اللغة والصرف

الآية السابعة من البقرة قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: حول كلمة " ختم " ختم يختم - بالكسر - ختما وختاما - بالكسر -: طبعه، فهو مختوم ومختم بالتشديد، قاله الجوهري (1). وقيل: الختم: إخفاء خبر الشئ بجمع أطرافه عليه على وجه ينحفظ به (2). وفي " القاموس ": ختم على قلبه إذا جعله لا يفهم شيئا، ولا يخرج منه شئ (3). كأنه طبع، وهو كقوله تعالى: (طبع الله على قلوبهم) (4)، فلا تعقل ولا تعي شيئا. وقال الزجاج: معنى الختم والطبع واحد، وهو التغطية على الشئ والاستيثاق من أن لا يدخله شئ، كما قال جل وعلا: (أم على قلوب أقفالها)، وختم الكتاب وعلى الكتاب: بلغ آخره - هكذا في المحكم - وقرأه وأتمه وانتهى إلى آخره (5). وفي الراغب - بعد ما أتى بما لا يرجع إلى محصل في اللغة - قال: فقوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم) إشارة إلى ما أجرى الله به العاد أن الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل وارتكاب محظور، ولا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق، يورثه ذلك هيئة تمرنه على استحسان المعاصي، وكأنه يختم بذلك على قلبه، وعلى هذا يحمل استعارة الإغفال والكن والقساوة (6).

وعلى هذا يعلم منه ومن بعض آخر: أن نسبة الختم إلى القلوب كانت من المجاز. والذي هو الأظهر في هذه المادة: هو أن الختم يتعدى بنفسه حسب أصل اللغة، فيكون المفعول به هو المختوم، والمفعول الثاني هو المفعول بالواسطة، فإذا قيل: ختم زيد النحو في النجف، أي أتمه وبلغ إلى منتهاه فيه، وإذا قيل: ختم الشقاوة على نفسه، أي أكملها وأتمها عليها، وبلغ إلى منتهاها، وإذا قيل: ختم القساوة على عبده، فمعناه: أن زيدا أنهى قساوة عبده وأبلغها إلى منتهاها. ومن هنا يظهر: أن ما توهمه الراغب من المجازية (7) في غير محله، وأن تفسير " ختم ": بأنه جعل عليه الخاتم وختمه، أي نصب الخاتم فيه مثلا، ليس كما ينبغي. بل الختم هو بمعنى واحد في الكل، وكان الخاتم المنصوب آخر المقروء أو المكتوب أو على كل شئ، دليلا على أنه بلغ إلى آخره، ولا وراء له، ولم يبق منه شئ لا يقرأ أو لا يكتب. إن قلت: بناء على هذا لابد من أن يقرأ " غشاوة " بالنصب في هذه الكريمة حتى تكون مفعولا به والأكثر على الرفع. قلت: ربما تكون الآية في مقام إفادة معنى دقيق يأتي تفصيله، ويكون النتيجة مفاد هذه الجملة، أي على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة اكتسابية حاصلة من سوء فعالهم، وختم الله ذلك، وأنهاها وأبلغها إلى منتهاها. ومما لا ينبغي حسب اللغة ما أفاده الشيخ الطوسي (قدس سره): وهو أن معنى الختم الشهادة، يقال: أراك تختم على كل ما يقول فلان، أي تشهد له وتصدقه، وقد ختمت عليك بأنك لا تعلم، أي شهدت، وذلك استعارة (8). وأنت قد أحطت بماله من المعنى حسب اللغة، ولا يوجد فيها ما يشير إلى هذا المعنى. ولعمري إن كثيرا من الخلطاء وقعوا فيما صنعوه لأجل خلطهم بين جهات مختلفة، فإنه إذا أريد فهم اللغة، فلا يرجع إلى الاستعمالات، لأن مبنى الاستعمالات على دقائق لطيفة، ربما تكون بعيدة - حسب الأفهام الابتدائية - عن المعاني اللغوية. ثم إن الاستعارة لا تجوز إلا في المواقع التي تكون النسبة بين المستعار له والمستعار منه موجودة، وهي هنا منتفية جدا، فإن المعنى الحقيقي الثابت لمادة ختم لا يستعار للشهادة والإعلام، فعلى هذا يكون معنى " ختم " في الآية حسب ما استظهرناه موافقا لما هو معناه في اللغة، وهو غير معنى طبع، بل الطبع أمر آخر يأتي في محله، والختم معنى آخر، وهو الفراغ وإبلاغ الشئ إلى آخره. وعلى هذا الأساس يسقط ما أطالوه حول الاستعارة بأقسامها هنا، لأن منشأها تخيل المجازية وعدم نيل المعنى الحقيقي، فتأمل وافهم.

