البلاغة والمعاني

وهنا بحوث:

البحث الأول: حول الأوصاف المذكورة ولزوم التكرار قضية مراجعة الكتاب العزيز هو أن الآية الثانية عام، والثالثة والرابعة تابعتان للثانية، ولا يلزم التكرار، ولا تكون الثالثة أعم من الرابعة، ولا العكس، فقوله تعالى: (هدى للمتقين) معنى كلي عام، و (الذين يؤمنون بالغيب) أيضا عام يشمل جميع المعتقدين بالغيب، (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) أيضا عام، ولا تكرار بالضرورة لاختلاف المؤمن به، فإن الإيمان بالغيب أعظم من الإيمان بما انزل إليه، بل الإيمان بالغيب لازم أولا، حتى يتمكن الإنسان من الإيمان بما انزل إليه وما انزل من قبله، لأن ما هو النازل على الأنبياء كله من الغيب، وشاهد على الغيب، وناطق بالغيب. فما ترى من الخلاف الكثير في كتب التفسير حول هذه الكريمة وسابقتها، وأنه يلزم التكرار، أو يلزم ذكر الخاص بعد العام، لأن هذه الآية وردت ونزلت في مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا بكل وحي انزل من عند الله، أو يلزم ذكر العام بعد الخاص، لأن المراد من الغيب مخصوص بالنبوة الإسلامية، أو غير ذلك (1)، فكله خال عن التحقيق والتحصيل. ومثله توهم أن الإيمان الأول بالعقل والثاني بالنقل، أو أن الإيمانين مختلفان مرتبة... وهكذا (2).

ومما أشرنا إليه يظهر وجه تقديم (يؤمنون بالغيب) على الإيمان بما انزل إليه، لأنه بمنزلة السبب والعلة والأساس، وقد مضى شطر من الكلام حول الآية السابقة عموما وخصوصا، ومما ذكرناه: اختصاص تلك الآية الشريفة بالإيمان بوجود الحجة المنتظر - عجل الله تعالى فرجه - حذرا عن التكرار المتوهم في المقام. وبالجملة، لا إشكال عليهما من ناحية البلاغة وأن التكرار خلافها. ولو كان المراد من الغيب القرآن وما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى الغائبين عن عصر النزول، فلا يكون أيضا تكرارا، لأن الآية السابقة في مقام مدح الإيمان بالغيب، وهذه الآية في مقام تعيين ما هو المراد من الغيب، ولو كان تكرارا فلا يكون خلاف البلاغة، بل يؤكدها، كما لا يخفى.

البحث الثاني: حول إتيان " ما انزل " بصيغة الماضي ربما يتوهم أن في المقام خلاف البلاغة من جهة الإتيان بصيغة الماضي، ضرورة أن هذه الآيات في موقف مدح المتقين، والمتقون المهتدون هم المؤمنون بجميع ما انزل إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا بما انزل إليه حسب الظاهر منه، وهو المقدار الموجود النازل إلى عصر نزول البقرة، ففي المقام نوع قصور لا يناسبه الكلام الجائي من قبل الحق المتعال. وأجيب: تارة بأن التعبير بالماضي لأجل تغليب الموجود على ما لم يوجد، ولأنه إذا كان بعضه نازلا وبعضه منتظر النزول، جعل كأن كله قد نزل (3). ولا يخفى ما فيه من الخروج عن أدب القرآن وأدب الحق الباري عز اسمه وكلامه. وأخرى: بأن المراد هو الجميع، لاقتضاء السياق والسبق له، من ترتب الهدى والفلاح الكاملين عليه، ولوقوعه مقابل ما انزل من قبله، ولاقتضاء يؤمنون المنبئ عن الاستمرار، والجميع لم ينزل وقت تنزل الآية، والإتيان بالماضي للمشاكلة (4). ولا يخفى ما فيه مع أن المشاكلة صفة متأخرة عن الحقيقة، ولا يتقدم عليها. فلا تغفل. والذي هو الأقرب إلى أفق التحقيق - بعد الإقرار بأن الأفعال، ولا سيما صيغة الماضي مقرونة بالدلالة على الزمان الماضي، خلافا لكثير من الفضلاء والمحصلين من الأصوليين - أن هذه الكريمة بعد كونها في مقام المدح لا تكون قضية خارجية، ولا دالة على الأمر الخارجي، بل هي قضية صادقة بالنسبة إلى التلبسات في الزمان الآتي بعد التلبس به وبعد حصول ذلك الزمان، مثلا إذا نزلت بعد هذه السورة سورة، فلا شبهة في أنه يصدق عليها أنها نزلت عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويكون داخلا في قوله تعالى: (الذين يؤمنون بما أنزل إليك).

