التفسير من الآية 1 إلى الآية 10

سورة النور

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النور/1) ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور/2).

تصادف هذه الأيام ذكرى وفاة الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين (عليها السلام) والتي هي رمز قدسية العفاف في عالم الإسلام، لذا فقد عقدنا العزم على تفسير سورة النور خلالها. ويعزى السبب في اختيار هذه السورة إلى أن أكثر آياتها تقريبا تدور حول الشؤون المتعلقة بالعفة.

السورة الوحيدة التي تبدأ بمثل هذه الآية ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾ هي هذه السورة. هناك سور كثيرة تبدأ بآية (كتاب أنزلناه) أي تشير إلى القرآن كله.

ولكن هنا تشير الآية إلى هذه ا لسورة بمفردها. ويتضح منها أن هناك اهتمام خاص بمفاد هذه السورة.

تعلمون أن السورة معناها مجموعة الآيات الشريفة التي تبدأ بالبسملة ثم تنتهي بشكل تبدأ بعده بسملة أخرى. لقرآن من الكتب التي ليس فيها فصل وباب وقسم. إلا انه مقسم إلى سورة وكل سورة تبدأ ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (هناك سورة واحدة في القرآن لا تبدأ بالبسملة وهي سورة التوبة المترجم)، وتدل البسملة التي تأتي بعد تلك الآيات على انتهاء السورة السابقة. ويقال ان كلمة "سورة" مشتقة من "السور" ويقصد به الجدار المحيط بالمدينة أو القرية أو القصبة، وسور البلد يراد به الحائط المرتفع الذي يبني حول المدينة. ويبدو هنا وكأن كل سورة محاطة بجدار أو سور، وهذا هو وجه تسميتها بالسورة.

والقرآن جزأه الرسول(صلى الله عليه وآله) بنفسه سورا، لا إن المسلمين جزؤوه لاحقا. أي أن القرآن منذ نزوله، نزل مجزءا إلى سور.

تبدأ الآية الأولى بعبارة ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾، ثم بعدها جاءت عبارة ﴿فَرَضْنَاهَا﴾ لتؤكد أن القضايا المتعلقة بالعفاف قضايا في غاية الأهمية، أي على العكس مما يتصور بنو الإنسان في وقتنا الحاضر من خلال توجههم صوب تسهيل وتبسيط العلاقات الجنسية، والاستخفاف بها ايضا، ويسمون ذلك اعتباطا باسم"الحرية" أو السير نحو "الحرية الجنسية"، وأن كل ما عرضه القرآن من أساليب لصيانة العفاف، وما صرح به من عقوبات للتهتك، وما بينه من جزاء على تلويث سمعة النساء العفيفات واتهامهن كذبا بالتحلل، وما جاء فيه من ترغيب

بالزواج، وخلاصة القول:كل ما أورد في ما يتعلق بباب العفاف، أراد التأكيد من خلاله على أنّ هذه القضايا تحظى بأهمية وجدية قصوى، ولها حكم الفرض ولا مجال للتسامح فيها. وإنّ أحد أسباب تعاسة عالم اليوم هو الاستهانة بأصول العفاف والتقوى في الشؤون الجنسية، وهو ما سنتعرض له في ما بعد.

﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾ وفرضنا التمسّك بما ورد فيها، يعني أنّنا نهتم بها ولا نستهين بشأنها ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَات﴾ قد يراد جميع آيات السورة، أو كما ذكر العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: إنّ المراد بها الآيات التي جاءت في وسط السورة، وهي التي تشكل في الواقع عمودها الفقري.

تتحدّث سائر آيات هذه السورة عن الأخلاق والآداب الجنسية. أما تلك الآيات فتتعلق بأصول العقيدة، وسنبيّن وجه تناسبهما في ما بعد. وعلى كلّ حال يقول القرآن أنّنا قد انزلنا في هذه السورة آيات بينات لإيقاظكم وتوعيتكم ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾

ربما أنكم تعلمون الفارق بين "التفكّر" و"التذكّر". التفكر يكون في الموارد التي يجهل فيها الإنسان قضية ما ولا يعلم شيئا عنها. أما التذكر فيكون في المسائل التي تدرك فطرة الإنسان صحتها بشكل تلقائي، ولكن يجب تذكيره بها ولفت نظره إليها. القرآن يشير إلى هذه المسائل على وجه الخصوص بصفة "التذكر" وربما يعود أحد أسبابها إلى احترامه للإنسان، وكأنه يريد أن يقول له أننا نلفت انتباهك إلى هذه الأمور، وهي أمور لو أنّك فكّرت فيها لوقفت على حقيقتها إلاّ أنّنا ننبهك إليها ونذكرك بها.