المسألة الثانية: حول كلمة " القلب " القلب مصدر بمعنى التقلب، ومنه قوله تعالى: (وتقلبك في الساجدين) والفؤاد قيل: أخص منه، وهو عضو صنوبري مودع في الجانب الأيسر من الصدر، ومنه قوله تعالى: (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (9). وفي " الأقرب " وغيره: أنه قد يطلق القلب على العقل، ومنه: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب)، أي عقل، جمعه: قلوب (10). وفي الراغب: قلب الإنسان، قيل: سمي به لكثرة تقلبه (11). وقيل: قلما تستقر على حال، وتستمر على منوال، فهي متقلبة في أمره، ومنقبلة بقضاء الله وقدره. وفي الحديث: " إن القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ". قد سمي القلب قلبا من تقلبه. فاحذر على القلب من قلب وتحويل. وقيل: سمي قلبا لأنه لب، كما يسمى العقل لبا (12).

أقول: لا شبهة في أن ما هو الموضوع له - حسب التبادر اللغوي - هو المعنى الجسماني، ومن الأعيان الخارجية المادية الموجودة في جوف كل حيوان متحرك بالحركات الدموية، ولا يختص به الإنسان، ولأحد دعوى وجوده في جميع الحيوانات المتحركة بالحركات الإرادية، إلا أنه ليس جسما صنوبريا في صدر كل حيوان، ولا تكون هذه القيود داخلة في الموضوع له وإن كان يظهر من اللغة، إلا أنه في موقف توضيح ذلك الجسم، لا في موقف بيان ما هو الموضوع له حقيقة، فإنه - حسب التبادر - عام لا يختص به الإنسان قطعا. فعلى هذا يكون إطلاقه على الأمور المجردة والمعاني الخارجة عن أفق المادة، من التوسع والاستعارة لجهة من الجهات المناسبة، أو لأن بين اللطيفة الإلهية القدسية، وبين هذا الموجود الصنوبري، نوع ارتباط خاص، لأن نسبة الجسم إلى النفس نسبة إعدادية، ونسبة النفس إلى الجسم نسبة إيجابية، والنفس والبدن متعاكسان إيجابا وإعدادا، فعليه يصح الاستعارة والتوسع. وإلى هذه المناسبة يؤمي الحديث العامي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد كله، ألا وهي القلب " (13).

تذنيب

حول اصطلاح " القلب " إن القرآن كما يكون كتاب هداية وتعليم، يكون كتاب اصطلاح كسائر الكتب العلمية والفنية، وفيه من الاصطلاحات في مختلف السور والآيات، ويأتي تفصيل ذلك في المواضع المناسبة، ونشير في كل مورد إلى هذه المسألة - إن شاء الله تعالى - وقد مر منا في بعض البحوث السابقة ما ينفعك في المقام. وبالجملة: من المصطلحات القرآنية " القلب "، فإنه في الكتاب الإلهي لا يطلق إلا على الأمر المعنوي، والمعنى الروحاني الخارج عن حد المادة والمدة، ويعرب عن ذلك قوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) (14)، فإن الضرورة تقضي بجواز إمكان وجودهما في الرجل، وقد تبين في العصور الأخيرة ذلك كرارا، حسب ما اشتهر من الإذاعات وفي الجرائد، وقوله: (إذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر) (15)، (إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين) (16)، وهذه الآيات واضحة في هذا الاصطلاح، والآيات الاخر أيضا مثلها عندنا في إفادتها أن المراد من القلب ليس أمرا جسمانيا.

