علم الأصول وبعض بحوثه

تكليف الكفار مع العلم بعدم إيمانهم: قد تحرر في القواعد الأصولية وتقرر في البحوث الكلية: أن التكليف بما لا يمكن تحصيله خارج عن سنن العقلاء والمحصلين، وباطل عند الأنبياء والمرسلين وكافة أبناء العالمين، وفي هذه الآية دلالة على جواز ذلك، وفي هذه الآية إيماء إلى صحة نفوذه، وذلك لأن الذين كفروا إذا كانوا لا يؤمنون عند المخبر - وهو الله تعالى - فلا يعقل تكليفهم بالإيمان وزجرهم عن الكفر.

وبعبارة أخرى: المقنن والشارع هو الله تعالى، وإذا كان هو العالم بأنهم لا يؤمنون، فكيف يتمكن من أن يكلفهم بالإيمان وينهاهم عن الكفر والفسوق والعصيان، مع أن هؤلاء مكلفون أيضا بأصل الشرع وفروعه، ومكلفون بالإيمان وبرفض الكفر قطعا، وإلا لما جاز عتابهم، ولما صح عقابهم على ما لا تكليف به، ولا أمر ولا نهي بالنسبة إليه. فبالجملة: لأجل اطلاعه تعالى على أنهم لا يؤمنون، لا يترشح الإرادة الجدية القانونية الباعثة أو الزاجرة منه تعالى بالنسبة إليهم. وغير خفي: أن هذه الشبهة لا تندفع بثبوت القدرة للكافر المزبور في الآية وبإثبات الاختيار، لأن منشأ الشبهة: هو أن المقنن العالم بعدم انبعاث هؤلاء الجماعة عن أمره، وقد أخبر بذلك، وبأنهم لا يؤمنون، كيف يتمكن من توجيه الخطاب الجدي إليهم ؟! فالآية الشريفة تكون ظاهرة في إمكانه، لأنه - مضافا إلى اشتمالها على الإخبار بأنهم لا يؤمنون - تكون في موقف ذمهم، فيعلم منه أنهم مكلفون كسائر الكفار والمؤمنين بالإيمان وتحصيله وإبقائه. أقول: هذه المسألة من المسائل الغامضة، وتكون من صغريات البحث الكلي الأصولي، وهو كيفية تصوير تكليف الكفار والعصاة، وقد فرغنا عن حل هذه المسألة بما لا مزيد عليه في فن الأصول (1).

وإجماله: أن الخطابات بين ما هي شخصية جزئية وما هي كلية قانونية، ففي الخطابات الشخصية المتعارفة بين الآحاد، لا يعقل أن يكلف أحد أحدا بشئ مع علمه بأنه لا ينبعث عن تكليفه ولا يمتثل أمره. وأما في الخطابات الكلية القانونية العرفية والشرعية، فلا يلاحظ حالات الآحاد والأفراد، من العجز والجهل والقدرة والعلم والغفلة والنسيان والسهو والذكر والالتفات، بل يراعي صلاح المجتمع في تقنين القانون الكذائي، ويراعي وجود جماعة يهتمون بالتكليف، ويمتثلون أمر القانون، ولا يعتبر في إحداث هذه الإرادة، المتعلقة بجعل القانون وضرب القاعدة العرفية أو الشرعية، أن يكون جميع الآحاد مستيقظين غير نائمين، ويكون كل واحد عالما قادرا، بل يكفي في ذلك كون جماعة يعتد بهم متوجهين إلى ذلك غير متمردين عن الشرع أو القانون العرفي. وهذا الذي ذكرناه يظهر بمراجعة كيفية وضع القوانين العرفية في مجالس التقنين، ومحافل المندوبين، ومراكز الوكلاء والنواب وأولياء الأمور.