تختص الآية التالية لها بذكر عقوبة الزنا، فتقول: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور/2) بينت هذه الآية ثلاث نقاط وهي:

أوّلاً: إن الزاني سواء كان رجلاً أم امرأة يجب أن يعاقب، وعقوبته بينها القرآن وهي "مائة جلدة" لكل واحد منهما.

ثانياً: يحذر المؤمنين أن لا يقعوا إزاء هذه العقوبة تحت تأثير عواطفهم فيقولون إن المائة جلدة شديدة الألم فيا حبذا لو ننقص شيئا منها، فهنا ليس موضع رأفه أو شفقة. يقول إياكم والانسياق وراء العواطف والتهاون في تنفيذ هذا الحد، أو تتصوروا حسب المصطلح الحديث ان هذا العمل "غير إنساني"، كلا، بل هو عمل إنساني.

ثالثاً: لا تنفذوا هذه العقوبة خفية، لأنهما شرّعت من أجل أن تكون عبرة للآخرين. ولا بد من وجود جماعة من المؤمنين ليشهدوا تنفيذ هذه العقوبة. والمراد هنا هو أن تنفذ العقوبة بشكل يجعل الناس جميعاً يعلمون أن هذا الرجل الزاني أو تلك المرأة الزانية قد أقيم عليه الحد. إذن هذه العقوبة يجب أجراءها علناً لا خفية.

أريد التحدث مفصلا عمّا ورد في النقطة الأولى بشأن قانون عقوبة الزنا. فما هي الحكمة من عقوبة الزنا؟ تلاحظون غالبا فيما إذا قرأتم الكتب التي تتناول هذا الموضع أنها حددت السبب في عقوبة الزنا بأنه يعود إلى "سيادة الرجل". ففي الأدوار التي كان فيها الرجل هو سيد الأسرة - بمعنى أنه كان المالك لها، وليس للمرأة فيها أي

حق وإنما هي أداة بيده لقضاء حاجاته، وكان الرجل يعتبر نفسه مالكا للمرأة - حينما تزني المرأة، تصبح في نظر الرجل وكأنها منحت شيئا هو من ممتلكاته إلى شخص آخر، ولهذا السبب شرعت عقوبة الزنا.

من الواضح أن هذا الكلام ليس له أي أساس في أحكام الإسلام. وعقوبة الزنا في الإسلام لا تقتصر على المرأة، بل الرجل يعاقب عليها والمرأة. ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾

ولو كان الأمر كذلك لما فرضت أي قيود أو حدود على الرجل، ولكانت المرأة هي الممنوعة من الزنا لوحدها- ولعل مثل هذه القوانين كانت سائدة في بعض أرجاء العالم بحيث تمنع الزنا على المرأة فقط، وتبيحه للرجل - في مثل هذه الحالة يجوز للقول أنّ الحكمة من عقوبة الزنا هي "سيادة الرجل". ولكن في الإسلام كلاهما - رجلا وامرأة - محرم عليهما الزنا. ومعنى هذا الكلام إن الرجل بإمكانه تحقيق رغباته الجنسية في إطار الزواج فقط. والزواج معناه قبول سلسلة من التعهدات والمسؤوليات. وكذلك المرأة يحق لها قضاء رغباتها الجنسية في إطار الزواج فقط، شرط القبول بسلسلة من التعهدات والمسؤوليات.

إذن الرجل لا يحق له إشباع غريزته الجنسية بدون وجود الزواج. وكذلك المرأة ليس لها مثل هذا الحق. وبناء على هذا فإن حرمة الزنا لا تختص بالمرأة وحدها، وإنما تشملهما كليهما. قد تثار هنا مسألة أخرى وهي أن المتعارف في أوربا اليوم أن الرجل والمرأة إذا كانا بتعبير الإسلام محصن ومحصنة يمنع عليهما الزنا. أي إذا كان للرجل زوجة وللمرأة زوج لا يحق لأي منهما أن يزني. ولكن لا يمنع ذلك على غير المتزوج رجلا كان أم امرأة. وطبعا لا يجوز لغير المتزوج الزنا بالمتزوجة، كما لا يجوز لغير المتزوجة الزنا مع المتزوج. ولكن الرجل غير المتزوج والمرأة غير المتزوجة ليس عليهما أي منع. ولكن لماذا يمنعون ويجوزون على هذه الشاكلة؟

يتصورون في أوربا أن الحكمة من تحريم الزنا على المتزوج هي أنه يكون بهذا العمل قد خان زوجته وهضمها حقها. والحكمه في تحريم الزنا على المتزوجة أنها تهضم بهذا العمل حق زوجها. إذن فالرجل غير المتزوج ليست له أية مسؤولية أمام أحد، والمرأة غير المتزوجة لا مسؤولية عليها أمام أحد. فلا إشكال إذن في ممارسة أي منهما للزنا.