وأما كونها النفس القدسية الناطقة، أو مرتبة خاصة من النفس، كما هو مصطلح أرباب العرفان، فلا برهان عليه، ولعل الأظهر من موارد الاستعمالات القرآنية هو الأول. وفي مصطلحاتهم: أن القلب جوهر نوراني مجرد، متوسط بين الروح والنفس، وهو الذي يتحقق به الإنسانية، ويسميه الحكيم النفس الناطقة، والروح باطنه، والنفس الحيوانية مركبه، وظاهره التوسط بين الجسد وبينه، كما مثله في القرآن بالزجاجة والكوكب الدري والروح بالمصباح في قوله تعالى (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة)، فالشجرة هي النفس، والمشكاة هي البدن، والقلب هو المتوسط في الوجود، ومراتب التنزلات بمثابة اللوح المحفوظ في العالم (17). وبالجملة: ولو لم يكن القلب بمعنى النفس المجردة، أو بمعنى مرتبة خاصة من مراتب الإنسان السبعة، وهي الطبع والنفس والقلب والروح والسر والخفي والأخفى. هفت شهر عشق را عطار گشت ما هنوز اندر خم يك كوچه أيم إلا أنه اكتسب المعنى الآخر وصار يتبادر منه هذا المعنى في كلمات أرباب الهداية وأصحاب الإرشاد والدراية.

المسألة الثالثة: حول كلمة " السمع " السمع حس الاذن، والاذن ما ولج فيها من شئ تسمعه والذكر المسموع، ويكون للواحد والجمع، كما في نحو: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)، لأنه في الأصل مصدر، فيحتمل القلة والكثرة بلفظ واحد. جمعه: أسماع وأسمع، وجمع الجمع أسامع وأساميع (18). انتهى ما في اللغة. وفي الراغب ما يقرب منه إلى أن قال: وتارة عن الفهم وتارة عن الطاعة، تقول: اسمع ما أقول لك، ولم تسمع ما قلت، وتعني لم تفهم. قال تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا) وقوله: (سمعنا وعصينا)، أي فهمنا قولك، ولم نأتمر لك، وكذلك قوله: (سمعنا وأطعنا) أي فهمنا وأطعنا وارتسمنا (19). انتهى موضع الحاجة منه. أقول: التحقيق أن " السمع " ليس إلا بمعنى الدرك، وإطلاقه على آلة الإدراك، أو قوة الإدراك، أو على المعنى المتأخر من الإدراك، لا يكون من الحقيقة في اللغة، بل هو من باب الاستعمال، لانتقال المخاطب والمستمع - لأجل القرائن الموجودة - إلى ما هو المقصود الجدي للمتكلم، فلا يكون من استعمال اللفظ في غير ما هو الموضوع له، خلافا لأرباب الأدب قاطبة إلا من شذ. ومما يشهد على ذلك: أن الاذن لكونها من الأعضاء المزدوجة تكون مؤنثة معنويا، بخلاف السمع. وأيضا يشهد عليه: عدم استعماله في الكتاب بشكل الجمع، لأنه في ما هو معناه الحقيقي لا يجمع، وهو المعنى الحرفي، فتأمل. وأيضا يشهد على ذلك: أن السمع مصدر سمع يسمع، وهكذا السماع، ولا دليل على وضع آخر له حتى يكون من الاشتراك اللفظي، كما لا يكون السماع كذلك. ومن العجيب توهم هؤلاء القشريين: أن السمع في هذه الآية أريد منه الاذن مع أن ما هو المناسب للختم والغشاوة هو السمع المصدري، فإنه يختم ادعاء حتى لا يترتب عليه الأثر المقصود، وإذا ختمت القلوب والأبصار فهو أيضا باعتبار فعلهما وما يصدر منها، وهو الفهم والإبصار، لا البصر، ضرورة أن الأعمى مختوم البصر، ولا يكون مختوم الإبصار إذا كان من المهتدين.

