البلاغة والمعاني
فهنا نكات:
النكتة الأولى: حول الالتفات في الآية في العدول من التوصيف بالمفاهيم الكلية إلى التعيين والإشارة الخاصة بهم، إشعار بالاهتمام بهم، وأن المهتدين من الهادي الحقيقي، وهو ربهم كأنه منحصر فيهم، فهذا الالتفات يفيد الحصر في موقف الاهتمام.
النكتة الثانية: حول استعمال " على هدى " كما يمكن أن يقال: (أولئك على هدى) يمكن أن يقال: أولئك في هدى، فما وجه اختيار " على " التي للاستعلاء على غيرها؟ قيل: الاستعلاء الذي أفاده في قوله: (على هدى) هو مجاز نزل المعنى منزلة العين، وأنهم لأجل ما تمكن رسوخهم في الهداية جعلوا كأنهم استعلوها، كما تقول: فلان على الحق (1). أقول: قد اختلفت كلمات أهل البلاغة في اجتماع الاستعارة التمثيلية والتبعية، فذهب السعد إلى جوازه (2)، والسيد إلى امتناعه (3). وقيل: قد اعتلى الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة حتى سارت به الركبان، وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل، وقد وقع بينهما الخلاف المتجاهر في مجلس " تيمور " على ما ضبطوه (4). ونتيجة هذا الخلاف هو الخلاف في هذه الآية، فقالوا بالوجوه الثلاثة:
الأول: أنها استعارة تبعية مفردة، بأن شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه - أولا - في التمكن والاستقرار، ثم استعير له حرف الاستعلاء لإفادة ما قصده المتكلم من التشبيه.
الثاني: أن ينتزع هيئته من المتقي والهداية، ثم شبهت تلك الهيئة المتمسك بها بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه، فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها، ثم أتى بكلمة " على " لإفادة ما نواه.
الثالث: أن يكون قد شبه الهدى بالمركوب على طريق الاستعارة بالكناية، وجعلت كلمة " على " قرينة لها على عكس الوجه الأول. هكذا حكي عن السيد في تعاليقه (5)، والله العالم. والذي هو التحقيق: أن علماء الأدب لما كان بناؤهم على المجازات باستعمال الحروف والألفاظ في غير الموضوع له، ابتلوا بمثل هذه المصائب، ووقعوا في هذه المصاعب. وأنت بعدما أحطت خبرا بما هو التحقيق من أن الألفاظ تستعمل في معانيها الأولية، ولكن تلك المعاني تارة تكون مرادة جدا، وأخرى تكون مرادة استعمالا، ينتقل ذهن المستمع والمخاطب إلى مرامه، لوجود القرائن المختلفة المرعية في كلامه أو حال تكلمه، فإذا قيل: (أولئك على هدى من ربهم)، فلا تكون " على " إلا مستقلة فيما هو معناها حقيقة في الإرادة الاستعمالية، ولكن المتكلم ينتقل من هذا الاستعمال إلى ما هو غرض المتكلم من الجملة، وهو أن المتقين مسيطرون على الهداية، وتكون الهداية تحت قدرتهم. أقول:
أولا: ليس ما اشتهر: من أن " على " للاستعلاء و " من " للابتداء، على الحق، بل لو كان الأمر كما حرروه لما كان تحتاج الجملة - بعد الإتيان بالمفهوم الاسمي مكان الحرف - إلى ذلك الحرف، مثلا إذا قيل: (أولئك على هدى) فمعناه أولئك استعلوه، ولكنه غير صحيح، لأن معنى استعلوه، أي استعلوا عليه، وليس الضمير مفعولا به بالضرورة، فتحتاج الجملة إلى تكرار حرف الاستعلاء.
