وتحرّاه بنفسك. وإذا لم تكن لديك رغبة في التحقق من صحة الأمر لماذا تذيعه للآخرين؟ لا يحق لك أبدا إفشاؤه.

كانت هناك قرية نصف أهاليها من المسلمين والنصف الآخر يهود، وكانت تبعد عن "جتل"(يبدوا انه اسم لمزار) مسافة فرسخين. وكان اليهود يدّعون أن "جتل" لهم وانهم هم الذين بنوه. والمسلمون يقولون بل هو لنا. اليهود يقولون لنا لأنه لا منارة فيه.

والمسلمون يقولون هو لنا لأن فيه منارة. واحتد الصراع بينهم وقتل ناس وجرح آخرون. ولكن لم تكن لديهم عزيمة تكفي ليذهبوا ويروا هل فيه منارة أم لا.

الفائدة الثانية المستقاة من قصة الإفك هي توعية المسلمين. والقرآن ذكرها لتبقى على الدوام يقرؤها الناس باستمرار ويأخذوا منها العبر. فإياك وإن تصبح أداة وإذاعة للآخرين.

الله وحده يعلم كم اختلق اليهود - بالدرجة الأولى - والبهائيون الذين كانوا أداة بأيديهم من أمثال هذه القصص. أحيانا يشيع اليهودي أو المسيحي شيئا ضد المسلمين وينتشر بين الناس حتى يجد طريق إلى الكتب تدريجيا ويصبح عند المسلمين من المسلمات مثل قصة إحراق الكتب في الإسكندرية.

بعد أن فتح الإسكندر بلدان مصر وإيران والهند، بني مدنا باسمه أي "الإسكندرية" وتوجه إليها العلماء وانشئت فيها مكتبات كانت في الواقع مدارس وتضم كتبا كثيرة. وبالنسبة لمكتبة الإسكندرية في مصر كانت قد تعرضت - كما يؤكد المسلمين وحتى تاريخ المسيحية - للنهب والإحراق عدّة مرات قبل أن يفتحها المسلمون. فبعد أن اعتنق إمبراطور روما الشرقية الديانة المسيحية. خرب مدرسة ومكتبة الإسكندرية لأنه كان يذهب إلى أن الفلسفة تتعارض مع الديانة ولا بد أنكم على علم بأن سبعة من فلاسفة الإسكندرية التجأوا إلى إيران، إلى بلاط انو شيروان. ومعنى هذا أنه لم تبق هناك مكتبة.

أثبت اليوم مؤرخون مسيحيون مثل "ويل ديورانت "وغيره أن مكتبة الإسكندرية كانت قد تعرضت لحوادث مرات متعددة قبل أن يفتح المسلمون الإسكندرية، وحينما دخلها المسلمون لم تكن فيها مكتبة.

ومن جهة أخرى فان الفتوحات الإسلامية سواء في إيران أم في مصر أم أماكن أخرى قد دون المؤرخون المسيحيون والمسلمون وقائعها بالتفصيل، وخاصة فتح الإسكندرية الذي أرّخ وقائعه المؤرخون المسيحيون بالتفصيل.

وبعد ذلك كتبت في القرنين الثاني والثالث للهجرة كتب مهمة من قبيل:"تاريخ اليعقوبي" و"تاريخ الطبري" و"فتوح البلدان" للبلاذري التي تتحدث معظم مواضيعها عن أحداث القرن الأول الهجري، وسلسلة إسنادها مرتبة ومنظمة ولم يذكر أي مؤرخ وجود مكتبة في الإسكندرية أحرقها المسلمون.

قال "ويل ديورانت" في هذا الصدد:"كان هناك قس يقيم في الإسكندرية وقد دوّن كل تفاصيل وقائع فتح الإسكندرية، والكتاب موجود حاليا، وليس فيه أي ذكر لإحراق المكتبة".

ولكن ذكر شخص أو شخصان في القرنين السادس والسابع للهجرة أي بعد مضي ستة قرون - ولم يكن هذان من المؤرخين، وإنما من اتباع الديانة المسيحية - أن تلك المكتبة أحرقت أثناء فتح الإسكندرية على يد المسلمين، وكان غرضها دفع التهمة عن المسيحية، وقالا في ذلك الصدد: أنّ عمرو بن العاص حين دخل الإسكندرية وجد فيها مكتبة ضخمة، فكتب إلى الخليفة لمعرفة رأيه في ما يجب فعله بتلك المكتبة. فكتب إليه الخليفة يقول: إن كان ما فيها موافقا للقرآن، فالقرآن حسبنا، وإن لم يكن موافقا، فماذا نفعل بما يخالف القرآن! احرقها كلها. فأحرق عمرو بن العاص المكتبة.

