الفقه وبعض مسائله

قال الفخر: الإيمان بما انزل إليه واجب، لأنه قال في آخره: (وأولئك هم المفلحون)، وإذا ثبت وجوبه وجب تحصيل العلم به تفصيلا، لأنه لا يمكن القيام بما أوجبه الله عليه إلا بعد العلم به تفصيلا إلا أن تحصيله واجب على الكفاية، فإن تحصيل العلم بالشرائع النازلة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) على سبيل التفصيل غير واجب على العامة. وأما قوله: (وما أنزل من قبلك) فالمراد به ما انزل على الأنبياء السابقين، والإيمان به واجب على الجملة (1). انتهى ملخصه. وعن الدواني: يجب على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية، بحيث يتمكن معه من إزالة الشبه وإلزام المعاندين (2).

وذكر الفقهاء: أنه لابد أن يكون في كل حد من مسافة القصر شخص متصف بهذه الصفة، ويجعل منصوبا للذب ويفي به، ويحرم على الإمام إخلاؤها من ذلك، كما يحرم إخلاؤها عن العالم بالأحكام التي يحتاج إليها العامة (3).

وقيل: لابد من شخص كذلك في كل إقليم، وقيل: يكفي وجوده في جميع البلاد المعمورة الإسلامية (4). أقول: قد عرفت فيما مضى أن مقتضى النظر الدقيق الفقهي، عدم دلالة هذه الآيات على شئ من الأحكام الشرعية الإسلامية، فإن تلك الآيات في موقف المدح والتوصيف وبيان عظمة الكتاب العزيز، وأنه هاد لكل المتقين، والترغيب بالتقوى والهداية، والإرشاد إلى الإيمان بالغيب وأمثاله، من غير كونها بمنزلة الإيجاب الشرعي الفرعي. وغاية ما تدل عليه: أنه على تقدير استفادة لزوم الإيمان به وبما انزل إليه من قبله، هو أن القرآن بألفاظه وسائر الكتب السماوية بألفاظها، مما نزلت عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى الأنبياء السابقين، وأما الاعتقاد بصحة جميع ما فيها، وصدق جميع القصص والحكايات المنطوية فيها، فهو ولو كان لازما، ولكنه لا تدل عليه هذه الآية، فالبحث المزبور ساقط جدا. وربما يتوهم: أن الإيمان بالمجموع غير ممكن، لتنافي أحكامها وتناسخ بعضها بالبعض. وتصدوا للجواب بما لا يرجع إلى محصل (5)، وأنت - بعد ما اطلعت على الحق الذي لا مرية فيه - لقادر على ما هو جوابه، بل هذه الشبهة تؤيد ما ذكرناه، وهو أن اشتمال الكتب على الناسخ والمنسوخ فرضا، أو كون بعض الكتب ناسخا لبعض قطعا، دليل على أن الآية في المقام الذي شرحناه، ولا نعيده. هذا، مع أن الإيمان بالكتب السابقة - وإن كانت تنافيه - ممكن، لأن اختلاف أحكامها وتنافي سياساتها ناشئ عن اختلاف الأعصار والأزمان أو الأمصار والبلدان، فيكون كل حقا في محطه ومنزله.

إيقاظ وإيعاز

قد يقال - ولعله مقالة جمع من أرباب شواذ المسالك وأصحاب نوادر المذاهب -: إن القرآن وسائر الكتب الداعية إلى الحق والمنادية إلى الآخرة، ليست إلا تذكرة لأولي الألباب وذكرى لذوي العقول والدراية، وما كان شأنه على هذه المثابة، فلا يدور حول صدق القضايا والقصص والحكايات، بل نظره وفكرته الإرشاد والتنبيه بأي وجه أمكن، فلا شاهد على صدق ما في الكتاب العزيز، لأنه ليس كتاب تاريخ وضبط وقائع السنين الخالية، فهل تدل هذه الآية على بطلان مقالتهم وفساد رأيهم، أم لا؟وجهان. ظاهر القوم والمفسرين - كما عرفت في البحث السابق - هو الأول، لأن الإيمان به هو الإذعان بصدقه. والذي هو الأرجح هو الثاني، لما أشير إليه من أن الآيات في مقام مدح المؤمن بما انزل وانزل من قبل ولا يكون المنزل، ولا يقصد من قوله: (يؤمنون بما أنزل إليك) إلا الإيمان بالقرآن وأمثاله، وهو هذا الكتاب المدون من غير نظر إلى معانيه صدقا أو لا صدقا، بل الآية واقعة في مقابل من كان يكفر به وبالغيب، وكان لا يؤمن بالوحي والإنزال - من الكفار والمنافقين - كما تشهد لذلك الآيات الآتية المشتملة على حال الكفار والمنافقين.


1- التفسير الكبير 2: 32.

2- انظر روح المعاني 1: 114.

3- نفس المصدر.

4- نفس المصدر.

5- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 180.