المسألة الرابعة: حول كلمة " البصر " البصر حاسة الرؤية والعين والعلم، جمعه: أبصار (20). هذا ما في اللغة. وفي الراغب: البصر يقال للجارحة الباصرة، ومنه قوله تعالى: (كلمح البصر) (21)، (وإذ زاغت الابصار) (22)، وللقوة التي فيها (23). أقول: فيما يحضرني من الاستعمالات - ولا سيما في الكتاب الإلهي - أن البصر غير الباصرة، وهما غير البصيرة، فإن البصيرة معلوم معناها، ومخصوص بالإدراكات والشؤون المعنوية، والباصرة هي الجارحة المادية التي تكون آلة الإبصار، ومعدة لحصول الدرك.

وأما البصر: فهي القوة الإحساسية الدركية التي تحتجب بالكدورات والظلمات والمعاصي والآثام، ويصح التعبير عند ذلك بأنها ختم عليها بالغشاوة. ودعوى تعدد الموضوع له، غريبة طبعا، فيدور الأمر بين أحد المجازين. وما يقرب من الذهن أن يكون إطلاقها على الجارحة لأجل ما فيها من الحاسة والإدراك الحسي، ومنه قوله تعالى: (لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار) (24). وقوله تعالى: (إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) (25)، (فبصرك اليوم حديد) (26)، (يكاد سنا برقه يذهب بالابصار) (27) وعلى هذا يقرب التوسع في الإطلاق على نفس الجارحة. ومما يؤيد ذلك: أن من الناس من لا يفقد الجارحة، وتكون هي كاملة حسب الظاهر، ولكنه يعد أعمى لفقد البصر، وهو دركها. ومن الممكن كونه موضوعا للجارحة الحاسة، فيكون الموضوع له مركبا. وهذا أيضا غير بعيد، وربما به يجمع بين الآيات المختلفة في الاستعمالات والإطلاق. فعلى كل ذلك تكون الأبصار مختومة بلحاظ إحساسها، لا بجهات اخر من طبقاتها السبعة المختلفة، فلاحظ جيدا.

المسألة الخامسة: حول كلمة " الغشاوة " غشي فلانا - من باب علم - يغشوه غشوا - واوي - وغشيه يغشاه: ضربه، وغشيه غشاوة: غطاه، الغشاوة - مثلثة -: الغطاء، غشيه يغشاه غشيا وغشاية -: يائي -: غطاه. الغشاية والغشاية: الغطاء، وهكذا الغشية (28). انتهى ما في اللغة. فما في كثير من كتب التفسير من أن الغشاوة واوي، ولا يرى أن يصاغ منها الفعل (29)، في غير محله، وكأنه أخذ كل من صاحبه من غير رجوع إلى الكتب اللغوية، وإذا راجعنا اللغة فلا يوجد من هذه القصة شئ فيها، حتى في مثل " تاج العروس " الذي هو الجامع بين اللغة وبين أدبها وجهاتها الخارجة عن حدودها، وهل الغشاوة هي الغطاء المادي الجسماني، أم هي أعم منه ومن الأغشية الظلمانية المجردة والمعاني العامة؟وجهان مضى سبيلهما فيما سبق منا، والأظهر هو الأول في محيط فهم اللغات وفي أفق أهل الأدبيات.