أما في رأي الإسلام فهناك مسألتان هذه القضية وهما:

أولاً: ليس للرجل والمرأة إشباع رغباتهما الجنسية خارج إطار تشكيل العائلة، سواء كان للرجل والمرأة، سواء كان للرجل زوجة أم لم يكن، أو سواء كان للمرأة زوج أم لم يكن. الإسلام أولى أهمية استثنائية للعائلة بحيث منع أي إشباع للغريزة الجنسية خارج نطاق العائلة، واعتبر المحيط العائلي هو الموضع المناسب لتلبية متطلبات الرغبة الجنسية، ولم يسمح للرجل والمرأة الاستمتاع ببعضهما الآخر خارج المحيط العائلي.

ثانياً: مسألة عقوبة الرجل المحصن والمرأة المحصنة. حيث أقر الإسلام عقوبتين، والعقوبة التي أقرها للإنسان المحصن أكثر شدة. وقد وضع عقوبة عامة وهي مائة جلدة، والأخرى هي الرجم. أحد الأمور التي توطد أسس البناء العائلي والجو العائلي هي هذه المسألة التي يعزى إليها سبب تصدع أركان البناء العائلي في العالم الأوربي، وفي مجتمعنا أيضا كلما توغلنا في السير على النهج الأوربي ازداد لدينا مستوى الإنهيار في بناء العائلة.

وحينما كان مجتمعنا متمسكا حقا بأحكام الإسلام، أي أن الشباب لم تكهن لهم قبل الزواج أية صلات مع امرأة أو فتاة، ولم تكن لهم صديقة، وهكذا كانت الفتيات أيضا، كان الزواج بالنسبة لهم أمنية. الفتي حينما يبلغ الخامسة عشرة من عمره يتولد لديه شعور طبيعي بالحاجة إلى الزوجة، وهكذا الحال بالنسبة للفتاة. وكان من الطبيعي أن الفتى يتمنى الزواج، لأنه بواسطة الزواج يتحرر من الحدود المفروضة عليه في مجال الاستمتاع بالمرأة، ويدخل في إطار حرية الاستفادة منها. وحينها لا تكون ليلة الزفاف أقل سعادة من الليلة التي يمسي فيها الملك ملكا. لأنه هذه المرأة تعتبر بالنسبة لهذا الشاب من الناحية النفسية أول مخلوق أخرجه من تلك المحدودية إلى أجواء الحرية. وكذلك بالنسبة للفتاة فإن ذلك الفتى هو أول من أخرجها من ذلك القيد إلى جو الحرية.

وهذا هو العامل الذي يجعل الفتيات والفتيان الذين لم يكونوا قد رأوا بعضهم من قبل يألفون بعضهم بعد الزواج إلى حد بعيد. لا أريد القول هنا أن عدم رؤيتهم لبعضهم قبل الزواج إلى حد بعيد. لا أريد القول هنا أن عدم رؤيتهم لبعضهم قبل الزواج عمل صحيح، لأن الإسلام لهم الرؤية. ولكن حتى وإن لم يكونوا قد رأوا بعضهم من قبل فإنهم يتعلقون ببعضهم حتى آخر العمر.

أما النظام الاجتماعي في الغرب فيبيح للشاب وللشابة حرية العلاقات الجنسية ما دام أحدهما لم يتزوج. فتكون نتيجة ذلك أن الزواج يصبح قيدا يحددهما، قبل الزواج كانت لكلّ منهما الحرية في إقامة علاقة مع من يشاء. ولكن تصبح علاقته بعد الزواج مقصورة على شخص واحد. وهذا هو السبب الذي يدفع الشاب الذي يوشك على الزواج أن يقول: إنني منذ اليوم أدخلت نفسي في السجن، وكذلك الفتاة يصبح الزوج سجانها إي أن الزواج يسلب الشخص حريته الجنسية ويفرض عليه قيدا.

