الفلسفة والحكمة
ربما يستدل بهذه الآية على أن الهداية التي حقيقتها الإيمان والإيقان بالغيب والآخرة، وبالكتاب وبالرسالة من ناحية الرب ومن مخلوقات الحق ولو كانت هداية المؤمنين من أنفسهم وباجتهادهم وتفكرهم كان ينبغي أن يقال: أولئك على هدى من أنفسهم (1). وإذا كانت الهداية من الرب فالغواية والضلالة أيضا بإرادته تعالى، فلا معنى لدعوى صحة العقوبة والإنعام على الأفعال، بل الآية تدل على مقالة الأشعري، القائل بالجبر، لأن الصلاة والزكاة هداية قطعا، فتكون من ربهم، فلا يتوسط الإرادة واختيار العبد.
ومن الممكن دعوى: أن السبب لفعل الخير هي الهداية، وإذا كان السبب من الله تبارك وتعالى فالسبب يستند إليه، فلا حاجة في تتميم الاستدلال إلى دعوى: أن فعل الصلاة من الهداية، مع أن الظاهر من قوله تعالى: (أولئك) أن المشار إليه هو المتقي الفاعل للصلاة والزكاة، لا المتقي بنعت الاتقاء فقط. أقول: لو تم هذا الاستدلال للزم المكاذبة والمناقضة بين صدر الآية وذيلها، لأن قوله تعالى: (وأولئك هم المفلحون) ظاهر في استناد الفلاح إليهم، وأنهم هم الفائزون حقيقة، ولا يصح المدح والثناء على فعل غير اختياري. وحل المشكلة: أن مقتضى ما برهن عليه في محله أن جميع الصور والكمالات تفاض من الغيب، وتتنزل من سماء الحق والعظمة حسب اختلاف الاستعدادات، ويكون اختلاف الاستعدادات مستندة إلى الأسباب الاختيارية وغير الاختيارية، ومن الأسباب الاختيارية الجد والاجتهاد في فهم الواقعيات، فإذا قام الإنسان، وسلك طريق الوصول إلى الحقائق والتوحيد والإيمان، هداه الله تعالى، فيكون من (أولئك على هدى من ربهم)، ولمكان قيامهم بتحصيل تلك الهداية، يكون أولئك هم المفلحين، فإذا كانت إرادتهم دخيلة في حصول صورة الهداية يصح مدحهم والثناء عليهم.
1- الجامع لأحكام القرآن 1: 181.