العرفان وبعض بحوثه

البحث الأول: حول وجود الآخرة الإيقان بالآخرة والإذعان بالنشأة الثانية والأخيرة من غير توصيف الآخرة بشئ معلوم، إيماء إلى أن كل آن وفي كل شأن تكون الدنيا وتكون الآخرة، فإن الأشياء - حسب حركتها الذاتية، وحسب التجليات المستندة إلى مختلف الأسماء والصفات - تكون كل يوم في شأن، فقوله تعالى: (وبالآخرة هم يوقنون) من غير تقابل بينهما وبين الحد المعين من الدنيا، يكون في قوة الظهور في أن المتقين الموصوفين بتلك الأوصاف الجمالية والنعوت الكمالية، والمؤمنين المنعوتين بتلك الأوصاف الحسنة والمنزهين عن الرذائل السيئة، لا يكون رأيهم مقصورا على الآخرة الخاصة، بل متوجهون إلى الدار الآخرة وهم في كل آن فيها، فإن الآخرة في باطن الدنيا، وتكون مسيطرة على أهلها، وأهلها دائما فيها وناظرون إليها، وجميع الحقائق بلحاظ توجهها إلى الآخرة الأخيرة في القوس الصعودي في الآخرة، وبلحاظ التوجه إلى هذه السفينة وهذا المركب، تكون في الدنيا، بل هي عين الدنيا، كما تكون عين الآخرة، ولنعم ما أفاد: عارفان هر دمى دو عيد كنند عنكبوتان مگس قديد كنند

البحث الثاني: حول كون التقوى خالصا يستشم من الكريمة: (وبالآخرة هم يوقنون): أن المتقين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، من غير نظر إلى توابع هذا الإيمان من الحسنات الدنيوية والملكات الأخروية، ومن غير رياء وسمعة، بل تكون أعمالهم القلبية والقالبية خالصة عن جميع الأغراض والغايات الراجعة إلى أمورهم، ويؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك أيضا مخلصين وخالصة من شوب الكدورات الإمكانية ومن غير إشراب اللذائذ النفسانية، بل العقلانية، ولذلك يقول: (وبالآخرة هم يوقنون) لا للآخرة يعملون، ولا أنهم في الآخرة يحشرون، بل هم الموجودون الفارغون عن هذه الهوسات الظلمانية، وعن تلك الرذائل المادية. ولذلك ورد في أحاديثنا الشريفة: أن من المتقين والمؤمنين من يدعى إلى الجنة فلا يلتفت إليها، وفيها: " أن الجنة أشوق إلى سلمان من سلمان إليها " (1)، فإن سلمان قد جاوز حد المشتهيات النفسانية الدنيوية والأخروية، رزقنا الله تعالى. فعلى هذا المعنى يصح أن يقال بعد ذلك: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون).

البحث الثالث: كمال الإيمان بحصول اليقين في تقديم الجار والمجرور وإفادة حصر إيقانهم بالآخرة إشارة إلى أن تمام إيقان المتقين وكمال إيمان الموقنين بحصول اليقين بالآخرة، وكأنهم لا يتوجهون إلى غير دار الآخرة، لا يتوغلون إلا في العلم الإيقاني بالآخرة. وقيل: إشارة إلى أن هؤلاء الموصوفين بالأوصاف السابقة المختص بهم اليقين، ليس علمهم وإيقانهم إلا متعلقا بالآخرة، لأنهم جعلوا الآخرة نصب أعينهم وغاية همهم، فلا يلتفتون إلى غيرها حتى يتعلق يقينهم به، بخلاف غيرهم، فإنهم جعلوا الدنيا نصب أعينهم، ونبذوا الآخرة وراء ظهورهم، فلا تعلق لعلمهم النفساني بالآخرة، لأن علومهم مقصورة على الدنيا وعلى ما يلزم للعيش فيها، فهي نفسيات غير موقنة (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) (ذلك مبلغهم من العلم)، ولنعم ما أفيد بالفارسية: اندر أين سوراخ بنائي گرفت در خور سوراخ دانايى گرفت چون پى دانش نه بهرروشنى است همچو طالب علم دنياي دنى است طالب علم است بهر عام وخاص نى كه تا يابد از أين عالم خلاص همچو موشى هر طرف سوراخ كرد چونك نورش راند از در گشت سرد (2)

البحث الرابع: حول عموم الحشر فيما سبق منا تبين أن التقوى صفة عامة لجميع الأشياء، وأن كل شئ يصح توصيفه بالتقوى والتحرز عن التخلف عن الأوامر التشريعية والتكوينية، فإذا قالت السماوات والأرض: (أتينا طائعين) (3) فهو عين التقوى والتجنب عن الهوى بالخضوع والخشوع لدى المولى، وهذا الكتاب هدى للمتقين، والإتيان بصيغة الجمع المخصوصة بذوي العقول ليس للتغليب كما يعتقده العوام، بل هو لأجل ما تحرر وتكرر من ثبوت العلم المركب لكافة الوحدات الطبيعية (يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه) (4). وعلى هذا تكون الأوصاف المذكورة صفة المتقين من جميع الأنواع المادية والروحانية، بل كانت نعت الأسماء والصفات، ومن تلك الأوصاف أنهم بالآخرة يوقنون، وحيث تكون الآية في موقف يستشم منها أن الحشر ثابت للمتقين، فيعلم منها ثبوت الحشر لجميع المتقين من الأنواع المختلفة. نعم بناء على بعض التقاريب الماضية والتحارير السالفة، كانت الآية في موقف إفادة مدح الموقنين بالآخرة، سواء كانوا من المحشورين أو من غير المحشورين، وعلى التقدير الثاني سواء كان عدم حشرهم لعلو مقامهم، لما أنهم محشورون في عالم الأسماء والصفات بل والذوات، أو لعدم لياقتهم للحشر، فلتتدبر تعرف جدا. وغير خفي: أن ما هو جهة المدح هو الإيقان بالآخرة وبأصل المعاد والنشأة الثانية، وأما اختلاف الناس حسب الحشر وحسب المعتقدات، فهو لا يضر بذلك حسب هذه الكريمة الشريفة.

إفادة وكفاية

إن الدار الآخرة ليست أخيرة الحركات الاشتياقية، وليست منتهى سير أرباب الأسفار الروحانية، بل هي وسط الطريق، والتوصيف نسبي، أو أريد منه جميع النشآت المتأخرة الغيبية، كما أريد من قوله: (يؤمنون بالغيب) جميع النشآت والكينونات الغيبية المتقدمة، أو هو أعم، والله أعلم.


1- راجع عوالي اللآلي 4: 101 / 147، وروضة الواعظين 2: 282، وبحار الأنوار 22: 341 / 53.

2- راجع مثنوى، دفتر دوم، بيت 2 - 2430.

3- فصلت (41): 11.

4- النور (24): 41.