المسألة السادسة: حول كلمة " العذاب " " العذاب ": كل ما شق على الإنسان، ومنعه عن مراده، جمعه: أعذبة " الأقرب " (30)، والعذاب: النكال والعقوبة، وعن بعض أهل الاشتقاق: أن العذاب في كلام العرب من العذب، وهو المنع، يقال عذبته عنه، أي منعته وعذب عذوبا، أي امتنع، وسمي الماء الحلو عذبا، لمنعه العطش، والعذاب عذابا، لمنعه المعاقب من عوده لمثل جرمه، ومنعه غيره عن مثل فعله (31). وفي الراغب: العذاب الإيجاع الشديد، وقد عذبه تعذيبا: أكثر حبسه في العذاب... إلى أن قال: واختلف في أصله، فقال بعضهم: هو من قولهم: عذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذب وعذوب، فالتعذيب - في الأصل - هو حمل الإنسان أن يعذب، أي يجوع ويسهر... إلى أن قال: وقيل: أصله إكثار الضرب بعذبة السوط أي طرفها (32).

ويؤيد الأخير ما عن الكليات: كل عذاب في القرآن فهو التعذيب إلا (وليشهد عذابهما طائفة) (33) فإن المراد هو الضرب (34). ولا يخفى ما فيه. وفي صحة جمعه على " الأعذبة " إشكال، لأنه قول الزجاج (35)، وعن " القاموس ": أنه لا يجمع، وما قاله الزجاج على قياس طعام وأطعمه (36). ومما يخطر بالبال: أن " عذاب " مصدر باب التفعيل ككلام، ولا يكون اسما، ولا يحتاج إلى المناسبات المذكورة المختلف فيها أرباب الذوق وأصحاب المحافل وهذا ما يستنبط من موارد الاستعمالات ومن تنبيهات أهل اللغة. والتعذيب: هو الحبس والمنع، فكون العذاب بمعنى الإيجاع زائدا على الوجع الآتي من الحبس والمنع، أو بمعنى الضرب، غير صحيح، فلو منع الرجل من المكيفات والكماليات الحياتية، فهو من العذاب، وهو في العذاب، وإذا منع عن الانطلاق والحرية فهو في العذاب والمنع، وإذا ضرب الرجل من غير أن يمنع عن شئ ويحبس، فلا يكون في العذاب، وإذا ادخل في النار ومنع شديدا عن الخروج عنها، فهو في العذاب العظيم، لأجل ممنوعيته عن الخروج، لا لأجل كونه في النار. ويؤيد ذلك: قوله تعالى: (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه) (37)، وفي بعض الأخبار: " أنه سئل سليمان: كيف التعذيب وراء الذبح؟فقال: لأحبسنه مع ما ليس من نوعه في حبس واحد ".

ولكن مع ذلك كله لابد من الالتزام بمعنى آخر له، ويؤيده قوله تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة) (38)، وسيمر عليك تمام الكلام - إن شاء الله تعالى - في موضع آخر، فتأمل. وإجماله: أن من الممكن أن يصير العذاب - لكثرة الاستعمال في المنع المقرون بنوع من التعذيب والإيجاع والألم وإيصال العقوبة والنكال - حقيقة فيه، حقيقة اكتسابية ثانوية، أو أن المراد من العذاب في هذه الآية أيضا - حسب الإرادة الاستعمالية - هو المنع، وإن كان المراد الجدي هو الألم الواقع على الزاني والزانية من الجلد والتحديد. ومن عجيب ما قيل في المقام: أن العذاب أصله الاستمرار وإن اختلف متعلق الاستمرار، ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم، واشتقوا منه، فقالوا: عذبته، أي داولت عليه الألم (39). انتهى ما تخيله أبو حيان. وأنت قد عرفت أنه لم يعهد أن يجئ العذاب بمعنى الاستمرار لغة.

