التفسير والتأويل على مختلف المسالك والمشارب

فعلى مسلك الأخباريين: (يؤمنون بالغيب)، ويصدقون بالبعث والنشور والوعيد والحساب والجنة والنار وتوحيد الله تعالى (1). وقريب منه: أنهم (يؤمنون) بالحجة وينتظرون قيام القائم - عجل الله تعالى فرجه - ويؤمنون بذلك أنه حق (2) (ويقيمون الصلاة) بإتمام ركوعها وسجودها، وحفظ مواقيتها وحدودها، وصيانتها عما يفسدها وينقضها (3). وفي حديث الكراجكي: " نحن الصلاة " (4)، ويأتي في بعض المواقف الأخر حول كيفية كون الإنسان الكامل هي الصلاة والزكاة، كما في بعض الأخبار الأخر (5): (ومما رزقناهم ينفقون)، ومما علمناهم ينبئون، ومما علمناهم من القرآن يتلون، ومما علمناهم يبثون (6). وقريب منه: (ومما رزقناهم) - من الأموال والقوى في الأبدان والجاه والمقدار - (ينفقون) (7). وقد مضى أن مفاد هذه الأخبار لا يورث قصورا في حدود دلالات الآيات، بل ربما تقيد عمومها، فإن جلا من مفسري العامة، توهموا اختصاص الغيب بشئ خاص، أو اختصاص الإنفاق بالأموال، وهذه المآثير تدل على الأعمية، وتفتح باب التوسعة في الدلالة. ثم إن في أخبار المخالفين ما يرجع إلى اختلاف المفسرين منهم في ذلك، كما مضى في ضمن البحوث السابقة، وأن الاختصاص بالقرآن أو بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو غير ذلك، بلا وجه. وأسوأ حالا من ذلك كله توهم: أن قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) منسوخ بما جاء في سورة براءة لما يذكر فيها الصدقات (8)، بداهة أن مفاد هذه الآية ليس الوجوب حتى يخصص أو ينسخ، بل هي تفيد أصل المطلوبية، وهو باق بعد، وفي اشتمال الكتاب الإلهي على النسخ كلام يأتي في محاله إن شاء الله تعالى. وغير خفي: أن أقوال المفسرين - كابن عباس وغيره - لا تقاوم رواياتنا الصادرة عن أئمتنا المعصومين (عليهم السلام)، لأنهم أهل البيت، وهم أدرى بما فيه.

وعلى مسلك الفقيه الأصولي: إنهم (يؤمنون) إيمانا ما بغيب ما، ويأتون بالصلاة إجمالا، (ومما رزقناهم ينفقون). وبعبارة أخرى: هذه الآية في مقابل الكافر والمنافق، فإنهما لا يؤمنون بالغيب ولا يصلون ولا ينفقون، ولا يعطون الزكاة أو سائر حقوق الفقراء. وأما المتقون فهم المؤمنون بالغيب ويصلون ويعطون الزكاة، من غير كونها في مقام الإطلاق والعموم. نعم بناء على كون العمومات غير محتاجة إلى مقدمات الحكمة، يثبت العموم الأفرادي، وهو غير بعيد، وأما الإطلاق من سائر الجهات فلا يثبت بمثلها، ومن أجل الأخذ بالقدر المتيقن واقتضاء السياق لا يبعد دعوى تعين الجملة الأخيرة في الزكاة، لأن الآية - مضافا إلى عدم ثبوت الإطلاق - لها كأنها في موقف الإجمال، ولا شبهة في أن المنافقين والكفار ينفقون، ولا ينفقون الزكاة، فيكشف بذلك أن المقصود هي الزكاة. والله العالم. وإن شئت قلت: قد تضمنت سورة البقرة أحوال المؤمنين والكافرين والمنافقين في عدة آيات، وهذه الآيات ناظرة إلى حال المؤمنين في حذاء الكفار والمنافقين، فكما لا عموم في الآيات الآتية، وتكون قضايا طبيعية، وفي حكم المهملة، كذلك الأمر في هذه الآيات.

وعلى مسلك جمهور المفسرين المتأخرين: كالطبري (9) وغيره: أن الآية لها عموم ولا اختصاص لها بشئ خاص من المذكورات في كلمات القدماء منهم، كابن عباس وغيره مما مر في المباحث السابقة. وقريب منه: أنهم (يؤمنون) في غيابهم وحضورهم، أو يؤمنون ويتخذون الغيب والاعتقاد به أمنا ومأمنا، أي يصيرون في أمن لأجل الغيب أمنا من العقبات الآتية، ومن العقوبات في البرازخ والقيامة، (ويقيمون الصلاة) واجبة كانت أو مستحبة، ويديمونها ويداومون عليها، أو يعدلونها بتعديلات الشرع والعقل، ويواظبون عليها ويحافظون على أوقاتها، على اختلاف تعابيرهم في كتبهم التفسيرية. (ومما رزقناهم ينفقون)، زكاة كانت، أو نفقة العيال، واجبة كانت أو مستحبة أو غير ذلك، خلافا لبعض منهم ممن توهم الاختصاص هنا وفي ناحية الصلاة، كما مر.

