الحكمة ومباحث فلسفية

المسألة الأولى: حول صدور الكثير عن الواحد اختلفوا في صدور الكثير عن الواحد وعدمه على أقوال وآراء، تفصيلها في المفصلات (1). وإجماله: اتفاقهم على امتناع صدور الكثير عن الواحد بالوحدة الحقة الحقيقية الأصيلية، فإنه لا يعقل صدور الكثير منه، ومن هو المتوحد بتلك الوحدة هو الواجب - عز اسمه - فلا يعقل صدور الكثير منه تعالى. هذا، وقد نطق الكتاب بخلاف هذه المقالة لقوله: (يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) (2) مع أن النازل كثير قطعا، والمنزل هو الله تعالى، وجبريل هو الواسطة بالضرورة، فيصدر الكثير منه تعالى، ويسقط الرأي السخيف المزبور. أقول: من استدل بهذه الآية لا يخلو عن الانحراف، فإن القرآن كثيرا ما ينسب النزول إلى ملك الوحي، قال في سورة الشعراء: (نزل به الروح الأمين على قلبك)، فربما كان في الإتيان به هنا مجهولا إشارة إلى صحة القاعدة المزبورة. هذا، ولا معنى للتمسك بمثله، بل القرآن من أوله إلى آخره يسند الأفعال الكثيرة إليه تعالى، فلو كان الاستدلال المزبور صحيحا لصح هذا، وحيث إن المحرر في محله: أن الحقائق الحكمية والدقائق العلمية، لا تقتنص من الإطلاقات اللغوية، ولا من الدلالات الوضعية، فلا معنى للغور في رد المسائل الفلسفية إلا في صورة عدم قيام البراهين العقلية القطعية، وكأنه يتمسك الأخباري بالأخبار والآثار على جواز اجتماع النقيضين، فكما أنه ليس من الاستدلال المفيد، كذلك الأمر هنا، فلابد من إقامة البراهين على وجوب صدور الكثير، أو رفض البراهين القائمة على امتناعه، حتى يمكن التمسك بالظواهر على فرض حجيتها في هذه المراحل، فلا تخلط.

المسألة الثانية: في كيفية النزول وإنزال الكتب والوحي وقد تعرض له صدر المتألهين بما لا يرجع عندنا إلى محصل (3)، ونحن - بحمد الله وله الشكر - نوافي حقه في المناسبات الآتية - إن شاء الله تعالى - لأن الآية ليست في مقام بيانه، وقد أحطت خبرا بأن ديدننا على الاختصار بحدود ما تدل عليه الآية بإحدى الدلالات الوضعية، وإلا لخرج الكتاب عن إمكان أن يتحمله الأنام والأنعام، وليعذرني إخواني الصالحون عن إفادة المطالب والمسائل على وجه الإشارة والإيماء، كما نعتذر منهم إن حصل التكرار أحيانا، لما في تكرارنا من التجلي إن شاء الله وبعونه تعالى.

المسألة الثالثة: اختلفوا في كيفية اتصافه تعالى بصفة الكلام فاستدلت المعتزلة بهذه الآية وجميع الآيات المشابهة لها، على حدوث الكلام، فقوله: (يؤمنون بما أنزل إليك) دليل حدوث القرآن، خلافا للأشاعرة القائلين بالقدم إلا أنهم لعدم تمكنهم من الوصول إلى مغزى الحقائق ومخ المطالب، قالوا: بأنه تعالى يوصف بالكلام النفسي، وهو واحد من القدماء الثمانية، فاعتبروا وراء الكتاب والكلام اللفظي كلاما آخر يسمى نفسيا (4)، كما مضى في ذيل بعض بحوث فاتحة الكتاب. والذي عليه أبناء الإمامية وعلماء الفرقة الناجية: أن كل شئ يعد من الصفات الكمالية لأصل الوجود ثابت له تعالى إلا أن كلام كل شئ بحسبه، ولا معنى لكون الحق الأول متكلما كمتكلمية سائر الناس، فهو تعالى متكلم بالكلام المعرب عن تلك الحقيقة، والمظهر للماهيات والأعيان الثابتة (5)، كما قيل بالفارسية: بجان آنكه جانش در تجلى است همه عالم كتاب حق تعالى است (6) فبالجملة: في الإتيان بصيغة الماضي المجهول، إيماء إلى أن النظر إلى كيفية الانتساب وإلى كيفية المنزل، مخصوص بطائفة خاصة، ولا يجوز لكل أحد الورود عليه، فالآية الشريفة دليل حدوث هذا الكلام المسموع المقروء، خلافا لمن يتوهم قدم مثله، كما نسب إلى بعض الأرذلين من المتكلمين (7). وبالجملة: إن أراد المعتزلة بأنه تعالى متكلم بتلك الأصوات والحروف المتصرفة المتبدلة، فهو إلى الجنون أقرب. وقريب منه ما يتوهمه الأشاعرة: من أن الكلام النفسي - الزائد على ذاته تعالى، ويعد من القدماء الثمانية - منشأ اتصافه تعالى بالتكلم. والذي هو الموافق للبرهان والكشف والعرفان: هو أن ظله المنبسط على رؤوس الماهيات الإمكانية، وعرشه المستولي على الحقائق الظلمانية، ونوره المظهر للأعيان الثابتة، هو كلامه تعالى (8). همه عالم صداى نغمه ء اوست كه شنيد أين چنين صداى دراز (9)