المسألة السابعة: حول كلمة " عظيم " " عظيم " كفعيل صفة مشبهة، وليس بمعنى الفاعل، كنصير بمعنى الناصر، ومن العجيب أن أبا حيان تخيل أن " عظيم " اسم فاعل (40)، مع أن الفاعل يصاغ من المتعدي، والصفة المشبهة من اللازم، فلو كان مثل " طاهر " و " ظاهر " صفة مشبهة بمعنى فعيل، فهو أولى من كون " عظيم " اسم فاعل، ولعله قد نسي بعض القواعد الأدبية. ثم إن " فعيل " يجئ لمعان كثيرة:

1 - يجئ اسما كقميص

2 - يجئ جمعا كعبيد وكليب وحمير على خلاف في الأخير

3 - وبمعنى الفاعل أو المبالغة على خلاف فيه كسفير وعليم

4 - وبمعنى افعل كشميط

5 - وبمعنى مفعول كجريح

6 - ومفعل كسميع بمعنى المسمع، والأليم بمعنى المؤلم، على إشكال في الأول

7 - وبمعنى المفاعل كجليس

8 - وبمعنى المفعل كحكيم بمعنى المحكم

9 - وبمعنى المفتعل كسعير

10 - ومستفعل كمكين

11 - وفعل كرطيب بمعنى الرطب

12 - وفعل كعجيب

13 - وفعال كصحيح

14 - وبمعنى الفاعل والمفعول كقتيل

15 - وبمعنى الواحد والجمع كخليط، وغير ذلك مما يطلع عليه المتتبع (41). ثم إن العظيم من الأضداد، لأنه يجئ بمعنى الصغير، وفي " الأقرب " ربما اطلق على ما يقابل الحقير، والعظيم فوق الكبير، لأن العظيم لا يكون حقيرا، لكونهما ضدين، والكبير قد يكون حقيرا، كما أن الصغير قد يكون عظيما، إذ ليس كل منهما ضدا للآخر، والعظيم يدل على القرب، والعلي يدل على البعد، وفرق أبو حنيفة بين العظيم والكبير: بأن العظم في الذات، والكثرة تنبئ عن معنى العدد (42). وإحالة ما أفاده إليك أولى، فتدبر.


1- الصحاح 4: 1908.

2- تاج العروس 8: 266.

3- القاموس المحيط: 1420.

4- التوبة (9): 93.

5- تاج العروس 8: 266.

6- المفردات في غريب القرآن: 143.

7- راجع المفردات في غريب القرآن: 143.

8- تفسير التبيان 1: 64.

9- انظر أقرب الموارد 2: 1028.

10- أقرب الموارد 2: 1028.

11- المفردات في غريب القرآن: 411.

12- روح المعاني 1: 125.

13- عوالي اللآلي 4: 8 / 7، مسند أحمد 4: 270 و 274، الجامع لأحكام القرآن 1: 188، روح المعاني 1: 126.

14- الأحزاب (33): 4.

15- الأحزاب (33): 10.

16- غافر (40): 18.

17- اصطلاحات الصوفية: 145.

18- أقرب الموارد 1: 541.

19- المفردات في غريب القرآن: 242.

20- أقرب الموارد 1: 45.

21- النحل (16): 77.

22- الأحزاب (33): 10.

23- المفردات في غريب القرآن: 49.

24- الأنعام (6): 103.

25- آل عمران (3): 13.

26- ق (50): 22.

27- النور (24): 43.

28- أقرب الموارد 2: 874.

29- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 191، والبحر المحيط 1: 46، وروح المعاني 1: 123 / السطر 6.

30- أقرب الموارد 2: 755.

31- تاج العروس 1: 370.

32- المفردات في غريب القرآن: 327.

33- النور (24): 2.

34- أقرب الموارد 2: 755.

35- تاج العروس 1: 370.

36- راجع تاج العروس 1: 370، والقاموس المحيط 2: 156.

37- النمل (27): 21.

38- النور (24): 2.

39- البحر المحيط 1: 46 / السطر 8.

40- البحر المحيط 1: 46 / السطر 11.

41- انظر البحر المحيط 1: 46 / السطر 11 - 15.

42- أقرب الموارد 2: 800.