أما الزواج في النظام الاجتماعي الإسلامي فيعني الخروج من القيد إلى الحرية. ومن الطبيعي أن الزواج الذي يبنى أساسه على الخروج من القيد إلى الحرية ينتج عنه الثبات والاستقرار. أما الذي يشيد بناؤه على فقدان الحرية والدخول في التقييد فهو أولا، لا يتمتع بالثبات والاستقرار. أي أنه يؤدي إلى الطلاق السريع، وثانيا: أنّ الشاب الذي جرّب - على حد قول الأوربيين - عشرات أو أحيانا مئات الفتيات، والشابة التي جربت عشرات ومئات الرجال، هل يمكن الآن أن يتقيد بشخص واحد؟ وهل يمكن تقييده؟

تحريم الإسلام للزنا لا يقتصر سببه على أن هذا حق ذلك الرجل وذاك حق تلك المرأة. إذن فالرجل غير المتزوج والذي لا تقع عليه أية مسؤولية أمام أيّة امرأة، والمرأة غير المتزوجة التي لا مسؤولية عليها إزاء أي رجل، لا مانع أمامهما من ممارسة هذا العمل! والرجل الذي لا يرغب في الزواج طوال حياته يكون مطلق العنان، وكذلك المرأة التي لا تميل إلى الزواج طوال حياتها يطلق له العنان. الإسلام يرفض هذا رفضا. فأما القبول بالحرمان المطلق، وأما الجنوح إلى الزواج والالتزام بما يفرضه من مسؤوليات.

ومن هنا شرع الإسلام للزنا عقوبة، وجعل عقوبة الزنا المجرد عن طمس حقوق امرأة أو سحق رجل، هي الجلد. ويحكم الإسلام على الرجل المحصن الذي يزني لا بدافع ضغط الشهوة الجنسية طبعا، على المرأة المحصنة التي تمارس الزنا لا بدافع الغريزة الجنسية طبعا وإنما بدافع النزوة والهوى، بالرجم.

لاحظوا إلى أي حد يعير الإسلام أهمية لمثل هذه الاعتبارات ! العالم الأوربي كان يقول ابتداء إن الزنا لغير المتزوج ولغير المتزوجة ليس جريمة.

يقول برتراند راسل: إلاّ أن يوقع جراحة:فإذا لم يحصل جرح فلا ضير. ووصل بهم الحال إلى أنّ برتراند راسل يقول صراحة: لا مانع من الزنا بين المتزوج والمتزوجة، فما المانع في أن يكون للمتزوجة عشيق تمارس معه الهوى في مكان، وزوج تعيش معه الحياة الزوجية؟ فيكون لها في الوقت ذاته زوج عشيق؟ تمارس مع ذاك الهوى، وتنجب لهذا الأطفال. ولكن تقدم تعهدا باستخدام موانع الحمل عند ممارسة الهوى مع العشيق. ولكن هل راسل نفسه يصدق هذا الكلام؟ أي عاقل يصدق إن امرأة تحب شخصا وتعشقه، وتكون زوجة لزوج غيره وتتعهد أن لا تنجب طفلا إلا للزوج.

كل امرأة ترغب في أن يكون لها ولد تجد فيه تجسيدا وذكرى للرجل الذي تحبه لا أن يكون أمامها ذكرى لرجل تمقته. ثم ما الضمانة على عدم الحمل من الرجل الذي تحبه ثم الصادق الوليد برقبة زوجها؟

يبدو أن القرآن قد التفت إلى هذا الجانب فقال: ﴿أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ هذه من القوانين الثابتة التي لا تغيرها متطلبات العصر ولا يمكن لها تغييرها. فهي من مبادئ الحياة البشرية ولا يطالها التغيير. ثم قال بعد ذلك: ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ ليس هنا موضع رأفة أو تسامح، فما أن يثبت الأمر لا يمكن بعد ذلك التهاون فيه. وتؤكد الجملة اللاحقة على عدم إجراء هذا الحكم، أي إقامة الحد على الزاني والزانية، خلف الأسوار وبعيدا عن أنظار الناس. بل لا بد وأن يقام أمام الأنظار ويشيع خبره في كل مكان ليكون واضحا في الإسلام يبدي أهمية فائقة لقضية العفاف، لأن الغاية من إقامة الأحكام الجزائية هي التأديب وتربية المجتمع. فلو أنّ امرأة زنت وعوقبت خفية حتى ولو بالإعدام فان عقوبتها لا تجدي في المجتمع أثرا. وفي عصر صدر الإسلام متى ما كانوا يريدون إجراء هذه الأحكام - وكانت قلّما تجرى إذ بما أنهم كانوا يطبقون هذه الإحكام فإن الزنا نادراً ما كان يقع - كانوا يعلنون ذلك على الملأ.

