النحو والإعراب

حول إعراب " سواء " يخطر بالبال في بدو المقال إشكال: وهو أن الظاهر كون " سواء " مبتدأ وما بعده خبره، والجملة في محل الرفع خبرا ل? " إن "، والابتداء بالنكرة بلا مسوغ غير جائز، وليس من المسوغات في الكلام شئ ظاهر، ولأجل مثل هذه الشبهة قالوا: في ارتفاع " سواء " وجهان، بل قولان: أحدهما: ارتفاعه على الخبرية ل? " إن "، والجملة الفعلية في موضع الرفع به على الفاعلية، وكأنه قيل: إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. الثاني: أن تكون الجملة الفعلية في موضع الابتداء، و " سواء " خبر مقدم، والجملة خبر ل? " إن "، وقال الفخر: الوجه الثاني أوجه، لأن سواء اسم لا ينزل منزلة الفعل إلا تأولا (1).

أقول: قد غفلوا عن الجملة الأخيرة، وهي قوله تعالى: (لا يؤمنون)، فإن الآية كأنها هكذا: إن الذين كفروا لا يؤمنون أنذرتهم أم لم تنذرهم، فسواء معنى اسمي يستفاد من همزة التسوية، ولا حاجة إليها فيما هو المقصود في الآية. نعم جئ بها تأكيدا لمعنى الهمزة، وتكون خبرا حذف مبتدؤه، وهو الضمير المستتر فيه، لأنه بمعنى المستوي، كما هو الظاهر، فالمعنى هكذا: إن الذين كفروا لا يؤمنون أأنذرتهم أم لم تنذرهم هو سواء، والعجب أنهم يعتقدون أن الجملة الفعلية التصديقية في موضع الفاعل، فإنه لا يمكن إلا إذا رجع إلى معنى تصوري إفرادي. هذا، مع أن مفاد سواء والهمزة واحد، فلا معنى لأخذ أحدهما مبتدأ والآخر خبرا لرجوعه إلى الحمل الأولي الغير المتعارف في العلوم والاستعمالات. ثم إن المحرر لدى المحققين: جواز الابتداء بالنكرة إذا كان النظر إلى معنى لا يحصل إلا به، مثلا إذا أريد الإخبار عن أن واحدا من جنس الرجال خير من واحد من جنس النساء، فيقال: رجل خير من امرأة، ولكن فيما نحن فيه ليس " سواء " مبتدأ، لأنه لا يريد الإخبار عن التسوية، بل يريد الإخبار عن أن الإنذار وعدمه سواء، فهو بحسب الواقع خبر وإن كان مقدما.

مسألة: حول تقديم الخبر الكوفيون لا يجوزون تقديم الخبر محتجين: بأن المبتدأ ذات والخبر وصف، فلابد من تأخيره وضعا ليوافق الطبع، وبأن الخبر لابد وأن يتضمن الضمير، ولا يجوز تقديم الضمير والإشارة إلى ما لا يكون موجودا بعد. والبصريون قالوا: إن الحجة الأولى لا تفيد لزوم التقديم، والحجة الثانية منقوضة بقوله تعالى: (فأوجس في نفسه خيفة موسى) هذا، ويشهد لجواز التقديم قوله تعالى: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، وقوله تعالى: (سواء محياهم ومماتهم)، ونسب إلى سيبويه قول العرب: " تميمي أنا ومشنوء من يشنؤك " (2). وغير خفي: أن من الممكن الإخبار بأن القائم هو زيد، فيكون الوصف مخبرا عنه.

مسألة أخرى: حول الإخبار عن الجملة الفعلية ربما يستدل أيضا بهذه الآية على جواز الإخبار عن الجملة الفعلية (3)، فإن كلمة " سواء " خبر، والمبتدأ قوله: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، وتأويل الجملة الفعلية إلى الجملة الناقصة الاسمية يضر بما هو يستفاد من التصديقية التامة، وإن كانوا قد اتفقوا على عدم جواز الإخبار عنه، بل لا يجوز الإخبار عنه إلا مؤولا، لعدم إمكان وقوع القضية التامة مورد الإخبار. فما يظهر من الفخر (4) غير واقع في محله. وحل المشكلة هو ما عرفت منا: من أن الجملة الفعلية ليست خبرا ولا في محل الابتداء، وتكون سواء خبرا لمبتدأ محذوف، فالجملة الفعلية لا يخبر عنها، ولا يعقل ذلك، والتأويل بلا وجه وغير جائز، ولا سيما إذا كان في التأويل إضرار بمفاد الجملة.

تنبيه

قال " الكشاف ": الهمزة و " أم " مجردتان لمعنى الاستواء، وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا. قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام، كما جرى على حرف النداء في قوله: " اغفر لنا أيتها العصابة "، فلا استفهام في هذه الآية (5). ولأجله قالوا: هي همزة التسوية. والذي هو المحرر في محله: أن الهمزة للاستفهام إلا أنه قد تكون القرينة على أن المقصود أمر آخر، من غير لزوم المجازية والانسلاخ (6)، ويأتي - إن شاء الله - ما يوضح الأمر.


1- التفسير الكبير 2: 40.

2- انظر التفسير الكبير 2: 40 - 41، والإنصاف، أبو البركات الأنباري 1: 65 - 66.

3- التفسير الكبير 2: 41.

4- نفس المصدر.

5- الكشاف 1: 47.

6- راجع مغني اللبيب: 6 - 7.