فعلى هذا الأصل الراقي - الذي أوضحه السيد المحقق جامع الكمالات العقلية والنقلية، وفنان الآداب الظاهرية والباطنية، رئيس الأمة الإسلامية في العصر الحاضر (1391 من الهجرة النبوية) ملجأ الأنام وملاذ الأعلام، السيد السند والحبر المعتمد الإمام المجاهد، أبو الفضائل والفواضل روح الله الخميني الهندي، مد ظله على رؤوس المسلمين، والد الراقم كاتب هذه الحروف عفي عنه (2) - يظهر إمكان كون التكاليف الإلهية فعلية وثابتة بالنسبة إلى جميع الآحاد والأفراد، وإن كان الله تعالى يعلم أن فيهم من لا يعتني بشأن التكليف، ولا يقوم بوظيفته من الامتثال والانقياد. فلو سلمنا أن الآية تكون جملة إخبارية، فلا يمنع من إمكان كونهم مكلفين ومعاقبين على الأصول والفروع، ولعله يأتي تفصيل هذه المائدة الملكوتية وتلك الفائدة العامة في المواضع الاخر المناسبة إن شاء الله تعالى، ولنا جواب آخر، فلتكن منتظرا حتى حين. وأما دعوى: أن المراد من " الذين كفروا " ليس الأشخاص المعينين ولا غير المعينين، بل المراد عنوان الكافر، فإنه بما هو كافر، وفي فرض أنه كافر، يستوي فيه نسبة الإنذار وعدمه، وإذا آمن أحد منهم فهو ليس بكافر، فلا تكون الآية كاذبة ولا دليلا على جواز التكليف الممتنع. فهي غير مسموعة، للزوم كون الآية من قبيل الا حجية، ومن القضايا الضرورية بشرط المحمول، كما لا يخفى.

إفادة وإعادة

حول إمكان التأثير في الكفار: قد مضى في مطاوي بحوثنا البلاغية: أن المستفاد من الكريمة الشريفة، استواء الإنذار وعدم الإنذار الخاص في حق الذين كفروا، لا التسوية المطلقة، وذلك لقوله تعالى: (أأنذرتهم) خطابا إلى الرسول الأعظم (أم لم تنذرهم لا يؤمنون) في هذه الملاحظة، ومن الممكن تأثير إنذاره تعالى في نفوسهم، وأما وجه عدم تأثير إنذارك فيهم، فلما أنهم في غاية الشقاوة ونهاية الاحتجاب بالحجب الظلمانية، أو لأجل عنادهم معك والمخاصمة مع قومك، فلو كان ينذرهم غيرك لآمنوا، فعليه يمكن توجيه التكليف إليهم واشتراكهم مع الآخرين في التكاليف الأصلية والفرعية، كما هو الواضح فاغتنم. وأما ما اشتهر في الأصول وفي بعض التفاسير: من أن التكليف في هذه الأحيان من إتمام الحجة، فهو غير مرضي عندنا، لأن تمامية الحجة موقوفة على إمكان ترشح الإرادة الجدية وعلى التكليف الواقعي الجدي، وهذا غير ممكن حسب الفرض.

وغير خفي: أن الآية تشير إلى أن الإنذار وعدم الإنذار السابق، ليس يفيد ويؤثر في شئ، وأما الإنذار لما بعد ذلك وفي المستقبل فربما هو يفيد، وتكون الآية من هذه الجهة ساكتة. إن قلت: ظاهر قوله تعالى: (لا يؤمنون) أن التسوية لا تختص بالزمان الماضي، بل هي تسري إلى مطلق الأزمنة. قلت: قد تحرر في الأصول، ومضى في البحوث السابقة في ذيل الآيات الماضية، خلو الفعل المضارع عن الزمان الحالي والاستقبالي. ومما يؤيد ذلك: أن المضارع بمجرد دخول " لم " عليه ينقلب إلى الماضي كما في هذه الآية الشريفة (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، فإن صيغة " لم تنذر " لنفي الفعل في الماضي، فتكون هذه الآية من هذه الجهة أيضا دليلا على مسألة أخرى في الأصول، وهو خلو المضارع عن الاقتران بأحد الأزمنة الثلاثة. وبالجملة: إذا لم يكن إنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدم إنذاره، متساوي النسبة بعد عصر نزول هذه الآية، فلا يلزم كونهم مكلفين بما لا يقتدرون عليه، ولا يلزم أيضا عدم إمكان تكليفهم بالإيمان بعد العلم بأنهم لا يؤمنون، فليتدبر جيدا.


1- راجع تحريرات في الأصول 3: 439 - 450.

2- راجع تهذيب الأصول 1: 242، ومناهج الوصول 2: 23 - 30.