ما أجمل ما قيل هنا: (لا يرى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا) (نهج البلاغة: الحكمة70). فقد كانت أوربا، قبل قرنين أو ثلاثة حينما كان القانون السائد فيها هو قانون الكنيسة، تنتهج أشد الأساليب تطرفا في تحديد العلاقات الجنسية، وكانت تطرح ضد الإسلام سلسلة من المؤاخذات.

كانت العلاقة الجنسية في قانون الكنيسة رذيلة حتى مع الزوجة الشرعية. بل إنهم كانوا ينظرون إلى المرأة كموجود نجس ذاتا، ومقاربة المرأة كان عندهم عملا قذرا حتى مع المرأة كان عندهم عملا قذرا حتى مع المرأة الشرعية. ولهذا السبب كان الشخص المنزه والمقدّس في رأيهم والجدير ببلوغ المراتب الروحية الرفيعة هو الشخص الذي لم يقارب امرأة في حياته ولم يلمس امرأة قط.

والباب لديهم ينتخب من بين الأشخاص الذين قضوا حياتهم في العزوبة، بل وكانت العزوبة ذاتها "مقدسة" لديهم. كانوا يقولون أن هذا العمل المقدس جدير بان يؤدّيه أشخاص لم يخالطوا النساء طوال حياتهم. ومثل هؤلاء الأشخاص قليلون طبعا، وهم الذين يصبحون في ما بعد قساوسة وكاردينالات، أو يبلغ بعضهم درجة البابوية. وكانوا يقولون أن أكثر الناس لا يستطيعون العيش بل زواج، وإذا نحن قلنا لهم لا تتزوجوا يضطرون لممارسة الزنا وهو عمل أقبح، بل ويحرصون على ممارسة الجنس أكثر فأكثر، ولهذا أبيح الزواج من باب " دفع الأفسد بالفاسد".

أما الإسلام فعلى العكس من ذلك فقد ذم العزوبية وقال: (إن الأرض تضج إلى الله من بول الأعزب)(ورد نظير هذه الروايات بشأن الأغلف الذي لم يختن). ويقدس الزواج.

يذكر لكلمة "المحُصَن" أو "المحُصِن" في القرآن معنيان، تارة تستخدم للمرأة المتزوجة على وجه الخصوص بمعنى إنها في حصن الزواج، وتستخدم تارة أخرى بمعنى المرأة العفيفة وان كانت غير متزوجة. والمراد هنا هو المعنى الثاني فالذين يرمون النساء العفيفات بسهام التهمة والتشكيك في عفتهن ولا يأتون بأربعة شهود يجب أن يقام عليهم الحد.

الإسلام لا يقبل أي ادّعاء بلا دليل. لكن بعض الادعاءات تقبل ولو بكلمة من امرأة واحدة، مثل القضايا المتعلقة بالنساء حين تقول المرأة شيئا عن ذاتها مثلا حينما يريد شخص طلاق زوجته، فما أن الطلاق لا يجوز أثناء العادة الشهرية، لهذا تُسأل المرأة هل هي طاهرة أم في وقت العادة؟ إذا قالت طاهرة يكفي، وإذا قال أنها في حالة العادة يقبل قولها. فلا يقال عند ذاك بوجوب الأتيان بشاهدين، بل إن كلامها وحده معتبر.

في بعض الحالات لا بد من وجود شاهدين من الرجال كما هو ا لحال الدعاوى المالية. ولكن في قضايا الشرف حيث حرمة الشرف وتلوث العفاف يؤكد الإسلام على أن الشاهدين العدلين لا يكفيان أيضا. أي لو جاء عادلان ممن يثق الناس بهما ويصلون خلفهما أو يلقلّدونهما ويقولان أنهما رأيا امرأة معينة قد زنت، يرى الإسلام إن هذا لا يكفي، فأنتما شخصان. وحتى إذا كانوا ثلاثة أشخاص،

