اللغة والصرف

الآية الخامسة من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: حول كلمة " أولئك " " أولئك " اسم إشارة للجمع، يشترك فيه المذكر والمؤنث على المشهور بينهم، وقد مضى أن أسماء الإشارات إلى الحرفية أقرب من الاسمية، فتكون حروف إشارة (1). وربما تجئ لغير العقلاء: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) (2)، وذلك لأن صفة السؤال من أوصاف العقلاء. والمشهور عندهم أنه للرتبة القصوى ك? " أولا لك ".

وقال بعضهم: هو للمرتبة الوسطى قياسا على مثل " ذا " حين ما إذا لم يزد عليه غير حرف الخطاب (3). والحق: أن " أولئك " مركب من الكاف الدال على العلامية، أي يكون علامة للمخاطب، وما هو للإشارة هي " أولاء "، وهي في حكم الجمع، ولا مفرد له من لفظه، وعلى هذا يصح أن يقال: " أولئك أولئكم وأولئكن " وإن لم يسمع، لأن عدم السماع لا ينافي صحته على القواعد، ولو كان الكاف داخلا في اللفظ وضعا للزم الإشارة به إلى الغائب، وهو أيضا غير معهود، ولا يوافق القواعد، مع أن القرطبي صرح: بأن الكاف منه للخطاب، غافلا عن أساس البحث وروح المسألة (4). وربما يمكن أن يتخيل: أن أصل " أولئك " " أولا لك ". ويظهر من النحاس: أن اختلاف النطق من جهة اختلاف البلاد، وقال: إن أهل نجد يقولون: " الاك "، وبعضهم يقول: " الالك " (5). ومقتضى التحقيق: أنه لا أصل له، وإنما الاختلاف من ناحية الشعوب والقبائل بلا شبهة، وما حكاه النحاس من أهل نجد غير ثابت بعد، وغير مذكور عن غيره، بل في كتاب " التبيان " ما ينافيه، كما يأتي في ذيل بحث القراءة إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية: حول كلمة " مفلحون " أفلح الرجل: فاز وظفر بما طلب، ونجح في سعيه وأصاب في عمله، ومنه (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى)، والفلح: الفوز بما يغتبط به، وفيه صلاح الحال والبقاء والنجاة، الفلاح: النجاة والفوز. هذا ما في اللغة في مادة " الإفلاح " (6). ومن العجيب: أنه لا يوجد فيها ثلاثي مجرد منها يدل على الفلاح والفوز، بل جاءت " فلح " بمعنى شق، وفي المثل: " إن الحديد بالحديد يفلح "، أي يشق ويقطع، وفلح بفلان: مكر به، وبالرجل فلحا: نجش عليه. هذا أيضا بحسب اللغة وكتبها (7). وفي بعض التفاسير: فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه، وقد يستعمل في الفوز والبقاء، وهو أصله أيضا في اللغة. وقال بعضهم هو بمعنى الفوز وأصله الشق والقطع (8). وغير خفي: فساد اجتهادهم، فإن الفوز والنجاة ربما لا يحصلان بتحمل المصاعب، ولا معنى أساسا للاجتهاد بالنحو المزبور. فبالجملة: يظهر من كتب اللغة أن مادة " الفلاح " لا استعمال لها في الثلاثي، بل هي بمعنى الفوز تجئ في الرباعي المزيد، فيكون الفلاح اسما من الإفلاح، أو يقال: إنه لم يستعمل الإفلاح، بل يجوز أن يكون الأمر هكذا: أفلح يفلح فلاحا، فتدبر تعرف.

المسألة الثالثة: معنى هيئة باب الإفعال هيئة باب الإفعال وإن تأتي للتعدية حسب الأصل، ولكنها تأتي لمعان اخر مر تفصيلها فيما سبق (9)، ومن معانيها أنها تأتي لازمة، كأبان وأضاء وأنار، ومنها " أفلح "، وقد تأتي لصيرورة الفعل لازما وللمطاوعة، كقوله: كب فأكب وعرض فأعرض. وغير خفي: أن في حدود وضع الهيئات الاشتقاقية، خلافا طويل الذيل ودقيق المسلك والمشرب، ومختلف الأقوال والآراء، وسيمر عليك في بعض البحوث المناسبة حقيقة الأمر في هذه المسألة، التي قد خفيت على أرباب الفن وعلماء الأصول إن شاء الله تعالى.


1- البقرة: الآية 1، اللغة والصرف، المسألة الأولى.

2- الإسراء (17): 36.

3- راجع البحر المحيط 1: 43.

4- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 181.

5- الجامع لأحكام القرآن 1: 181.

6- أقرب الموارد 2: 941.

7- نفس المصدر.

8- الجامع لأحكام القرآن 1: 182.

9- راجع إلى الفاتحة: الآية 7، اللغة والصرف، المسألة الثانية.