ثم أن المسلمين أنفسهم نقلوا في ما بعد في القرنين الثامن والتاسع تلك القصة من تلك الكتب من غير أن يفكروا في أن تلك القضية لو كانت صحيحة لنقلها مؤرخو القرن الأول.

ثمة قرائن أخرى دالّة على كذب هذه القصة. وقد سبق لي وأن تحدثت في ثلاثة مجالس عن اكذوبة احراق مكتبة الإسكندرية(راجع مقالة"إحراق المكتبات في إيران ومصر"في كتاب "الإسلام وإيران") وكتب شبلي نعمان رسالة في هذا الموضوع. والمحققون والعلماء والمؤرخون لا يشكون في كذب هذه القصة.

إلاّ إنّ الأعداء وأدواتهم ينقلون هذه الأكاذيب عن وعي والأصدقاء ينقلونها بلا وعي حتى بلغ الأمر مرحلة حينما يريدون الاتيان بمثال في المنطق "في كتاب الفلسفة والمنطق للصف السادس الاعدادي" (في العهد الشاهنشاهي) عن القضية المنفصلة يقولون نظير ما قاله خليفة المسلمين عن مكتبة الاسكندرية "إن كان ما فيها موافق للقرآن، حسبنا القرآن، وإن كان ما فيها مخالف للقرآن، فماذا نصنع بما يخالف القرآن، إذن أحرقها". أوردوا في كتب المرحلة الأعدادية أن المسلمين كان دأبهم إحراق الكتب.

ذكر شبلي نعمان أن الإنجليز بعدما احتلوا الهند وانشأوا فيها المدارس، وضعوا لها مناهج دراسية بأنفسهم، وحينما أرادوا التمثيل في المنطق للقضية الحقيقية المنفصلة ذكروا هذا المثل بالذات ليغرسوا في أذهان الطلبة المسلمين والهندوس بأنّهم أمّة تحرق الكتب منذ القديم."هذه الأمور يذكرها شبلي نعمان وبعد أن وجدتها في كتب مدارسنا الأعدادية أدركت حقيقة الأمر بشكل جيّد".

ثم إننا تناقلناها لساناً عن لسان بدون التأكد من صحتها. بحيث لو أننا قنا بكذبها لأعلن البعض استغرابهم وقالوا ما كنّا نحسب أن هذه القضية كاذبة.

وقول القرآن ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم﴾ يريد منه إنّ هذا درس لكم أيّها المسلمون إقرأوا قرآنكم وخذوا منه العبر لكي لا تكونوا بعدها أبواقاً إعلامية للأعداد ولما يبثونه من إشاعات. ثم يقول: أن الذين جاؤا بهذه القصة لحقتهم عواقب ذنبهم كل حسب ما ارتكب من الذنب، وإن أحدهم قد تحمل القسم الأعظم من ذلك الأثم "والمقصود به عبدالله بن أبي بن سلول" ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. وبالإضافة إلى سوء المصير والسمعة في هذه الدنيا حيث بقي يُسمى برئيس المنافقين ما دامت الدنيا. ويذيقه الله أيضا عظيم العذاب في الآخرة.

﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ (النور/12) كان من الممكن أن يعبر القرآن عن هذا المعنى بالقول: أيها المسلمون لماذا أسأتم الظن بإخوانكم المسلمين لما سمعتم هذا الخبر ولم تحسنوا الظن بهم؟ ولكنه لو عرضه بهذا المعنى لكان قد عرض موضوعا في غاية البساطة، ولكنه قال: لماذا أسأتم الظن بأنفسكم؟ أي يجب أن تفهموا أنكم بناء واحد وجسد واحد. وعلى المؤمنين أن يعتبروا أنفسهم أعضاء في جسد واحد، فإذا نسبت لأحدهم تهمة تكون وكأنها موجهة ضدهم كافة، وإن عرض أي مسلم كأنه عرض الجميع.

النقطة الثانية هي أن القرآن لم يقل: لماذا لم تظنوا بأنفسكم خيرا؟ بل قال: لماذا لم يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا؟ هنا ذكر الرجل والمرأة سوية، أي لا فرق بين الرجل والمرأة. ثم يدخل كلمة الإيمان في السياق، أي أن الإيمان هو ملاك الوحدة والاتحاد. أي أن المؤمنين يعتبرون نفسا واحدة انطلاقا من مبدأ الإيمان. أي انه يريد القول أيها المؤمنون والمؤمنات لو وجهت إلى أحدكم تهمة، هل يذيعها ويتحدث بها حيثما جلس ويقول نُسِبَت إلىّ مثل هذه التهمة؟ كيف إذا نُسبت لأحدكم تهمة يفهم أنّه يجب عليه التزام الصمت ولا يعمل على إشاعتها في حين إذا نسبت إلى إخوانه المؤمنين وأخواته المؤمنات لا يتخذ نفس الموقف؟ ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ (النور/12).