فالإسلام يقول. لا يكفي. ولو جاء أربعة عدول وشهدوا فحينذاك يعتبر الإسلام تلك المرأة متهمة، ويعتبر كلامهم دليلاً كافياً. قد يقول قائل: إذا كان الأمر كذلك فهذا الأمر لا يحدث، فمن أين يأتي أربعة شهود ويشهدون إن امرأة قد زنت؟ نقول: وهل جعل الإسلام قضية الزنا مبنية على المتابعة والمراقبة والتفتيش؟ الإسلام حينما يقول أربعة شهود لا يستهدف من وراء ذلك إشاعة المراقبة والمتابعة حتى يقال إن هذه الشروط مرهقة ولا تحصل حتى حالة واحدة من مائة ألف حالة أن يأتي أربعة ويدلوا بمثل هذه الشهادة. الإسلام يريد إثبات أقل ما يمكن من حالات الزنا. ولو حصلت ألف حالة زنا في الخفاء فهي في الإسلام أهون من اتهام امرأة عفيفة بالزنا.

الإسلام لا يريد وقوع الزنا، لكنه لا يريد ذلك عن طريق الشهود والعقوبة، بل وضع لهذا المورد سبلا أخرى. ولو طبقت أساليب التربية الفردية والتعاليم الاجتماعية الإسلامية لما وقع الزنا. لا أن يعاقب على الزنا إذا ما وقع ليردع عن وقوعه. أجل، لقد سنّ العقوبة أيضا لمن لا تجدي فيهم نفعا تلك التربية، ليعلموا أن هناك السوط أيضا وهناك القتل، وهناك القتل حتى بالرجم.

إذن قلنا بوجوب توفر أربعة شهود، أضف إلى أن في الشهادة خطر على الشاهد فلو رأى شخص امرأة تزني ولم يكن هناك ثلاثة آخرون يشهدون معه يجب عليه أن يلزم الصمت. أو إذا رأى الزنا شخصان، يجب أن يلزما الصمت، أو إذا رأى الزنا ثلاثة، يجب أن يلزموا الصمت. لأنهم إذا شهدوا يقال لهم شهادتكم لا تكفي، وإذا كانت غير كافية لا يقال لهم أذهبوا إلى بيوتكم ! وإنما يقال لهم: بما أنكم شهدتم ولم تستطيعوا إثبات مدّعاكم فأنتم إذن قاذفون، ويجب أن يجلد كل واحد منكم ثمانين جلدة. وهذا هو قول القرآن أن الذين يرمون النساء العفيفات بالتهمة ولا يأتوا بأربعة شهداء، اضربوهم ثمانين جلدة حتى وإن كانوا صادقين لأنهم بقولهم هذا يتهمون امرأة بشرفها.

ولكن هل يقتصر الأمر على هذه العقوبة البدنية؟ كلا، بل هناك عقوبة اجتماعية أخرى وهي: ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور/4). وهذا يعني إسقاط اعتبارهم الاجتماعي. لماذا؟ لأنهم اتهموا امرأة عفيفة بالزنا ولم يستطيعوا إثبات تلك التهمة.

العقوبة الثالثة هي وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور/4). وهنا يختلف المفسرون: هل ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ عقوبة أخرى في معزل عن ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾ (النور/4) أم هي ذاتها، أي كلتاهما عقوبة واحدة؟ البعض قالوا أنها واحدة، على أساس أنّ ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾ (النور/4) يُعتبر سبباً لـ﴿وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾ (النور/4). أي أنهم صاروا فسقة بسبب هذه التهمة، وبما أنهم اصبحوا فسقة، فشهادتهم غير مقبولة، بل ولا يقبل منهم كل ما تشترط فيه العدالة، فلا يجوز مثلا إجراء صيغة الطلاق عند أحدهم، ولا يصلى خلفهم، وإذا كان أحدهم مجتهدا لا يجوز تقليده. لأن الشرط في كل هذه الإعمال هي العدالة. وعلى هذه فمجموعة الكلي عقوبة واحدة.

إلا أن البعض قال إنهما عقوبتان، إحداهما عدم قبول الشهادة، والثانية هي صفة الفسق. وبما إنهم عقوبتان، إحداهما عدم قبول الشهادة، والثانية هي صفة الفسق. وبما أنهم فسقة فان سائر آثار الفسق تترتب عليهم. وهذان الأمران يمكن فصلهما عن بعضهما. ولو أن هذا الشاهد الذي لم يستطع إثبات ادعائه تاب، تزول عنه صفة الفسق، أي يمكننا اعتباره عادلا، فنصلي خلفه وإذا كان مجتهدا أمكن تقليده، كما ويجوز له تبوأ منصب القضاء "لأن القاضي تشترط فيه العدالة" لكن شهادته لا تقبل، لأن تلك العقوبة بمعزل عن هذه. وهذا هو السبب الذي يجعل البعض يعتقد أن عدم قبول شهادة مثل هذا الشخص ليس فسقه، لأن هذه عقوبة أخرى غير تلك فاعتبار الإنسان فاسقا - في رأي الإسلام عقوبة - وعدم قبول شهادته عقوبة أخرى.

