الأخلاق والموعظة

يا أيها القارئ الكريم، ويا أيها الأخ الرؤوف الرحيم، قد حان وقت طلوع الحقيقة على قلبك لتكون نذيرا وبشيرا، وقد بلغ زمان ظهور الإيمان والإيقان حتى يتجلى فيك القرآن والفرقان، وعليك بعدما قرأت وخبرت بما في هذه الآيات والبينات، من الأسرار الإيمانية والرقائق الإيقانية، أن تسعى سعيك، وتجهد جهدك، حتى تكون من الموقنين، فإن في الأرض آيات للموقنين. فيا أخي وقرة عيني، ليس الإيقان مجرد التلفظ والإخطار بالبال، وليس هو العلم البرهاني والبناء العملي، بل اليقين - كما قال به الشيخ عبد الله الأنصاري - مركب الأخذ في الطريق، وهو غاية درجات العامة، وقيل: أول خطوة الخاصة، وهو على ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: علم اليقين، وهو قبول ما ظهر من الحق، وقبول ما غاب للحق، والوقوف على ما قام بالحق.

والثانية: عين اليقين، وهو الغنى بالاستدراك عن الاستدلال، وعن الخبر بالعيان، وخرق شهود حجاب العلم.

والدرجة الثالثة: حق اليقين، وهو إسفار صبح الكشف، ثم الخلاص من كلفة اليقين، ثم الفناء في حق اليقين (1). فإذا كان الإنسان المؤمن من الموقنين، فلا يخاف إلا من رب العالمين، ولا يفعل ولا يصنع إلا لله رب العرش المتين، ولا يتأمل ولا يتفكر ولا يأمل إلا غاية آمال العارفين. وبالجملة: كما سبق منا كرارا: لا تغتر بما في هذه الصحف والقراطيس، ولا تفتخر بالغور في الحقائق المفهومية والدقائق الإدراكية، فإن الفخر كل الفخر هو أن تهتدي بأنحاء الهدايات القرآنية وبأنواع الأنوار الفرقانية، حتى تستيقن بأنك لا شئ محضا، ويكون ذلك راسخا في روحك وملكة في قلبك، وتترنم بهذا الشعر: پس عدم گردم عدم چون ارغنون گويدم كانا إليه راجعون (2) وتقرأ في كل صباح ومساء هذه الكريمة: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) (3)، رزقني الله تعالى من هذا الكأس إن شاء الله تعالى. وقد ورد في أحاديثنا الشريفة: " أن أقل شئ أوتيتم اليقين " (4)، وهذا اليقين هو الذي قال الله في حقه: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) (5)، فإنه لا يحصل إلا بالمعاينة والمشاهدة من قريب بعين القلب، وحتى يسمع باذن الحقيقة صوت النزع، وهذا هو اليقين الذي إذا حصل في هذه النشأة يختل به النظام أحيانا، وقال الله تعالى في هذا اليقين: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) (6)، فهو قبل أن يموت قد عاين الحقيقة والآخرة وباطن الدنيا، وكان بذلك من الموقنين.

فيا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وحل بنا الظلم في السراء والضراء وفي الشدة والرخاء، وقد بلغنا من هذه السفرة نصب شديد وتعب كثير، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا، حتى نتمكن من أن نكون من الموقنين، وحتى نصل إلى فنائك وبابك، فارغين عن الظنون والأوهام، ومتحلين بحلية اليقين والإيمان، ولا نستدرج في الذين قال الله تعالى في حقهم: (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) (7)، بل ولا من الجبلة الذين قال في حقهم: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) (8) ولا من المنادين بقوله تعالى: (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) (9). فيا سيدنا ويا مولانا إنا توجهنا بك أن يجعلنا من الذين أنعم عليهم بنعمة اليقين حتى (لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين). فتحصل من هذه الآيات الشريفة: أن لليقين - مضافا إلى المراتب - الخاصة العجيبة، وهي رؤية الآخرة في الدنيا، ومشاهدة الغيب في الظاهرة، ومعاينة الحقائق حال الاقتران بالمجازات. والله العالم بأسراره.


1- راجع شرح منازل السائرين: 282 - 285.

2- راجع مثنوى معنوي: 576، دفتر سوم، بيت 3907.

3- فاطر (35): 15.

4- بحار الأنوار 67: 136 / 2 و 171 / 21.

5- الحجر (15): 99.

6- الأنعام (6): 75.

7- النساء (4): 157.

8- النمل (27): 14.

9- السجدة (32): 12.