اللغة والصرف

الآية الرابعة من سورة البقرة: ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: حول كلمة " إنزال " قال في " القاموس ": النزول: الحلول (1). وفي " الأقرب ": نزل من علو إلى سفل، نزولا: انحدر. أنزل الشئ إنزالا ومنزلا: جعله نازلا كنزله، يقال: أنزل الله الغيث، وأنزل الكتاب والضيف: أحله وأقام نزله، والله الكلام: أوحى به (2). وفي " تاج العروس ": وهو في الأصل انحطاط من علو (3). وقال الراغب: النزول في الأصل هو انحطاط من علو، يقال: نزل عن دابته ونزل في مكان كذا: حط رحله فيه (4).

وفي كثير من الكتب التفسيرية: أن الإنزال هو الإيصال والإبلاغ، ولا يعتبر كونه من أعلى، لشهادة قوله تعالى: (فإذا نزل بساحتهم)، لأنه بمعنى وصل وحل (5). أقول: قد تقرر منا مرارا أن التصرف في اللغة - لأجل الفرار من المجاز والاستعارة والكناية - قبيح وناشئ عن الضعف، وغير موافق للتحقيق، لأن اللغات الموضوعة والمستعملة في القرى والبوادي، ليست لها إلا المعاني المناسبة لأفق المتعلمين والواضعين. وما اشتهر بين جماعة من أهل المكاشفة والحكمة: بأن الألفاظ موضوعة للمعاني العامة، خال عن التحصيل في حدود المقام وفي موقف الوضع والاستعمال، فالنزول ليس - بحسب اللغة - إلا الهبوط المادي والحلول الجسماني، وفيه اشرب معنى العلو، أي الحلول من الأعلى إلى الأسفل، والآية المستدل بها تدل على ذلك، لأن النزول بالساحة ربما يكون في مورد اعتبر العلو، كما لا يخفى. ودعوى: أن اللغة إما ساكتة عن اعتبار العلو، أو متعرضة لمطلق العلو من غير كونه علوا حسيا، غير ممنوعة، لأن الميزان هو المتفاهم العرفي من اللغة، مع الرجوع إلى عهد الوضع والاستعمال، العاري عن جميع الأمور المعنوية والخصوصيات الاخر، والاستعمالات القرآنية وغيرها الحادثة، كلها مبنيات على نوع توسعات وكنايات واستعارات ذوقية صحيحة ولطيفة جدا، فلا ينبغي الخلط بين اللغة والوضع وبين العقليات والروحانيات. ومما يشهد على اعتبار العلو الحسي أنه استعير للعلو الروحاني (نزل به الروح الأمين على قلبك) (6).

ثم إن ما ورد في " الأقرب ": من أن الإنزال بمعنى الوحي والإيحاء (7)، فهو كلام شعري لا حقيقة لغوية، لأنه انتقل إلى هذا المعنى من الاستعمالات الشرعية في الكتاب والسنة، غافلا عن ممنوعية الخلط بين الشرع والعرف. وما في كتب التفسير: من أن الإنزال هو الإبلاغ والإيصال، كلام ساقط، لأن النزول يتعدى بالباء والإبلاغ والإيصال يتعديان ب? " إلى "، وقد تقرر في محله لزوم اتحاد جهة التعدية إذا كانت الألفاظ مترادفة، فلا تخلط. إن قلت: قد ورد الإنزال بمعنى الإيصال في قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) (8)، وفي قوله تعالى: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج) (9). قلت:

أولا: ربما كان ذلك استعارة أيضا، لأن كل شئ عند الله تعالى خزائنه، فيكون جميع الماديات نازلة من الغيب العالي بالذات.