المسألة الرابعة: حول إنزال الكتب على الحقيقة المحمدية مقتضى الأسلوب أن تكون الآية هكذا: " يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك على رسله " وعلى هذا يخطر بالبال ما يؤيده الحديث المعروف: " كنت مع النبيين سرا، ومع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جهرا " (10)، وهو أن الحقيقة الكاملة المتجلية بأنواع التجليات، هي الحقيقة المحمدية العليا والعلوية البيضاء الظاهرة في المظاهر المتأخرة المتقيدة، والمظهر للظاهر الأزلي الأبدي السرمد، فيكون جميع الكتب السماوية نازلة على تلك الحقيقة الولوية. ويؤيد هذه المقالة العرفانية وتلك البارقة الملكوتية، الآثار الكثيرة والأخبار غير اليسيرة، ربما يأتي لمناسبات اخر مزيد بيان حولها. ثم إن مقتضى إطلاق قوله تعالى: (يؤمنون بما أنزل إليك) هو الإيمان بجميع ما يتنزل عليه من التكوين والتشريع، فإن الصور الكمالية تنطبع في المواد بعد النزول على الإنسان الكامل، الذي به يخرج الله تعالى القوى والاستعدادات من النقص إلى الكمال، ومن الظلمات إلى النور، فلا يكون ما انزل إليه مقصورا على الكتب التدوينية والأحكام الشرعية، وإلى هذه القاعدة العلمية المشفوعة بكشف أرباب اليقين وأصحاب الإيمان يشير كثير من الأحاديث ومنها ما في الزيارة المعروفة: " إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم، وتصدر من بيوتكم " (11)، والله هو الهادي إلى الصراط السوي.

المسألة الخامسة: حول وجود الجنة والنار ظاهر الآية الشريفة والأخبار المعراجية (12): أن الدار الآخرة موجودة بالفعل، وأن المتقين كما يؤمنون بالغيب وهو موجود بالفعل، ويؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك، وهو الموجود بالفعل، كذلك هم موقنون بالآخرة، وهي الموجودة بالفعل في النشآت الغيبية مثلا، وهذا هو مقتضى كون " الآخرة " لفظة موضوعة للمعنى الخارجي كالدنيا، فلابد من أمر يكون حذاءها، وهذا خلاف ما ساقه أهل البرهان: من أن الآخرة والبرزخ والدنيا ليست ظرفا موجودا، بل هي كلها من توابع أهل الدنيا، فلو لم تكن الأجسام كلا فلا يكون شئ يسمى بالدنيا، وهكذا إذا لم يكن في البرزخ موجود برزخي لا يكون للبرزخ مسمى خارجي، بل البرزخ من توابع الموجودين المتحركين من الشهادة إلى الغيب، ولا شئ وراء هؤلاء الأشخاص وملكاتهم وتوابع ملكاتهم، وهكذا الآخرة، فإنها ليست شئ وراء أرباب المعاد والحشر، وأصحاب البعث والنشور، وتجسمات أعمالهم الحسنة والسيئة، وملكاتهم الفاضلة والرذيلة.