وعلى مسلك الحكيم: (يؤمنون بالغيب) المطلق، جميع الملائكة والروحانيين وجميع الموجودات الأمرية، وجميع المؤمنين والمتقين من الجن والإنس، فإن ما هو الغيب على الإطلاق هي الذات الأحدية بالنسبة إلى كل أحد، بخلاف غيره تعالى، فإنه الغيب الإضافي والنسبي، وإيمان كل شئ بحسبه، فإن من الموجودات ما يكون الإيمان زائدا على ذاته، ومنهم ما هو الإيمان عين حقيقته الجوهرية النفسية أو الجوهرية العقلية، فيكون بتمام هويته مؤمنا بالغيب، ويكون هو الإيمان بالحمل الشائع، كما هو النور والعلم والقدرة، حسب ما تقرر في محاله. وإن شئت قلت: إن صفة الإيمان بالغيب حقيقة لهؤلاء الطائفة من الموجودات الأمرية، وقد مدح الكتاب العزيز المتقين على أن يكونوا أمثالهم، فيرغبهم في الاتصاف بصفتهم والتمثل بمثلاتهم العليا وخصوصيتهم الراقية، (ويقيمون الصلاة) على حسب إمكاناتهم واستعداداتهم، فإن الصلاة والعبودية من اللوازم العقلية لجميع الطوائف الشاعرة، (ويقيمون الصلاة) بالإتيان بها أو بالأمر بالإتيان بها، فإن من إقامة الصلاة إلزام الغير بها، فتكون الأمريات والموجودات الأمرية يأمرون بالصلاة، والموجودات الخلقية يأتون بها ويواظبون عليها، على حسب اطلاعهم على حدودها العقلية والشرعية. (ومما رزقناهم) - كمالا أوليا كان أو كمالا ثانويا - (ينفقون)، فيعطون الوجود للماهيات النازلة والوجودات المتأخرة عنهم رتبة، ويحفظونهم عن الهلكة والفناء بأمر الله وإذنه، وينفقون العلم والمال والجاه في استكمال استعداداتهم، وفي إخراجهم من القوة إلى الفعلية ومن النقص إلى الكمال، ويحركونهم بالحركات الطبعية والغريزية والذاتية والعرضية إلى جانب الآخرة، وإلى أفقهم المتهيئ لهم حسب التعيين الإلهي. وإن شئت قلت: إن المؤمنين بالغيب حقيقة هي الموجودات الأمرية، وإن على الناس - وعلى الموجودات المقترنة بالمواد والمصاحبة للهيولى والحركات - التشبه بهم والاهتداء بهديهم حتى يصلوا إليهم، ويقفوا عندهم، أو يعرجوا ويسافروا حتى ينزلوا في فناء الله تعالى.