وثانيا: ربما كان في الآية الأولى إشعار إلى ما قيل في التاريخ: بأن الحديد جاء من الجنة التي كان أبونا آدم فيها وهبط منها (10)، وتلك الجنة كانت في المرتفعات. وأما الآية الثانية فيحتمل كونها بمعنى أنه تعالى أنزل من الآباء والأمهات، ومن الأنعام الأزواج الثمانية، فأبقى نسولها، ويحتمل فيها ما احتملناه في الأولى أيضا.

المسألة الثانية: حول الفرق بين الإنزال والتنزيل قد اشتهر بين النحاة وغيرهم: أن هيئة الفعل الماضي تدل على وقوع الحدث في الزمان الماضي، وخالفهم جل الأصوليين، وتوهموا: أن الهيئة لا تدل على أكثر من أصل الاتصاف، وكونه في أحد الأزمنة الثلاثة يستفاد من القرائن الأخر الحافة بالكلام (11)، حتى قيل: إن تعبير النحاة باقتران الفعل بأحد الأزمنة الثلاثة لإفادة خروج ذلك من الوضع والدلالة الوضعية، فهيئة (أنزل إليك) في المقام لا تدل على ما نزل إليك في الزمان الماضي، حتى لا تشمل ما ينزل بعد ذلك، ويكون مخصوصا بما نزل قبل سورة البقرة.

أقول: فيما أفادوه نظر، لأن المتفاهم العرفي من الأفعال الماضية وهيآتها هو الإخبار عن الاتصاف والصدور في الزمان السابق. نعم لا يدل على انتفاء الاتصاف حين الإخبار وفي زمان الحال، فإذا قيل: علم زيد أن عمرا جالس، فهو لا يدل على انتفاء علمه في الحال، بل يدل على أن حدوث العلم يكون قبل حال الإخبار والكلام، نعم لا شهادة لها على الماضي البعيد، فلا شهادة في قوله تعالى: (وما أنزل من قبلك) على عدم دلالة الهيئة على الزمان السابق، فإن التقييد بقوله: (من قبلك) يفيد الزمان السابق البعيد، فلا تخلط. فهيئة الماضي - على ما تقرر منا في الأصول - مقرونة بالوضع بالزمان السابق، بخلاف هيئة المضارع والحال (12)، كما مضى فيما سبق (13). ثم إنه قد اشتهر بين جماعة: توهم اختلاف هيئة الإنزال والتنزيل بحسب المعنى في مادة النزول، فقالوا: التنزيل تدريجي، والإنزال دفعي، هكذا عن أكثر الحواشي الكشافية والبيضاوية (14). وهذا وكل ما كان من هذا القبيل من الأقاويل ناشئ من الخلط بين المعاني اللغوية والاصطلاحية، وما هو المعنى اللغوي هنا واحد، لأن الوضع في الهيئات نوعي إلا ما شذ. وأما ما هو المعنى الاصطلاحي فلا يبعد دعوى: أن التنزيل في الكتاب الإلهي يكون في مورد يشير إلى إنزاله متفرقا منجما، والإنزال أعم. هكذا عن الراغب و " القاموس " (15) وغيرهما فقوله تعالى: (لولا نزلت سورة) (16) وقوله تعالى: (فإذا أنزلت سورة محكمة) (17) فإنما ذكر في الأول " نزل " وفي الثاني " انزل "، تنبيها على أن المنافقين يقترحون أن ينزل شيئا فشيئا من الحث على القتال ليتولوه، وإذا أمروا بذلك دفعة واحدة تحاشوا عنه فلم يفعلوه، فهم يقترحون الكثير ولا يفون إلا بالقليل. هذا، ولكن الوثوق بالفرق المزبور يحتاج إلى التدبر التام والتفحص الكامل، حتى يتبين الاصطلاح الخاص من الكتاب الإلهي. وأما أن هيئة باب التفعيل قد يجئ للتكثير، فهو كلام متين لا دليل على بطلانه، فيكون بين التنزيل والإنزال إمكان الفرق من هذه الجهة، ومجرد الإمكان لا يكفي. كما أن هيئة باب الإفعال قد تجئ للمبالغة، وهي في حد التكثير، فمثال الأول: قطعت الحبل، أي جعلته قطعا كثيرة، ومثال الثاني: أشغلته، أي بالغت في شغله.