هذا بالنسبة إلى ما كان ينزل بعد ذلك، وبعد مضي الزمان عليه، وأما قبل النزول فربما لا يكون معلوما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فضلا عن غيره، فلا معنى للإيمان بما ينزل إليه بعد ذلك مع الجهل به. فبالجملة: لابد من الإتيان بصيغة الماضي، لأن جميع القرآن هو الذي نزل، ولا شئ وراءه، وربما كان لا ينزل واقعا بعد نزول السور السابقة. نعم لا شبهة في شمول هذه الآية للإيمان بنفسها حين النزول، ولكنه بدلالة أخرى غير دلالة صيغة الماضي. فتحصل حتى الآن: أن ما انزل إليه لا ينطبق إلا على السور السابقة، وأما نفس سورة البقرة فهي خارجة عنه وملتحقة به بدلالة أخرى، وأما سائر السور الآتية بعد ذلك فهي بعدما نزلت تندرج في مفاد الآية، لما أشير إليه أنها كالقضايا الحقيقية، ليست قضية خارجية، وأما قبل نزولها فلا معنى للإيمان بها، فما اشتهر من أن المراد هو الإيمان بكل القرآن، في غير محله.

البحث الثالث: حول (ما أنزل من قبلك) ربما يخطر بالبال أن يقال: إن الطبع كان على أن تنزل الآية هكذا: " والذين يؤمنون بما انزل إليك وما أنزلناه من قبلك "، لقوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون). وقال أبو حيان: وهو عندي من الالتفات، فخرج من المتكلم إلى الغائب (5). وفيه مالا يخفى، لأن البحث حول وجه الالتفات لو صح مثله، ومجرد كونه من الالتفات عنده لا يكفي لحمل الكلام الإلهي عليه. أقول: سيظهر سر الإتيان بصيغة المجهول في بحوث عقلية - إن شاء الله تعالى - فإن من الممكن أن يستدل بعض القاصرين بهذه الآية على أن حديث " امتناع صدور الكثير من الواحد " مما لا أصل له، نظرا إلى ما يتراءى منها من صدور الكتب الكثيرة منه تعالى.

البحث الرابع: في وجه تقديم (ما أنزل إليك) على (ما أنزل من قبلك) أنك قد عرفت فيما سبق: أن هذه الوجوه الاختراعية تقابل بالوجوه الاخر، ولا يصح الركون إليها باعتقاد أنه تعالى وتقدس - مراعيا لهذه الخواطر البالية والملحوظات الخاطئة - بادر إلى تقديم شئ وتأخير آخر. والذي هو الوجه الوحيد في جميع هذه المواقف، ولابد من رعايته، هو حسن التلقي ولطف السماع، وملاحظة الأوتار ومراعاة الرنمة والموسيقا. وبالجملة: يمكن أن يقال: إن الإيمان بما انزل من قبلك، ليس مطلوبا مستقلا، ولا ممدوحا على حدة، بل الإيمان بتلك الكتب النازلة فرع الإيمان بالقرآن، وإن الإيمان بهذا المنزل يلازم الإيمان بما انزل من قبله، لما صدقه وصرح به، ولأجل ذلك لم يكرر حرف الجار، بل قال: (يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)، نظرا إلى هذه الفائدة القطعية، والله العالم.

البحث الخامس: حول مقابلة (ما أنزل إليك) و (ما أنزل من قبلك) ربما يتوهم أن مقتضى الطبع أن تكون الآية هكذا: " الذين يؤمنون بما انزل إليك وما انزل لغيرك " حتى تقع المقابلة على وجهها، فإنه لا تقابل بين قوله تعالى: (إليك) وقوله: (من قبلك). هذا، مع أن في قوله: (من قبلك) نوع إجمال، لأنه كما يحتمل أن يراد من قبل وجودك وتكوينك، يحتمل أن يراد من قبل وجودك في المدينة، أي الذين يؤمنون بما انزل إليك في المدينة وما انزل إليك من قبل وجودك فيها، فتكون الكتب السماوية خارجة عن لزوم الإيمان به، كما يأتي في بحث فقهي في المسألة إن شاء الله تعالى. أقول: لا شبهة في أن مفهوم (ما أنزل إليك) صادق على ما انزل في مكة والمدينة، فيكون قرينة على أن المراد من قوله: (وما أنزل من قبلك) هو المعنى الأول، وعلى هذا تحصل المقابلة قهرا، لأن الجملة مقرونة بزمان الحال، أي (يؤمنون بما أنزل إليك) في هذا العصر وبعد تلك الفترة، ويؤمنون بما انزل سابقا عليك، وعليه يرتفع الإجمال أيضا.