وعلى مسلك العارف ومشرب الكاشف: (الذين يؤمنون بالغيب) ويقرون به بالألسنة الخمسة، ولا ينكرون سريان الحقيقة الغيبية في جميع المراحل والمراتب وجريان الوجود الغيبي في الأعيان الثابتة والماهيات الإمكانية، فلا يؤمنون بموجودية الغيب على نحو الإجمال والإهمال، بل يؤمنون بالغيب وبموجوديته الكلية، السارية في جميع النشآت الملكية والملكوتية والناسوتية والجبروتية، ويؤمنون بأن جميع الحركات الظاهرة والسكنات المشاهدة، مستندة إلى الغيب ومتدربة من ناحية الغيب، ويؤمنون بأن جميع الأشياء الكلية والجزئية، متقدرة بتقادير غيبية ومحكومة بقضاء غيبي، فيؤمنون بالغيب إيمانا ذاتيا وجوهريا وإيمانا قلبيا وصدريا، ويؤمنون بالإيمان الفعلي، فجميع الألسنة تقر وتؤمن بالغيب الكذائي، وتترنم: ما عدم هائيم هستى ها نما تو وجود مطلق وفانى نما (10) فهو غيب حسب التخيلات في اعتبار، وهو الغيب الحقيقي حسب المرتبة الخاصة، التي لا تنالها القلوب ولا الإدراك البشري، كما تحرر وتقرر. (ويقيمون الصلاة) جميع الموجودات وكل الذرات، لأن الحق أن كل موجود يشعر - بالإشعار المركب - بربه ويسبحه ويقدسه ويصلي له، فكل يؤمن بالغيب، وكل يعتقد بالاعتقادات العامة والخاصة، ويقر بالإقرار الذاتي والصفاتي والأفعالي. نطق آب ونطق خاك ونطق گل هست محسوس حواس أهل دل (11) وقد نطقت بذلك الآيات والروايات، ولا سيما في طائفة من أخبارنا تعيين السبحة المخصوصة لبعض الطيور (12)، ف? (يقيمون الصلاة)، وإنها الطريقة العامة في القيام بالعبودية لكل أحد، ولا يخص به الإنسان والجن أو الملائكة، (وإن من شي ء إلا يسبح بحمد ربه ولكن لا تفقهون تسبيحهم) (13)، (كل قد علم صلاته وتسبيحه) (14)، و (إن الله وملائكته يصلون على النبي) (15). (ومما رزقناهم ينفقون) ويعطون ويتصدون لتربية ما دونهم، فجميع الأسماء الإلهية الكلية والجزئية أولى بذلك، فينفقون ما يحتاج مظاهرهم في وصولهم إلى أربابهم وأسمائهم الخاصة بهم، ويأخذون بأيديهم ويحركونهم بالحركة العشقية الشوقية إلى أنفسهم، وذلك لما تحرر وتقرر: أن جميع الموجودات الأمرية والخلقية مظاهر الأسماء الإلهية، ولكل واحد من تلك الأشياء والأعيان الظاهرة اسم خاص في المملكة الربوبية، ويتربى كل ذي اسم نحو اسمه في تلك المملكة حتى يصل بعونه وقدرته إليه، ويحشر معه حسب الاقتضاءات المقررة الإلهية، فلا يختص الإنفاق بطائفة دون أخرى، بل الإنفاق عام وكل موجود مشغول بالإنفاق في سبيل هداية الغير. وربما يصل الإنفاق في ذلك السبيل إلى إنفاق وجوده، صيانة لوجود غيره في التكوين والتشريع، فينفق وجوده في الجهاد حفاظا على الأعراض ونفوس الناس، وهكذا في بقاء حياة المجتمع أو الفرد كلاءة له، كما في الموجودات الذرية، فإنها بإعدام أنفسها وبقاء ذواتها تبقى الذوات الاخر حية، ولعل إلى مثل هذه الخاصة العامة الشاملة يشير قوله تعالى: (خلق الموت والحياة) (16)، فإن بالموت والإنفاق تبقى الحياة، وتعيش الممكنات، ولمزيد بيان حول هذه المائدة الملكوتية موقف آخر يأتي لمناسبات اخر إن شاء الله تعالى.

وعلى مسلك الخبير ومشرب البصير: أنه لا اختلاف بين هذه المسالك التأويلية والمشارب التفسيرية، لأن الآيات القرآنية والكلمات الفرقانية لأجل انتهائها إلى الحقيقة الصمدية، تكون مصمودة ومملوة من الحقائق الغيبية والرقائق العرفانية والدقائق الحكمية والإيمانية، وتجمعها تحت مفهوم واحد، وتشملها باستعمال فارد من غير مجاز وتوسع، ومن غير لزوم استعمال الواحد في الكثير، بل تلك الرقائق والحقائق لما كانت من أصل واحد ذي مراتب كلية وجزئية، مندرجة في المعنى الوحداني والمفهوم الفرداني، يمكن أن يراد بالاستعمال الواحد الإلهي الصمداني. وإنما الاختلاف والتشتت من ناحية القوابل الإمكانية والمجالي الظلمانية، فكل يسلك سبيله ويهتدي بهداه حسب حاله واستعداده. هذا آخر ما تيسر لي ولكاتب هذه الرقوم والسطور الذي هو الأضل أعمالا، وضل سعيه وهو من الخاسرين. نعوذن بالله العلي العظيم.


1- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 67.

2- راجع تفسير البرهان 1: 53 / 4 و 5.

3- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 73.

4- راجع بحار الأنوار 24: 302 عن " كنز " وهذا رمز لكنز الفوائد للكراجكي وتأويل الآيات الظاهرة والحديث فيه: 21، لا في الكنز.

5- راجع تفسير البرهان 1: 53.

6- راجع تفسير القمي 1: 30، وتفسير العياشي 1: 26، ومعاني الأخبار: 23 / 2.

7- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام: 75، وتفسير الصافي: 21.

8- راجع الإتقان في علوم القرآن 3: 71، والدر المنثور 1: 27.

9- راجع تفسير الطبري 1: 105.

10- مثنوى معنوي، دفتر أول، بيت 602.

11- مثنوى معنوي، دفتر أول، بيت 3279.

12- راجع بحار الأنوار 61: 1، كتاب السماء والعالم، باب عموم أحوال الحيوان وأصنافها.

13- الإسراء (17): 44.

14- النور (24): 41.

15- الأحزاب (33): 56.

16- الملك (67): 2.