التفسير والتأويل على المسالك المختلفة

فعلى المسلك الأخباري: (يؤمنون بما أنزل إليك) يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (وما أنزل قبلك) على الأنبياء الصالحين، كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، (وبالآخرة هم يوقنون)، ولا يشكون فيها أنها الدار التي فيها جزاء الأعمال الصالحة بأفضل مما عملوا وعقاب الأعمال السيئة بمثل ما كسبوه (1). وقريب منه: أنهم (بالآخرة) والرجعة (يوقنون)، ففي " تفسير العياشي " عن الباقر (عليه السلام)، أنه قال: " في قوله تعالى: (الذين لا يؤمنون بالآخرة) يعني لا يؤمنون بالرجعة أنها حق " (2). وعن " الكافي "، عن الصادق (عليه السلام)، قال: " في قوله تعالى: (وماله في الآخرة من نصيب) ليس له في دولة الحق مع القائم نصيب " (3). أقول: ما في " تفسير مرآة الأنوار " لأبي الحسن العاملي من تخيل: أن الآخرة في الكتاب الإلهي كناية عن هذه المفاهيم (4)، في غاية الوهن، فلو صح ما تخيله، فهو في آية خاصة وسورة معينة، ولا دليل من الأخبار على أن تأويل الآخرة في جميع الآيات يكون الرجعة، أو الأئمة (عليهم السلام)، كما في قوله تعالى: (ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون) " يعني هم بالأئمة الآخرين كافرون " (5)، هكذا عن " الكافي "، عن أبان بن تغلب، عنه (عليه السلام)، فليراجع (6).

وعلى مسالك أرباب التفسير: (الذين يؤمنون بما أنزل إليك)، أي يصدقون بما جئت به من الله وما جاء به (من قبلك) من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوا به من ربهم، (وبالآخرة هم يوقنون) وبالبعث وغيره من شؤون الآخرة، يصدقون. هكذا عن ابن عباس (7)، ولا خلاف ظاهرا عندهم في أصل هذه الآية الكريمة معنى، وإنما الخلاف بينهم في المراد من الموصوفين بها في هذه الآية، هل هم الموصوفون بما تقدم، أم غيرهم؟على ثلاثة أقوال، وقد أشرنا إلى الخلاف وإلى ما هو الحق في الآيات السابقة. والنتيجة: أن الكفار على نوعين: كافر ومنافق، والمؤمنين أيضا على صنفين: كتابي وعربي، وهذه الكريمة مخصوصة بالمؤمنين الكتابيين، اختاره ابن جرير تبعا للسدي، تابعا لابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة، ويؤيدهم بعض أخبارهم (8). وقد علمت فيما سبق - وفاقا لبعض منهم - عموم الكتاب والآية. وقريب منه: (يؤمنون بما أنزل إليك) وهو غير منزل على من قبلك من الرسل، (وبالآخرة هم يوقنون)، أي في أخيرة الأمر واخر المدح والقصة إنهم هم الموقنون بالكتاب، أي بالنتيجة يوقنون بما انزل إليك. وقريب منه: (يؤمنون بما أنزل إليك) في المدينة، (وما أنزل) إليك قبل حلولك فيها وأنت في مكة، أو في الطريق إلى المدينة، (وبالآخرة) أي بما ينزل إليك بعد ذلك من أخريات النازلات (يوقنون) ولا يكونون كمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض، بل المتقون والمؤمنون هم الموقنون بجميع ما انزل إليك من غير إلحاد ببعض وإيمان ببعض آخر. والله العالم.

وعلى مسلك الفقيه: (يؤمنون بما أنزل إليك) من القرآن (وما أنزل من) التوراة والإنجيل، مقابل الكافرين بأصل الإنزال وأصل نزول القرآن، فالآية ليست في مقام إفادة الإيمان بجميع ما نزل وينزل، بل هي من هذه الجهة مهملة. (وبالآخرة هم يوقنون) ويؤمنون ولا يشكون فيها وفي يوم القيامة، لأن الآخرة: إما ذات وضع تخصصي ليوم القيامة، أو منصرفة إليه في الكتاب والسنة والأدعية.

وعلى مسلك الحكيم: (يؤمنون بما أنزل إليك) إيمانا يلازم الإيمان ب? (ما أنزل من قبلك) عليك من الكتب السماوية، فإن الإنسان الكامل هي الصورة الأخيرة الإنسانية، فيكون جميع ما انزل من قبله (صلى الله عليه وآله وسلم) نازلا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في السر، ولأجل ذلك قال: (يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) بغير إعادة الجار، ومن غير إفادة أن (ما أنزل من قبلك) نازل على غيرك من الرسل، فيكون في الآية إشعار جدا بوحدة الإيمان (بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)، فإن القرآن هو الكتاب الأخير الجامع لكمالات سائر الكتب، وللصور التي بها تكون الكتب السماوية كتابا إلهيا، وهكذا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) جامع. وإلى هذه المائدة الملكوتية أشير في بعض الأحاديث: " كنت مع النبيين سرا، ومع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) جهرا " (9). والله العالم. (وبالآخرة) (يوقنون)، فإنها دار موجودة في قوس الصعود، ويصح الاعتقاد بها وعقد القلب عليها.