البحث السادس: حول عدم الإتيان بالباء في (ما أنزل من قبلك) لأحد أن يسأل عن وجه عدم الإتيان بالباء الجارة في الجملة الثانية والإتيان بها في الجملة الثالثة، ولو كان " ما " الثانية موصولة كان يتعين ذلك عند جمع من النحاة، للزوم إعادة الجار. وقال أبو حيان: لم يعد حرف الجار في " ما " الثانية، ليدل على أنه إيمان واحد، إذ لو أعاد لأشعر بأنهما إيمانان (6). وأنت قد عرفت، أن في تقديم الإيمان بما انزل إليك إشعارا بأن الإيمان بما انزل من قبله من شعب الإيمان بما انزل إليه، بل هو عينه، وأما إذا كان يعيدها لما أمكن توهم أنها " ما " النافية وإذا لم يعد يتأكد هذا الاحتمال، أي يؤمنون بما انزل إليك، وما انزل، أي ما كان انزل القرآن من قبلك. والذي يسهل الخطب: أن حسن الكلام واقتضاء الطبع أورث ذلك بالضرورة، مع أن في الإتيان بالباء في الجملة الثالثة إفادة توكيد للإيمان والإيقان بالآخرة، فليتدبر.

البحث السابع: حول تركيب (وبالآخرة هم يوقنون) في تقديم الجار والمجرور في الجملة الأخيرة وفي الإتيان بضمير العماد، وهو قوله: (هم يوقنون) إشعار بأن الإيمان بالآخرة والإذعان بها، لا يحصل إلا لجملة خاصة من المؤمنين، فكأن الإيمان بالغيب والإيمان بما انزل إليه وما انزل من قبله، لا يكون من الأمور المهتم بها، وكأن الناس يؤمنون بالمبدأ حسب الفطرة، بخلاف المعاد ورجوع الأجساد بعد الفساد، فإنه يثقل على العقول هضمه، ويصعب على الأفكار تحمله. هذا، مع أن تلطيف العبائر بتوافق رؤوس الآي أيضا مما لا يكاد يخفى. وتأخير الإيمان بالآخرة عن الإيمان بالغيب، وعن الإيمان بالرسالة المطلقة والرسالة الخاصة، موجه حسب الطبع، فلا يحتاج إلى التوجيه، وهكذا تأخير الإيمان بالرسالتين عن الإيمان بالغيب، فلا تذهل. ثم إنك قد علمت أن الآخرة ليست صفة لشئ، بل هي اسم بالوضع التعيني للنشأة الآتية، فيسقط نزاعهم. ومن الممكن دعوى: أن الآخرة في مقابل الأولى، وهي أعم من البرزخ والقيامة، فقوله: (وبالآخرة هم يوقنون) أي بما يقابل الدنيا يوقنون ويذعنون. فما اشتهر: أن ما هو المحذوف الدار أو النشأة أو أمثالهما (7)، فهو في غير محله، بل المحذوف ما هو الأمر الجامع بينها وبين البرازخ وسائر العقبات. والله العالم بحقائق آياته.

تذنيب

ما هو الممدوح عليه هو الإيمان والإيقان بالآخرة، وهذا أعم من أن المؤمن بها يحشر فيها أم لا، فإن من الممكن أن يقول أحد بعدم ثبوت الحشر لكل أحد، كما عن بعض الأقدمين، خلافا للقطع واليقين والبرهان والقول الأمين. وبالجملة: لا تكون الآية دالة ولا ظاهرة في ذلك. نعم يمكن استفادته من كونها في موقف مدح المتقين المؤمنين الذين هم المفلحون، ولا معنى للفلاح إلا بثبوت العود لهم في دار البقاء، فليتأمل جيدا.


1- راجع الكشاف 1: 41 - 42، والتفسير الكبير 2: 31 - 32، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 18، وروح المعاني 1: 112.

2- أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 18، وروح المعاني 1: 112.

3- راجع الكشاف 1: 42، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 18، وروح المعاني 1: 113.

4- روح المعاني 1: 113.

5- البحر المحيط 1: 42 / السطر 14.

6- البحر المحيط 1: 42 / السطر 17.

7- راجع الكشاف 1: 43، والتفسير الكبير 2: 32، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 18، والبحر المحيط 1: 42 / السطر 18.