من هنا يتضح معنى الآية التالية: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النور/5). وهذا الاستثناء يمكن حمله ابتداءً على ثلاثة احتمالات:

- الاحتمال الأول: هو أن الشخص لو ادّعى ولم يستطع إثبات مدعاة وأعلن عن توبته لا يجلد، وشهادته من بعد هذا تقبل، وهو ليس بفاسق. إلا إن مثل هذا الاحتمال لم يقل به أحد. فأي شخص ما أن يتهم امرأة ولا يستطيع إثبات التهمة لا بد وأن يجلد.

- الاحتمال الثاني : انه إذا تاب تقبل شهادته ولا يعتبر فاسقا. أي ترفع عنه العقوبات الاجتماعية ويعاد إليه اعتباره.

- الاحتمال الثالث: إن شهادته لا تقبل إلى الأبد. أي أن العقوبات الثانية لا تزول عنه و﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا﴾ استثناء من العبارة الأخيرة، أي يعاد إليه الإعتبار بالقدر الذي يسمح بالصلاة خلفه، وتقليده، وتعيينه لمنصب القضاء. لكن شهادته لا تقبل أبدا. ولا يستبعد أن يكون الاحتمال الثالث هو الأصح، أي ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ استثناء من ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور/55) والآية التالية هي: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (النور/6) ﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (النور/7).

وهنا يتبادر إلى الأذهان سؤال مفاده انّ رجلا إذا اتهم امرأة بالزنا يجب عليه الإتيان بأربعة شهود، وليعلم أنه إذا لم يأت بأربعة شهود يجلد، إذن فما عليه إلاّ إن يلزم الصمت. ولكن إذا كان الذي شاهد المرأة تزني هو زوجها، فما هو موقفه؟ هل يجب عليه تهيئة أربعة شهود حتى يأتي إلى حاكم الشرع ويصرح له أن زوجتي قد زنت؟ فإذا أراد البحث عن الشهود الأربعة يكون هذان قد أتما فعلتهما. وإذا كان الشاهد شخصا غير الزوج يقال له إذا لم يكن معك شهود، إلزم الصمت ولا تتحدث بشيء، فما شأنك وهذا؟ وإذا تكلمت تجلد.

أما الزوج فيجب أن يقسم بالله أمام الحاكم أربع مرات ويشهد الله أن ما يقوله صدق وأنه غير كاذب. أي إن الشهادة مرة واحدة لا تكفي، بل لا بد من أربع شهادات تقترن كل واحدة منها بالقسم بالله. وهل هذا يكفي؟

كلاّ، لا يكفي، بل يقول في الخامسة لعنة الله عليّ إن كنت كاذبا. وهل انتهى الأمر عند هذا الحد فيقال للمرأة لقد ثبت عليك الزنا؟ كلا، بل يقال للمرأة إن زوجك قد لاعنك، أي اقسم أربع مرات ولعن نفسه في الخامسة. فما هو قولك أنت؟ فإذا أقرت أقيم عليها الحد، وإذا سكتت ولم تدافع عن نفسها، فهذا بحكم الإقرار. ولكن يوضع أمامها خيار آخر، فيقال لها: أنت أيضا تقسمين مثل زوجك أربع مرات انه كاذب، وتقولين في الخامسة أن لعنة الله عليّ إن كان زوجي صادقا.

فإذا رفضت القيام بهذا العمل يتضح إذن أنها زنت وتعاقب. ولكن إذا أرادت الدفاع عن نفسها فما هو العمل؟ أي إن الرجل أقسم أربع مرات ولعن نفسه إن كان كاذبا، وكذا أقسمت المرأة أربع مرات إن زوجها كاذب، وقالت في الخامسة أن لعنة الله عليها إن كان زوجها صادقا. فما حكم الإسلام في مثل هذه الحالة؟ هل يعتبر الرجل هنا بحكم القاذف فيجلد؟ كلا. وهل تعتبر المرأة مذنبة فيقام عليها الحد، وهو الرجم؟ كلا. فما العمل إذن؟