وثانيا: ما ذكرنا من المجاز - وهو أن التلاعب لا يكون في محيط الألفاظ والأوضاع، بل التلاعب يكون في محيط المعاني والمقاصد - صحيح في مثل الألفاظ الموضوعة للمعاني الكلية، ولا يتم في المعاني الحرفية التي هي جزئية، فلابد أن يلزم استعمال تلك الألفاظ في المصداق الخارجي، ويكون من الاستعمال المجازي بالتلاعب في الألفاظ قهرا وطبعا، فكلمة " على " هنا تستعمل في المعنى الجزئي. نعم، على القول بأنها كألفاظ الأجناس موضوعة للمعاني الكلية، يمكن الالتزام بعدم المجازية في الألفاظ قاطبة. وبالجملة: ما هو الأقرب إلى أفق التحقيق، والأصوب في دار التدقيق، هو أن المعاني الحرفية تكون ذهنية وخارجية، وعلى كل تقدير تكون اندكاكية، وليست كلمة " على " للاستعلاء حتى يأتي الخلاف المزبور، بل هي تفسير خصوصية عارضة على المسند أو المسند إليه أو الإسناد، وحيث إن أولئك مهتدون من قبل هداية الله، فلابد من إفادة هذه الخصوصية بشئ، وهو كما يمكن أن يستفاد من كلمة " في "، يمكن أن يستفاد من كلمة " على "، واختيار " على " على " في " لا سر فيه ظاهرا، ولو اختير " في " مكان " على " كان يتوجه السؤال أيضا، فافهم وتدبر.
النكتة الثالثة: حول تنكير " هدى " في تنكير الهدى نوع إشعار بامتناع الاطلاع على حقيقة هذه الهداية، التي جاءت من قبل الله تعالى. وقيل: إن " أولئك " الأولى للطائفة الأولى والفرقة الأولية، وهم الذين ينتظرون الحق، لأنهم على شئ منه، كما يدل عليه تنكير " هدى " الدال على النوع، وينتظرون بيانا من الله تعالى ليأخذوا به (6). وسيمر عليك: أن المشار إليه في " أولئك " الأولى والثانية واحد، وقد مضى أن الآيات الأولى من البقرة إلى الرابعة مخصوصة بحال طائفة خاصة، وهي واحدة ولا تتعدد حسب الأصناف، كما قيل، ففي التنكير إفادة أن تلك الهداية ليست نفس طبيعة الهداية المشتركة فيها جميع الملل والأقوام، فإن كل موجود على هداية من قبله تعالى، ولكن المتقين على هداية خاصة، ونوع هداية مشفوعة بالأنوار الإلهية والأضواء الملكوتية.
النكتة الرابعة: حول " هدى من ربهم " في إضافة تلك الهداية إلى الرب، إفادة لطيفة وإشعار دقيق بأن ربوبية الحق هي الهداية، فهو تعالى رب، بمعنى أنه تكفل الهداية، والهداية هي ربوبيته، وبهذا يعلم وجه قوله: (أولئك على هدى من ربهم)، ووجه العدول عن القول بأنهم على هدى من هدايات ربهم، فلاحظ وتدبر جيدا. فما قيل: إنما ذكر الرب مع أن الهدى لا يكون إلا منه سبحانه، تأكيدا لذلك بإسناده إليه جل شأنه، وفيه مناسبة واضحة، إذ حيث كان ربهم، ناسب أن يهيئ لهم أسباب السعادتين الدنيوية والأخروية، ويمن عليهم بمصلحة الدارين (7). ولا يخفى بساطته.
النكتة الخامسة: حول تكرار " أولئك " في تكرار " أولئك " بإتيان حرف العاطف قبلها، وعدم الإتيان به في قوله تعالى: (أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (8) نوع إشعار بأن المسألة ليست مبنية على التأكيد، ويكون الحكم في الأولى غير الحكم في الثانية، فيكون المشار إليه في الأولى غير المشار إليه بالثانية، أو تكون هناك حالتان لطائفة، وتكون الإشارة الأولى مخصوصة بالحالة الأولى، وهي حالة الاتقاء، والثانية إلى الحالة الثانية، وهي الوصول إلى مقام المتقين بالاتصاف بالتقوى حقيقة.