لماذا حينما سمعوه لم يقولوا: هذا إفك. سكت رسول الله مدّة شهر، في حين كان المسلمون الغافلون يتناقلون تلك الأكذوبة في مجالسهم وكلّ واحد منهم يقول: سمعت كذا؟ القرآن يقول: كان ينبغي أن تقولوا: هذا إفك منذ اليوم الأول. وعليكم الآن ان تقولوا حين سماع مثل هذا الإشاعات: هذا إفك مبين.

﴿لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (النور/13). أي أنكم ملزمون برعاية الأحكام والقوانين التي حددها الإسلام لسلوككم. وأية تهمة تسمعونها بحق أي شخص مسلم- مادامت لم تثبت_ يجب أن تعتبرونها أكذوبة، وأنها كذب عند الله، وعبارة "عند الله" بمعنى في الأحكام الشرعية.

التكليف واضح جداً. فإذا سمعنا شخصاً يتهم فرداً أو جماعة أو مؤسسة، ما هو تكليفنا؟ هل تكليفنا أن نسكت؟ أم نقول "الله أعلم"؟ أم نقول: لا ندري ربّما صحيح وربّما غير صحيح؟ أم نتحدّث في المجالس ونقول سمعنا يقولون هكذا؟ ما هو موقفنا؟ طالما لم تقم البينة الشرعية، وطالما لم يثبت لدينا شرعا - كأن يشهد أربعة عدول في قضايا الزنا، وشاهدان عدلان في القضايا الأخرى، وهذا هو معنى البيّنة الشرعيّة هنا، وعندها يترتب علينا واجب آخر - لا يحق لنا التحدث بذلك، ولا يحق لنا أن نقول: لا نعلم، أو نقول ربما للقضية أساس أو ربما لا أساس لها، ولا يحقّ لنا أن نسكت، بل يجب أن نكذّب الخبر ريثما يثبت شرعا وحينها يجب علينا التصدي لتلك الظاهرة السلبية.

يقع علينا بطبيعة الحال في كل حالة تكليف معين. في بعض المواقف يجب علينا الوقوف بوجه ذلك العمل، وفي مواقف أخرى يجب على الحاكم الشرعي اتخاذ الإجراءات الرادعة كقضية الزنا مثلا. والقرآن يقول: انتم أيها المسلمون إذا تناقلتم مثل هذه الإشاعات ترتكبون إثما عظيما، إلا أن الله غفر لكم هذا الذنب، وعليكم أن تحاذروا من ارتكاب مثل هذا العمل مستقبلا. ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النور/14).

ولكن أي ذنب هذا الذي انهمكنا فيه، ونقلناه؟ ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ (النور/15). وكنتم تظنونه أمراً هيّناً: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ (النور/15). لأن القضية هنا تخصّ كرامة المسلمين، وفي هذا المورد بالخصوص يمسّ بكرامة الرسول (صلى الله عليه وآله) فلماذا حينما سمعتموه لم تقولوا لا يحق لنا الخوض في هذا الحديث؟ ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ (النور/16). ولا يقتصر الموقف عند حد الامتناع عن الكلام ‎، بل لا بد من تكذيب الخبر: ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ (النور/16).

أن الله يعظكم أيها المسلمون أن لا تعودوا لمثل هذا الذنب: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (النور/17).

ويجب عليكم أن لا تكونوا أداة إعلامية تشيع ما يلقيه العدو في الأفواه: ﴿وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النور/18). فهو تعالى عالم بكل شيء وأنزل عليكم هذه الآيات على أساس حكمته.

جاء في الأخبار حديث مفاده: إذا رأيتم أهل البدعة عليكم بالتصدّي لهم. الجميع مكلّفون بالتصدّي للبدعة. مثلاً الصلاة على النبي مستحبة في كل زمان ومكان. وقد ينهض أحد الحاضرين في مجلس الخطابة ويرفع صوته بالصلاة على النبي لأجل إزالة حالة الملل، هذا أمر جيد. ولكن إذا توهّم أحد أن هذه الممارسة سنة إسلامية أو حكم شرعي، فهذه بدعة وليست من الدين في شيء. وليس في الإسلام أمر يقضي بالصلاة على النبي أثناء خطبة الخطيب.