أقول: وبعبارة أخرى: الجنة والنار إن كانتا في قوس النزول، فلا معنى لرجوع أهل الدنيا إليها، للزوم انقطاع السير والتداخل في القوسين، وقد قال الله تعالى: (إنا لله وإنا إليه راجعون) (13)، وإن كانتا في قوس الصعود فلا حقيقة لهما إلا تبعا لحقيقة أهل الجنة والنار، ولأجل أمثال هذه البراهين ذهب كثير من الفضلاء إلى إنكار الجنة والنار الخارجيتين. والذي هو الحق: أن الالتزام بالجمع بين الجنتين والجهنمين المتصلين والمنفصلين ممكن، لأن طريق كيفية حصول الكثرة العقلانية النورانية والكثرة البرزخية المقدارية والكثرة المادية الظلمانية ليس ما أفاد علماء المشاء والإشراق (14)، بل الحق في هذه الورطة مع أرباب اليقين والعرفان وأصحاب الكشف والإيمان، بتفصيل يأتي في بعض المناسبات إن شاء الله تعالى. وعلى ما شرحناه في قواعدنا الحكمية لا منع من تحقق الجنة والنار في الغيب، بظهور الأسماء المقتضية لهما ورجوع أهل الدنيا والمادة إليهما، على وجه مبين في محله ومقرر في مقامه، ولا يسعني الآن أن ندخل في توضيحه، والله العالم بالأسرار والخفيات، وإلى هذه المائدة العرفانية والمأدبة الملكوتية الإيمانية يشير قوله تعالى: (وبالآخرة هم يوقنون) فتأمل.

المسألة السادسة: حول تسمية المعاد بالآخرة يستظهر من توصيف المعاد بالآخرة، أو من التكني عنها بلفظة " الآخرة ": أن الدار الآخرة والنشأة الآتية متأخرة في الوجود، وهذه النشأة متقدمة عليها تقدما تكوينيا، وربما يعبر عن هذه النشأة بالدار الأولى مقابل الآخرة، وهذا يناسب أيضا قول من يقول لا خارجية لها وراء خارجية أهل الآخرة، فإن المتأخر وجودا تكوينا معلول المتقدم، وكيف يعقل أن يكون الفيض نازلا إلى المادة أولا ثم إلى المجرد ثانيا، ولا يكون الدار الآخرة متحصلة من هذه الدار لأجل أن أهلها يسيرون ويمرون عليها ؟! اللهم إلا أن يقال: إن التوصيف بالآخرة لأجل تأخر نزول أهلها إليها، فإنهم ينزلون أولا إلى هذه النشأة، ثم إلى تلك النشأة، فافهم وتدبر، وهنا بعض دقائق اخر يأتي تفصيلها في المناسبات الاخر إن شاء الله تعالى.


1- راجع الأسفار 2: 204 - 210 و 7: 204 - 244، والقبسات: 351 - 367، وشوارق الإلهام 1: 206 - 215.

2- الشعراء (26): 193 - 194.

3- تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 1: 268 - 275.

4- راجع كشف المراد: 289، وشرح المقاصد 4: 143 - 163، وشرح المواقف 8: 91 - 104.

5- راجع الأسفار 7: 2 - 13، وشرح المنظومة (قسم الفلسفة): 181 - 184.

6- راجع گلشن راز: 733 قاعده 2، واصله: به نزد آنكه.

7- شرح المقاصد 4: 144، شرح المواقف 8: 92.

8- راجع الأسفار 7: 2 - 13، وشرح المنظومة (قسم الفلسفة): 181 - 184.

9- البيت لفخر الدين الهمداني المتخلص بالعراقي ومطلعه: عشق در پرده مى نوازد ساز * عاشقي كو كه بشنود آواز *.

10- لاحظ مدينة المعاجز، البحراني 1: 144، فإنا لم نجد غيره.

11- راجع كامل الزيارات: 200، وبحار الأنوار 98: 153 / 3.

12- راجع أخبار المعراج إلى علم اليقين 1: 489 - 520، وبحار الأنوار 18: 291 - 410.

13- البقرة (2): 156.

14- راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 528 - 538، وشرح الإشارات 3: 243 - 263، وحكمة الإشراق، ضمن " مجموعة مصنفات شيخ إشراق " 2: 125 - 149.