التفسير والتأويل على مسالك مختلفة ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباري: (إن الذين كفروا) بتوحيد الله كفر الجحود والكفر بالربوبية (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، (ويقولون ما يهلكنا إلا الدهر)، ويدينون بدين الاستحسان على غير تثبت منهم، ولا تحقيق لشئ مما يقولون (1). وقريب منه: (إن الذين كفروا) بالله وبما آمن به هؤلاء المؤمنون بتوحيد الله، وبنبوة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبوصية علي ولي الله، وبالأئمة الطيبين الطاهرين خيار عباد الله الميامين القوامين بمصلح الخلق (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، أي خوفتهم أم لم تخوفهم فهم لا يؤمنون (2).

وعلى مسلك أرباب التفسير وأصحاب الحديث: (إن الذين كفروا) بما انزل إليك وإن قالوا: إنا آمنا بما انزل من قبلك وبما جاءنا قبلك، (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) أي إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما اخذ عليهم من الميثاق (3). وقريب منه ما عنهم: أن رسول الله يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول (4). وفي حديث ثالث قال فيه: " قيل: يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ فنكاد أن نيأس. فقال: ألا أخبركم؟ثم قال: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) هؤلاء أهل النار. قالوا: ألسنا منهم يا رسول الله؟قال: أجل " (5). وغير خفي: أن الآيات لا تنحل بهذه الأخبار والروايات، ولا تقصر عن الدلالة على المعنى الأوسع الكلي، مع أن كثيرا من هذه المآثير غير نقي الإسناد.

وعلى مسلك علماء الأصول وأصحاب البلاغة: (إن الذين كفروا) وكانوا يظهرون الكفر في الأزمنة الأولى، أو يكفرون في الأزمنة اللاحقة بالتوحيد وأنحائه كان، أم بسائر الأمور الاعتقادية، من النبوة والمعاد والولاية والخلافة، إذا صح في حقهم وبالنسبة إليهم هذه الجملة الشريفة: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، فهؤلاء الكفرة الفسقة الفجرة (لا يؤمنون). وقريب منه: (إن الذين كفروا) من الجماعة المعينين والثلة الأولين (لا يؤمنون)، لأن إنذارك في حقهم وعدم إنذارك على السوية، فإذا كان سبب صحة الإخبار عن عدم إيمانهم ذلك، فلا يختص بهؤلاء الجماعة المعلومين المذكورين بأسمائهم أو عناوينهم، فتكون العلة معممة، فتشمل الآية سائر المشتركين معهم في هذه الجهة بالضرورة. وقريب منه: (إن الذين كفروا) لا ينفعهم إنذارك، و (لا يؤمنون) بإبلاغك وتحذيرك، لأن الله تعالى يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فربما يؤمنون بإنذار غيرك، ف? (إنك لا تهدي من أحببت)، ولكن الله يهدي من إليه أناب. وقريب منه: (إن الذين كفروا) (لا يؤمنون) بإنذارك وإبلاغك إليهم من كلماتك وأقوالك، ولعلهم يؤمنون بإنذار الله وأقواله تعالى من القرآن العظيم والفرقان الكريم والأحاديث القدسية، فيؤثر في نفوسهم قول ربهم، لا قولك وكلمتك. وقريب منه: (إن الذين كفروا) فليؤمنوا حتى لا يصح في حقهم سواء (أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، وليخافوا من أن يكونوا من الأشقياء، ومن الذين لا يؤمنون بإخبار الله تعالى فلا يتمكنون بعد ذلك من الإيمان، فيقعون في العذاب أبد الآباد.

وعلى مشرب الفيلسوف والحكيم الإلهي: (إن الذين كفروا) ولو كان من الكفر الذاتي ولأجل الشقاوة الذاتية، وكفروا بالاختيار والإرادة الذاتية، (لا يؤمنون) بالاختيار وإن كنا عالمين بأنهم لا يختارون الإيمان، ولا يصطفون الهداية على الضلالة، فيكون (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، وذلك لأن سوء الاختيار ناشئ من سوء الغريزة والطينة المحجوبة بالآباء المشركين والأمهات الكافرات، ومن سوء الفطرة المنحرفة بالأعمال الفاسدة والأفعال الرذيلة التي كلها اختيارية إرادية.