المسألة الثالثة: حول كلمة " قبل " عن " الصحاح ": " قبل " نقيض " بعد " (18)، قال الله تعالى: (لله الامر من قبل ومن بعد) (19)، وعن " المحكم ": قبل عقيب بعد تأمل (20). ويستظهر من أهله: أن كلمة " قبل " ليست موضوعة للزمان السابق على التكلم وحال الكلام، بل هو لمعنى إضافي، فيصح أن يقال: ظهور الحجة - عجل الله تعالى فرجه - قبل القيامة، ومن الممكن دعوى: أنه من التوسع، والأمر سهل.

ثم إنه يستعمل في التقدم المتصل والمنفصل، كما في " المفردات "، وقيل: باختصاصه بالمتصل، ويضاده الدبر (21). والأقوى هو الأول. نعم لا يبعد انصرافه عند الإطلاق إلى الأزمنة القريبة، فإذا قيل: كان فلان قبلك في داري، فهو منصرف إلى المتصل أو المنفصل القريب، فلا يكون من المجاز قوله تعالى: (وما أنزل من قبلك)، لأن الموضوع له أعم، وهو يأتي ظرف زمان ومكان، ويستعمل في التقدم الرتبي والصناعي، ولكن ليس المعنى إلا واحدا. فما يظهر من " تاج العروس " من الخلاف في بعض تلك المعاني كالمكان وغيره (22)، فهو لقصور الباع وقلة الاطلاع، ضرورة أن مفهوم الزمان والمكان وغيرهما خارج عنه وضعا. وعلى هذا يتبين فساد ما في بعض كتب اللغة: من أنه ظرف زمان (23)، وهذا التقييد أوقعهم في الخلاف في سائر موارد الاستعمال. وبالجملة: هو معرب وإذا حذف المضاف إليه، ونوى معناه فقط دون لفظه، بني على الضم، وإذا نوي لفظه ومعناه أجريت بلا تنوين كأن المضاف إليه مذكور، وتعرب منونة إذا لم تضف، كقوله: وكنت قبلا. وفي المسألة بعض التفاصيل الاخر واختلافات شتى تأتي في المواقف المناسبة إن شاء الله تعالى.

المسألة الرابعة: حول كلمة " الآخرة " الآخرة مؤنث الآخر، وهو ضد الأول، قال الله تعالى: (هو الأول والاخر) (24). يقال: جاء آخرا، أي أخيرا، فهو وصف، وقد كثر استعمالها في النشأة الآتية والقيامة الكبرى، حتى اكتست لباس الحقيقة، فإذا قيل: نطالبك في الآخرة بكذا، فلا يتبادر منها إلا النشأة الثانية. وفي " الأقرب ": الأخرى أيضا دار البقاء كالآخرة (25). و " آخر " جمعه آخرون.

ثم إن الظاهر كونه بمعنى المتأخر إضافيا لا واقعيا وحقيقيا، كما مضى في كلمة " قبل "، واحتمال التوسع هنا أيضا غير مسدود، ويتوجه عليه ما ذكرناه في كلمة " قبل " من بعض الخصوصيات الأخر. ودعوى: أنها ضد " الدنيا " - حسب الحقيقة المكتسبة ثانيا - قريبة جدا، فهو في المعنى الأصلي ضد " الأول "، وفي المعنى الفرعي والثانوي ضد " الدنيا "، قال تعالى: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة) (26)، وقال: (لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) (27). وغير خفي: أن الاستعمالات القرآنية ليست حادثة في عصره حتى تكون منكرة، بل يستفاد من الكتاب العزيز: أن هذه المقابلة وتلك الحقيقة الثانوية طرأت وحدثت قبل القرآن، وكانت العرب تعرفها.