أقول: المتدبر في الآيات السابقة، والمتأمل في خصوصيات الجمل الماضية، يحصل له القطع بأن هذه الآيات في مقام توصيف المتقين إلى قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم) ثم هذه الأخيرة ليست حقيقة إخبارية، ولا في موقف التوصيف، لأن المعاني الحرفية لا تقع وصفا ونعتا، فالآية الخامسة مدح من الله تعالى، ونعت من الرب الودود، ناظرا إليهم مترنما: بأن أولئك الذين اهتدوا بهداية الكتاب العزيز، وكانوا يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون، وكانوا يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك، وكانوا يوقنون بالآخرة وبها يشهدون، أولئك عندنا على هدى من ربهم وأولئك عندنا لأجل كونهم على هدى من ربهم هم الفائزون، فلا فوز إلا فوز الهداية التي حصلت من الرب.
ويؤيد ما ذكرنا ما في سورة لقمان: (ألم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) (9) بعد هذه الآيات يشرع في حال الآخرين من الناس، ويقول: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث...) (10) إلى آخرها. هذا ولو كان المشار إليه الأولى (الذين يؤمنون بما أنزل إليك) والمشار إليه بالثانية: (الذين يؤمنون بالغيب) يلزم اللف والنشر غير المرتب، ويلزم كون (أولئك) لمطلق الإشارة، وهذا خلاف ما تحرر واشتهر: أنه للرتبة القصوى، فليتدبر. وجعل اللف والنشر مرتبا يوجب الخلل الكثير، وقد غفل عنه من ارتضاه. والله من ورائهم محيط.
تذنيب
ربما يختلج ببال القاصرين أن هناك قصورا في تكرار الآية في السور المختلفة، غافلين عن أن أمثال هذه الكرائم وأشباه هذه الشريفة، من أنواع الشعار الديني، وفيه إبراز الحقائق وإظهار السيرة الإلهية، فإن القرآن الكريم كتاب لجميع أهل الأدب والذوق وأرباب الشعور والفهم، فينادي بذلك ويقول بصوت عال: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)، فلابد في الشعار من التكرار.
النكتة السادسة: حول ضمير " الفصل " إتيان ضمير الفصل والعماد يورث التأكيد. وقيل: يفيد الحصر بأن الفلاح والإفلاح يختص بهم، ولا يشترك فيه غير المتقين، فإن (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) (11). وهنا لطيفة أخرى: وهي أن نظم الآيات وسردها يقتضي ذلك، فإليك سرح النظر إلى قوله تعالى: (يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون... يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون). وإذا كانت الهداية من ربهم فلابد أن يتأكد أو ينحصر الفلاح بهم. والله العالم بحقائقها. ثم إن تعريف المسند من أمارات الحصر ودوال القصر حسب ما تقرر وتحرر، خلافا لما هو الحق والصدق، فإن هذه الأمارات لا تفيد إلا الحصر الادعائي، دون الواقعي، فتكون في موقف التأكيد ومحل التأييد. وغير خفي: أن الآيات الأوليات من سورة البقرة بين ما هي مختصة بالمؤمنين، وما هي مختصة بالكفار، وما هي مختصة بالمنافقين، ولمكان الاهتمام بشأن الإيمان والمؤمنين والإيقان والمتقين، قدمت آياتهم على غيرها، ومن تقديم حال الكفار على المنافقين يعلم ويستشم أنهم أسوأ حالا من الكافرين، كما أن نزول ثلاث عشرة آية في المنافقين، يومئ إلى تلك النكتة وهذه الخصيصة.
ذنابة
إذا كرر المسند إليه في الكلام الواحد، فإن كانا معرفتين فهما واحد، فإذا قيل: زيد ضرب، وزيد أكرم، فالظاهر أن الثاني عين الأول، وقيل بخلافه. وعلى هذا يكون المشار إليه ب? (أولئك) الأولى عين الثانية. وإذا كانا نكرتين فالظاهر أن الثاني غير الأول. وإذا كان الثاني نكرة فهو غير الأول بالإجماع. وفي عكسه عين الأول بالاتفاق. وفي خاطري أن المسألة معنونة في الباب الخامس من المغني، فراجع.
1- البحر المحيط 1: 43.
2- انظر روح المعاني 1: 124.
3- انظر نفس المصدر.
4- روح المعاني 1: 124.
5- انظر نفس المصدر.
6- تفسير المنار 1: 136.
7- روح المعاني 1: 124.
8- الأعراف (7): 179.
9- لقمان (31): 1 - 5.
10- لقمان (31): 6.
11- انظر تفسير المنار 1: 137.