يقول الإسلام هنا: ما دام الأمر قد بلغ هذا الحد، يجب التفريق بينهما ولا داعي للطلاق، لأن هذا العمل بحكم الطلاق، وتنفسح العلاقة الزوجية بينهما إلى الأبد. وهذا يسمى في الفقه بـ"اللعان" أو "الملاعنة ". وقعت مثل هذه الواقعة في زمن الرسول(صلى الله عليه وآله) وبحضوره، ويقال أن شأن نزول هذه الآية كان فيها. إذ جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم رجل اسمه هلال بن أميه وهو في حالة ذعر وقال: يا رسول الله رأيت بعيني زوجتي في حالة زنا مع الرجل الفلاني. فأعرض عنه الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأعاد الرجل كلامه ثانية، وقال في الثالثة: الله يعلم إننّي صادق غير كاذب. ثم نزلت هذه الآيات، ودعا الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم هلال بن أميّة، ودعا زوجته أيضا. وكانت زوجته من أعيان المدنية وقبيلتها كبيرة وأقاربها كثيرون. وكان هلال قد جاء أيضا مع قومه وأبناء قبيلته.

كانت تلك المرة الأولى التي يجري فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) اللعان، فأمر الرجل أن يقسم بالله أربع مرات، ويجعل لعنة الله عليه في الخامسة إن كان ن الكاذبين. فتقدم الرجل ممتثلا أمر الرسول وادعى ما قاله له. وقيل للمرأة اقسمي أربع مرات أن زوجك كاذب. سكتت المرأة أول الأمر وانعقد لسانها عن الكلام، وأوشكت على الاعتراف لكنها نظرت في وجوه قومها وقالت في نفسها: لا أفعل ما يجلب على قومي العار ويلحق بهم الانكسار.

حينما أقسم هلال بن أمية أربع مرات وأراد أن يلعن نفسه في الخامسة، قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أعلم أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، إياك وأن تكون رميت زوجتك بهذه التهمة كذبا؟ واتق الله ??: فقال: يا رسول الله، الله يعلم أنني غير كاذب، وكذلك المرأة حينما أقسمت أربع مرات إن زوجها كاذب، وأرادت أن تقول: غصب الله عليّ ... قال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): اتق الله، أن ما في الآخرة اشد مما في الدنيا. إياك أن تكذبي كلام زوجك إن كان قوله حقا. وهنا انعقد لسانها وأوشكت على الإقرار، لكنها قالت أخيرا: لعنة الله عليّ إن كان من الصادقين. وعند ذاك قال لهما الرسول: أنتما من هذه الساعة لستما زوجاً لبعضكما.

ثم جاء في الآية التالية: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ (النور/10). أي لولا فضل الله عليكم لأنزل أحكاما اشد. قد تتصورون أن الأحكام التي أنزلناها عليكم هنا أحكاما شديدة، ولكن اعلموا أنها من فضل الله ورحمته ومظهر قبوله التوبة، وانّ هذا مما تقتضية مصلحتكم.

تأتي بعد هذه الآية الآيات المسماة بآيات "الإفك" والإفك هو التهمة، وتتعلق هذه القضية بحدث تاريخي وهو أن إحدى زوجات الرسول (صلى الله عليه وآله) اتهمت خلال واقعة تاريخية من قبل المنافقين. ويعتقد أهل السنة أن تلك المرأة هي عائشة، بينما يرى بعض الشيعة أنها مارية القبطية. ولعلكم تظنون أن القضية يجب أن تكون بالعكس، أي أن يقول الشيعة أنها عائشة ‎، ويقول السنة أنها مارية. فماذا يؤكد السنة إنها كانت عائشة، ويصر المتعصبون من الشيعة أنها كانت مارية؟

سبب ذلك يعود إلى أن هذه التهمة اتخذت في ما بعد -سواء في وجهة نظر عامة الناس، أم في رأي الآيات القرآنية بشأن تلك المرأة المتهمة - صيغة تبعث على الفخر بحيث لم يبق معها شك في أن التهمة الموجهة إلى تلك المرأة كانت كذبا وأنها قد زكيت والقضية لا أساس لها من الصحة. وهذا هو سبب تأكيد أهل السنة أن تلك المرأة المتهمة التي تثبت نزاهتها عن هذا العمل القبيح مائة بالمائة كانت عائشة، وحرص بعض الشيعة على إثبات مثل هذه المفخرة لمارية القبطية.

أما تفاصيل تلك القضية وآيات الإفك التي نزلت فيها فسنرجيء الحديث عنها إلى مجلس آخر إن شاء الله. وصلى الله عليه وآله الطاهرين.