وقريب منه على مسلك فيلسوف إلهي: إنهم سيوقنون بالآخرة، لما مر أن وجودها تابع لوجود أهلها، فهم يؤمنون بالآخرة وبالمعاد، ولكن اليقين لا يحصل إلا بعد الحشر، لأن المعاينة تحصل بعد العود والرجوع، لما أنها ليست موجودة وراء وجود أهل الآخرة. وإلى هذه النكتة والبارقة العلمية أشير في الكتاب أحيانا بقوله: (يوقنون)، فخميرة اليقين - وهو الإيمان - حاصل بالمفهوم الكلي وأما حقيقة اليقين فتحصل بعد مفارقة الدار الدنيا، وبعد رفض جلباب البشرية وصيصة الناسوتية.

وعلى مسلك العارف: (يؤمنون بما أنزل إليك) من كل شئ، ولا يخص بالكتاب ولا بالحديث ولا بالتشريع، فيعم التكوين، (وما أنزل من قبلك) بالإيمان التحقيقي الشامل للأقسام الثلاثة، المستلزم للأعمال القلبية التي هي التحلية، وهي غرس القلب بالحكم والمعارف المنزلة في الكتب الإلهية، والعلوم المتعلقة بأحوال المبدأ والمعاد وأمور الآخرة، هكذا قيل: (وبالآخرة هم يوقنون) من غير أن يكونوا أهل الآخرة، لأنهم غير متزكين بأنحاء التزكيات، ولا متحلين بحلية الشهود والظهور بالبرزخية الكبرى، فيشتغلون في البرازخ الجزئية إلى القيامة الكبرى، (وبالآخرة) التي هي موجودة بعين وجود الدنيا - فإنها باطنها - (يوقنون) ولا يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، بل هم (بالآخرة هم يوقنون). وقريب منه: (الذين يؤمنون) لأجل الإنزال إليك، وبسبب النزول عليك أيها النبي الأمي العربي، و (يؤمنون) بالوحي والتنزيل الذي هو من الغيب الأعلى والحضرة الأحدية، لأجل أنك طرف الوحي، مع أنك إنسان (خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب). ترا ز كنگره ء عرش ميزنند صفير ندانمت كه در أين دامگه چه افتاده است (10) (وما أنزل من قبلك) على أمثالك من الناسوتيين. (وبالآخرة هم يوقنون) ولا يحصل لهم اليقين بغير الآخرة، ولا يرون غير الآخرة، ولا يعاينون الدنيا إلا أنها عين الآخرة حسب مقتضيات الأسماء والصفات، فإن كل يوم هو في شأن، فمن أسمائه تعالى هو " القابض " فكل آن يكون كل موجود في قبضته، ومن أسمائه تعالى " الباسط "، فكل موجود في كل آن في بسط يده تعالى، فالدنيا والآخرة متلازمتان، بل هما واحد، ومختلفتان بالاعتبار، فتارة ينظر إلى الظاهر فهي الدنيا، وأخرى إلى أن هذه السلسلة راجعة إلى الحق، فهي الآخرة. والله من ورائهم محيط.

وعلى مسلك الخبير البصير الحاكم بما في الضمير: إن جميع هذه المسالك والمشارب متخالفة حسب الحدود، ومتعانقة حسب المحدود، والكتاب الإلهي غير محدد، ولا السبيل إلى نيله مسدود، فعليك بالتأمل في هذه الطرق الشتى والسبل الكثيرة، حتى يحصل لك ما يتنور به القلب من القرآن، ويهتدي به الروح من الرحمن. إن قلت: ربما يكون بين المحتملات والمسالك تناقض وتناف بحيث لا يعقل جمعها ولا طريق إلى لفها. قلت: مما يخطر بالبال أن يقال: إن بعضا من القرآن صورة ظاهرة ونسج لطيف، انزل حتى يكون - لانسجام ألفاظه ولطف عبائره - معجزة خالدة، وليكون القارئ والناظر الفطن يلتقي به مقاصده ومرامه، فيكون ما يريده الإنسان - مثلا - حين الإلقاء والاقتباس هو معنى القرآن حقيقة، فهو لباس للحقائق حسب الأشخاص والظروف، فتأمل جيدا.


1- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 88.

2- راجع تفسير العياشي 2: 257.

3- راجع الكافي 1: 361 / 92، ونور الثقلين 4: 568 / 51.

4- راجع تفسير البرهان: 72.

5- راجع تفسير القمي 2: 262.

6- الحديث موجود في تفسير القمي بسند يشبه أسناد الكليني ولم يوجد في الكافي.

7- راجع الدر المنثور 1: 27.

8- راجع تفسير الطبري 1: 100 - 105.

9- انظر مدينة المعاجز، البحراني 1: 144، فإنا لم نعثر في غيره.

10- انظر ديوان حافظ مطلعه: بياكه قصرامل سخت سست بنيادست * بيار باده كه بنياد عمر بربادست.