التفسير والتأويل على مسالك مختلفة ومشارب شتى
على مسلك الأخباري: (أولئك) أهل هذه الصفات (على هدى) وبيان وصواب (من ربهم)، وعلم بما أمرهم به، (وأولئك هم المفلحون) الناجون مما منه يوجلون، الفائزون بما يؤملون (1). وقريب منه: (أولئك على هدى من ربهم) وعلى صراط علي (عليه السلام)، فإنه هداية من ربهم، وقد مضى بعض البحث في ذيل قوله تعالى: (هدى للمتقين). وعن ابن عباس: أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به، (وأولئك هم المفلحون)، أي المنجحون المدركون ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا (2).
وعلى مسلك أرباب التفسير: (أولئك) أي المؤمنون من غير أهل الكتاب والمؤمنون من أهل الكتاب (على هدى من ربهم) (وأولئك) كلهم (هم المفلحون). وهو المروي عن السدي، عن أبي مالك بإسناده، عن ابن مسعود وعن أناس من معاصري رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (3). نعم هو اختار: أن الذين يؤمنون بالغيب غير الذين يؤمنون بما انزل إليك، كما مر تفصيله ونقده. وقريب منه: ما قاله بعضهم وهو أن الإشارتين لنوعي المؤمنين المذكورين في الآية السابقة بأسلوب اللف والنشر المرتب، فالإشارة الأولى للفرقة الأولى، وهم الذين ينتظرون الحق وبيانا من الله تعالى ليأخذوا به، والإشارة الثانية للفرقة الثانية، وهم المؤمنون بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعاملون به وإلى الفرقة الثانية أشارت الإشارة الثانية، لأنهم المفلحون بالفعل، لاتصافهم بالإيمان بالقرآن وبما تقدمه من الكتب السماوية، وباليقين بالآخرة، لا مطلق الإيمان بالغيب (4). وقريب منه: أن تكون الإشارتان على اللف والنشر غير المرتب، وقد مر فساد هذه الأقاويل في طي البحوث السابقة.
وعلى مشرب الحكيم: (أولئك على هدى من ربهم)، (فإنك لا تهدي من أحببت)، و (أولئك على هدى) من الله، لا من قبل أنفسهم، فإن الله يهدي من يشاء، ولكنهم لمكان اكتسابهم المادة القابلة لنزول هداية الله، ولجلبهم الهيولي المستعدة للاستنارة بنور الهداية، والاستضاءة من ضوء الكتاب والخطاب، (هم المفلحون) وإنهم الفائزون، لا غيرهم، ولا الذين خلوا من تلك القابلية، وأصبحوا من الخاسرين. وقريب منه: (أولئك على هدى من ربهم)، لأنهم على الفلاح من أنفسهم، فلكونهم من المفلحين بجدهم واجتهادهم (على هدى من ربهم)، قدمت الجملة الأولى حفاظا على شرافة اسم الرب، وصنع الله تعالى فيها، ولرؤوس الآي. وقريب منه: (أولئك على هدى من ربهم) بإبلاغ الكتب وإرسال الرسل (وأولئك هم المفلحون) باكتساء لباس العمل والإيمان، والاهتداء بهداية قلبية وقالبية من ناحية اهتمامهم وإرادتهم، فهو تعالى دخيل بالإعداد، وهو دخيل بالعلية، خلافا لما هو المبرهن عليه في محله: أن المعلول حد ناقص للعلة، والعلة حد تام للمعلول.
وعلى مسلك العارف ومشرب أهل الذوق والإيمان: (أولئك) أي المتقون والمؤمنون من كل فرقة من الفرق (على هدى من ربهم) المخصوص بهم، واسمهم المقيد من الأسماء الإلهية، وأما الذي (على هدى) من الله فالاسم الجامع الكلي السعي المحيط، فهو خارج عن حد الفلاح واللا فلاح، كما أنه تعالى خارج عن ذلك، ولا يوصف بالفلاح واللافلاح. وقريب منه: أن هؤلاء الناس وتلك الأمم والأجيال من المتقين، الذين يؤمنون بالغيب وبالرسل وبالآخرة (على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)، وأما الذين (على هدى من ربهم)، ولا يكونون من المفلحين، فهم الذين (على هدى من ربهم) ومن الاسم الضال والضار، فكل موجود (على هدى من) ربه واسمه المقيد، إلا أن طائفة منهم (هم المفلحون) دون طائفة، فتأمل.
1- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 90.
2- راجع تفسير الطبري 1: 107 - 108.
3- راجع تفسير الطبري 1: 106.
4- راجع تفسير المنار 1: 136 - 137.