توجد لدى الإيرانيين عادة يا حبذا لو تجتنب، وهي الصلاة على النبي عند إضاءة المصابيح. وقد يقول قائل: إن الصلاة على النبي مستحبة في كل أوان.

وأنا أيضا أؤيد صحة ذلك. إلاّ أن لهذا العمل ماضٍ سيء في إيران وهو عبادة النار وتكريم النار. ولئلا تتداخل قضية احترام إضاءة المصباح مع مسألة عبادة النار.

يأمر الإسلام أتباعه إذا صلّى أحدهم أن ينشدّ بكل وجوده إلى الله. ومع ذلك يكره للمصلي الصلاة في مقابل شخص جالس لأنه تشم منه رائحة عبادة الإنسان. كما ويُكره أن تكون هناك صورة أمام المصلي بسبب ما تفوح به من رائحة عبادة الأشكال. ويكره أيضا وجود مصباح أمام المصلي لكي لا تشم منه رائحة عبادة النار. ومن الأفضل أن لا يصلى على النبي عند إضاءة المصابيح في بلد كان أهله في الماضي يعبدون النار. وأريد من كلامي هذا الإشارة إلى أن مثل هذا العمل يسمى "بدعة".

هناك أشياء كثيرة يصدق عليها مفهوم البدعة، ولكنها شائعة بين الناس وخاصة عند النساء مثل: حساء أبي الدرداء، ومائدة أبي الفضل. هذه المسميات وخاصة عند النساء لا وجود لها في الإسلام، بلا أنّ الإسلام يأمر بالإنفاق وبإطعام الناس، ثم يُهدى ثواب هذا العمل للرسول(صلى الله عليه وآله) أو لأمير المؤمنين أو للزهراء أو للحسن أو للحسين، أو أي واحد من الأئمة، أو لأبي الفضل العباس صلوات الله عليهم ولا مانع من إهداء ثوابه لأموات باذل الطعام. ولكن إذا أعد شخص في داره مائدة مع كل رسومها وسننها -التي لا أعلم تفاصيلها- وتصور أن ذلك من أحكام الإسلام فهذه بدعة يجب القضاء عليها.

هناك أشخاص يدخلون بدعا في الدين،كان يأتي شخص ويقول: أنا النائب الخاص لإمام الزمان، مثل علي محمد الباب، هذا الشخص يسمى من أهل البدعة. ورد في الحديث: "إذا لقيتم أهل البدعة باهتوهم"، أي ناقشوهم وأدحضوا دليلهم، مثلما أبهت إبراهيم(صلى الله عليه وآله) ذلك الشخص الكافر في زمانه: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة/258).

بعض الناس من ذوي الثقافة المحدودة يفسر المباهتة هنا بمعنى نسبة التهم والأكاذيب إليهم، بذريعة أن أهل البدعة أعداء الله وأنا أنسب إليهم الكذب. ثم انه ينسب تهمة البدعة لأي شخص يضمر له عداء شخصيا ثم يبدأ بتلفيق التهم ضده. لا حظوا لو ابتلي المجتمع بمثل هذا الداء بحيث يعتبر الشخص خصومة.

أهل بدعة ويفسر حديث "باهتوهم" بمثل هذا التفسير، ما الذي سيحل بذلك المجتمع؟ تلاحظون حينها تلفيق الأكاذيب الواحدة تلو الأخرى.

لقيني ذات يوم عالم كبير "والعالم يخطىء أحيانا" وقال: لقد سمعت أن رجلا - وسمى شخصا بعينه وكان رجلا متدينا بمعنى الكلمة - يقول "لم أكن أود ذكر الكلام الذي قاله لكنني مضطر لذكره لتدركوا مدى ضحالة مجتمعنا" لقد كان خيراً أن محسن جنين الزهراء قد اسقط لأنه لو كان قد بقي حيا لخلق للإسلام اثني عشر مصيبة أخرى! فقلت له: ولماذا تتلفظ بهذا الكلام بحق شخص مسلم؟ فأنا أعرف هذا الرجل عن كتب فهو عندما تذكر فضائل الأئمة يبكي.

لاحظوا كم يلفق الشخص ضد الآخر. المجتمع الذي يلفق الأكاذيب والتهم والبهتان وعده الله بالعذاب. جاء في الآية التالية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النور/19).

كما تتضمن الآيات اللاحقة مزيدا من التأكيد على المؤمنين أن لا يتبعوا الأكاذيب التي يبثها الآخرون ويصبحون جهازا إعلاميا للتشهير بأنفسهم.