بعض المسائل الأصولية

اختلفوا في أن تارك طريقي الاجتهاد والتقليد يصح عمله أم لا؟فعن جمع بطلان العمل الاحتياطي، لمفاسد كثيرة ذكرناها تفصيلا في الأصول (1) وفي مباحث التقليد من الفقه (2)، وذكرنا هناك: أنها لا ترجع إلى محصل وفاقا لجل المحققين، واختلفت كلماتهم وكلمات الأخباريين في جواز التقليد وعدمه (3)، فذهبوا إلى بطلان التقليد، نظرا إلى عدم الدليل عليه، بل يجب على كل أحد تعلم الأحكام الإلهية، والرجوع إلى الكتاب والسنة، إلا بعضا منهم، نظرا إلى لزوم الاختلال في النظام، مع أنه من الحرج المنفي بالكتاب، وهذا هو رأي الأصوليين قاطبة، ويرخصون التقليد لكل أحد، بل الظاهر جوازه حتى للمقتدر على الاستنباط، كما عليه بعض المعاصرين على المحكي عنه. إذا تبين ذلك الإجمال فإليك قوله تعالى: (يؤمنون بما أنزل إليك) الملازم طبعا للإيمان بما انزل من قبلك، والإيمان بما انزل إليك من الأحكام، سواء كانت في القرآن أو في غيره من السنة، فإنه أيضا نازل إليه، فإنه لا ينطق عن الهوى (إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى) (4)، فلابد من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا شبهة في أن الإيمان ليس بنفسه مطلوبا، ولا سيما في العلوم والأحكام العملية، فهو مطلوب لأجل العمل، ولا يعقل العمل إلا بعد العلم التفصيلي بالأحكام النازلة والقوانين الجائية، فيبطل التقليد والاحتياط. أما الثاني فلأنه ليس من الإيمان قطعا.

وأما الأول فلأنه أيضا مثله، فالمقلد وإن كان عالما بالحكم، ولكنه لا يؤمن به إلا بعدما كان مطلعا عليه على وجهه المحرر، فإن العلم غير الإيمان كما صرحوا به. وبالجملة: الإيمان إذا عدي بالباء وإن كان معناه التصديق - كما عليه الأشاعرة والمعتزلة - ولكن لأجل ما ذكرناه تصير النتيجة: أن الإيمان بما انزل إليه يتعقبه العمل، والعمل لا يعقل إلا بعد العلم المقرون بالإيمان، فلابد من عقد القلب بما انزل إليه، وهو لا يحصل للمقلد ولا للمحتاط بالضرورة. ومن العجب أن الفخر توهم: أن الإيمان هاهنا وإن كان معناه التصديق بالاتفاق، لكن لابد من المعرفة معه، لأنه خرج مخرج المدح، ومع الشك لا يأمن أن يكون كاذبا، فهو إلى الذم أقرب (5). أقول: يتوجه عليه أن التصديق لا يجتمع مع الشك، لأنه صفة اليقين والعلم، فما ذكرناه في تحرير دلالة الآية أولى وأحسن. ثم إن الجواب عن الاستدلال المذكور تبين مما سبق، وقد مر المراد من الآية وبيان حدود دلالتها بما لا مزيد عليه. هذا، ولا دلالة للآية على وجوب كون كل مكلف مشمولا للآية ومندرجا تحتها، مع أنها في موقف تعديد صفة الأكملين وأصحاب الكشف واليقين، فلا يستنبط منها ما هو مرام الأخباريين في المسألة المزبورة.

إفادة

ربما يخطر بالبال أن يقال: إن الإيمان بما انزل من قبله، يستلزم تصديقه عند الشك في ثبوت نزول القرآن، وتصير النتيجة تمامية حجة اليهود والنصارى على المسلم، لأنه معتقد بما يعتقدونه، وهم شاكون فيما يدعيه المسلم، ولا يجوز رفض اليقين بالشك، وقد ورد في بعض المباحثات المأثورة هذه القصة، وذكرها أصحابنا الأصوليون في مسألة استصحاب الأحكام السابقة، وتفصيله في محله (6). وإجماله: أن المسلم لا يعتقد بالكتب السماوية السابقة إلا لأجل تصديق القرآن، فلا يقين بالأحكام السابقة مع الشك في نزوله، ومع اليقين بنزوله لا يقين بحجية ما سبق، بل ينقلب يقينه، وإلى هذه الفائدة يشير الكتاب حسب ما حررناه في وجه تقديم ما انزل إليه على ما انزل من قبله، فليتدبر ويتأمل.


1- راجع تحريرات في الأصول 7: 223 - 228.

2- لم نعثر على كتاب المبسوط في مباحث التقليد من المصنف (قدس سره).

3- انظر الفوائد المدنية، الأستر آبادي: 40.

4- النجم (53): 3 - 5.

5- راجع التفسير الكبير 2: 32.

6- راجع فرائد الأصول: 672.