المسألة الخامسة: حول كلمة " يوقنون " يقن - من باب علم -: ثبت ووضح، فهو يقين، ويقن الأمر: علمه وتحققه. وقيل: ربما عبر عن الظن باليقين وباليقين عن الظن (28)، خلافا لما في الكتاب: (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) (29)، وأيقن الأمر وبه إيقانا علمه وتحققه، فهو موقن، وإنما صارت الياء واوا للضمة قبلها، وإذا صغرته رددته إلى الأصل، وقلت: مييقن، وهو يقن بالقاف المثلثة، واليقين إزاحة الشك (30). وفي الراغب: هو من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها. يقال: علم يقين، ولا يقال: معرفة يقين، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم، وقال: علم اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين (31). وقد عرف اليقين في الاصطلاح: اعتقاد الشئ بأنه كذا، مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا، مطابقا للواقع، غير ممكن الزوال.

والقيد الأول جنس يشمل سائر أخواته، والثاني يخرجه، والثالث يخرج الجهل المركب، والرابع يخرج اعتقاد المقلد المصيب ومن لا يترسخ العلم في نفسه، ولا يرتكز في ذهنه. واليقين عند أهل المعارف: رؤية العيان بقوة الإيمان، لا بالحجة والبرهان (32). وقيل: مشاهدة القلوب ما في غيب الغيوب وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار (33). وقيل: إن ما صرح به الفقهاء والصوفية وكثير من العلماء: أنه ما لا ينظر فيه إلى التجويز والشك، بل إلى غلبته على القلب حتى يقال فلان ضعيف اليقين بالموت، وقوي اليقين بإثبات الرزق (34). أقول: لا شبهة في مراتب الاعتقادات وعقد القلب، وفي مراتب العلم والمعرفة، مع قطع النظر عن اللغة. وأما بحسب اللغة: إن اليقين صفة الأمر الواضح والثابت والبين، فالآخرة يقين، أي واضح، وإذا قيل: (وهم بالآخرة هم يوقنون)، فمعناه على وجه أنهم يسندون الوضوح والثبوت إلى الآخرة، وكأنهم يرون الآخرة واضحة وعيانا ويقينا وظاهرا، فتأمل، والأمر بعد ذلك كله سهل التناول.


1- القاموس المحيط 4: 57.

2- أقرب الموارد 2: 1391.

3- تاج العروس 8: 133.

4- المفردات في غريب القرآن: 488.

5- انظر البحر المحيط 1: 41.

6- الشعراء (26): 193 - 194.

7- راجع أقرب الموارد 2: 1291.

8- الحديد (57): 25.

9- الزمر (39): 6.

10- انظر التفسير الكبير 29: 141، ومجمع البيان 9: 241.

11- كفاية الأصول: 40 - 41.

12- راجع تحريرات في الأصول 1: 363 وما بعدها.

13- راجع البقرة: الآية 3، اللغة والصرف، المسألة الثانية.

14- لم نعثر عليه.

15- المفردات في غريب القرآن: 489، القاموس المحيط: 1372.

16- محمد (47): 20.

17- محمد (47): 20.

18- راجع الصحاح 3: 1795.

19- الروم (21): 4.

20- تاج العروس 8: 69.

21- المفردات في غريب القرآن: 391.

22- انظر تاج العروس 8: 69.

23- راجع أقرب الموارد 2: 961.

24- الحديد (57): 3.

25- أقرب الموارد 1: 6.

26- البقرة (2): 86.

27- البقرة (2): 114.

28- أقرب الموارد 2: 1500.

29- الجاثية (45): 32.

30- أقرب الموارد 2: 1500.

31- المفردات في غريب القرآن: 552.

32- كتاب التعريفات، الجرجاني: 113، تاج العروس 9: 370 - 371.

33- نفس المصدر.

34- روح المعاني 1: 114.