وقريب منه: (إن الذين كفروا) وضلوا بأي ضلال كان، فلا يكون إلا بالاختيار، (لا يؤمنون) ولا يهتدون بجميع أنحاء الهدايات، ونحن نعلم ولا نريد هدايتهم، لسوء حالهم وانحراف مادتهم وإمكانهم الاستعدادي عن جادة الحق والطريق المستقيم. وذلك لأن إرادة الهداية تحتاج إلى المرجح والقابلية فليست الضلالة مما يريدونها، بل هم لمكان تلك الخباثة الموجودة في وجودهم لا يريدون الهداية، وليس الكفر إلا عدم اختيار الإيمان، فهو تعالى يعلم بأنهم لا يؤمنون بالاختيار، لما يتمكنون من اختيار الإيمان بتحصيل المقدمات، وبقلب المادة المحجوبة إلى الفطرة المخمورة، وهو تعالى ليس يريد ضلالتهم، بل لا يريد هدايتهم، وعدم إرادة الهداية لا ينافي أن يريدوا الهداية والإيمان، ويصطفوا الحق على الكفر والطغيان والعصيان. وقريب منه: (إن الذين كفروا) بالاختيار المنتهي إلى الاختيار بالذات وبالإرادة، المنتهية إلى الإرادة الإلهية الذاتية، (لا يؤمنون) حسب ما علمناه وأردناه، فهم سواء عليهم الإنذار وعدم الإنذار، فلا يؤمنون - هؤلاء الناس - ويكفرون أيضا - هؤلاء الجماعة - بإرادتهم الشخصية واختيارهم الجزئي، فلا يكون فعلهم خارجا عن الاختيار والإرادة، ولا يكون كحركة يد المرتعش بالضرورة العامة.

وعلى مشرب العارف والسالك: (إن الذين كفروا) وضلوا حسب مراتب الضلالة، ففي كل مرتبة كانوا من الضلالة لا يؤمنون بحسب تلك المرتبة، ويكون بالنسبة إليهم الإنذار وعدمه على السواء، فمن كان في الرتبة الأولى من الضلالة - ويقال: إنها الضلالة الذاتية والشقاوة الفطرية الاكتسابية - حكمه ذلك، ومن كان في الدرجة الأولى من الهداية، وفي السفر الثالث من الأسفار الروحانية الأربعة، يحق في حقه: أنهم (لا يؤمنون)، و (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، ولذلك يترنم بقوله: (إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) الوالهين المهيمين، القاطنين في تلك المنزلة، وغير العائدين من تلك السفرة، فهلكوا وفنوا في فناء الحق الأول، وبقوا ببقائه.

وقريب منه: (إن الذين كفروا) بالتوحيد الذاتي، وكان كفرهم ناشئا عن الفطرة المحجوبة، لا يؤمنون، والذين كفروا بالوحدة الإطلاقية الذاتية، وكان كفرهم مترشحا عن الشقاوة الذاتية الاكتسابية، لا يؤمنون، وهكذا يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى جميع الاعتقادات الحقة، فيكون الإنسان من المؤمنين حقا، ومن الكافرين الذين إذا أنذرتهم أو لا تنذرهم (لا يؤمنون)، وهذا لأجل أن الإيمان والكفر يتقابلان حسب متعلقاتهما، إلى أن ينتهي الأمر إلى الإيمان المطلق والكفر المطلق، فمن هو الخارج عن هذه الآية هو المؤمن المطلق، أي الذي آمن بجميع الاعتقادات الحقة، ويكون واصلا إلى تلك الحقائق. وإلا فالذي سافر في الأسفار المعنوية الروحانية حتى بلغ إلى السفرة الثالثة، فهو لأجل عدم تمامية سيره وسفره، مشمول هذه الكريمة الشريقة وهذه الآية الجامعة العجيبة. وقريب منه: (إن الذين كفروا) وصاروا متربين بربوبية الاسم " المضل "، ومهتدين في الضلالة بهداية هذا الاسم العزيز الشريف، ولا يتحرفون عن مقتضى هذا النعت العظيم، (لا يؤمنون)، ويكون إنذارك - يا محمد، ويا أيها المظهر للاسم الجامع - بالنسبة إليهم وعدم إنذارك على السواء.

وعلى مسلك الخبير والناقد البصير: أن هذه الآيات وهذا القرآن الكريم، مع نهاية تنازله في المعاني العرفية البسيطة، تكون جامعة لجميع المعاني الرقيقة، وكافلة لأمهات الموضوعات والإدراكات المختلفة، حسب مراتب الناس ومنازل العقلاء، وحسب ما احتملناه فيما مر أن ما يخطر بالبال، ويكون بحسب النظر مناقضا لما خطر ببال الآخر من حيث المعنى، لا يخرج عن كونه من العلم الفعلي الإلهي في مرتبة التفصيل، والكتاب الإلهي قالب لجميع ما في القلوب من الخواطر، من غير أن يتعين له المعنى الخاص، والجلوة المعينة من تلك الجلوات، بشرط كونها من الجلوات الإلهية ومن مخازن أهل بيت الكتاب والسنة: والله العالم بحقائق الأمور.


1- الكافي 2: 387 / 1، تفسير البرهان 1: 57 / 1.

2- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 91.

3- راجع تفسير الطبري 1: 108، والدر المنثور 1: 29.

4- راجع تفسير الطبري 1: 109، والدر المنثور 1: 28 - 29.

5- الدر المنثور 1: 29.