الأخلاق والآداب وبعض بحوث اجتماعية
اعلم يا أخي ويا قرة عيني أن اللازم على السالك في سبل الخيرات، والمسافر إلى الله بعين الحقيقة للتعين بالأسماء والصفات، أن يلاحظ الآيات بعين التدبر والتفكر، ويقرؤها على قلبه في نهاية الدقة والتأمل حتى يتوجه إلى مقاصد الكتاب، ويهتدي بهداه. وأن الأخذ في تبويب المسائل العلمية والشروع في ترتيب البحوث الفنية، ربما يكون من الأعمال الشيطانية ومن القوى النفسانية، الراجعة إلى الدنيا وكدورتها وإلى الطبيعة وباطنها، فيصير السالك فيها والمغامر في أبحارها هالكا وباقيا في العمى، (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) (1)، فلا تغتر بما في هذه الوريقات من الدقائق العلمية والحقائق العرفانية، فإن راقمها من القاطنين في سجون الطبيعة المظلمة، وكاتبها من المنغمرين في الشهوات الرذيلة اليونانية والشاماتية، بل تدبر في الكتاب الإلهي حتى تصير مظهرا له ومصاحبه، وتتجلى فيك صفاته وخصوصياته، حتى تنجو من المهالك الآتية، والعقبات التي تنتظرك من قريب وإن تظنها - نعوذن بالله - بعيدة. وتفكر في آياته، وانظر كيف يهديك في نهاية اللطف، وكيف يقوم بهدايتك في غاية الإعزاز والتكريم، فيقول في صورة الأدب (يؤمنون بالغيب)، أي هم إذا استشعروا يتوجهون إلى لزوم ذلك، من غير احتياجهم إلى الأمر فيؤمنون بالغيب، ويهذبون ذواتهم وفطرتهم المخمورة بالإيمان بالغيب، وبعقد القلب على تركيز الغيب في قلوبهم، ثم يقومون لترسيخ ذلك بإقامة الصلاة والأعمال البدنية، وتهذيب البدن ومزاجه الطبيعي بالصلاة، التي هي الحركات المعتدلة المناسبة للمحافظة على مزاجه وعلى صحته، فإن الصلاة مرقاة أهل القلوب، وميدان أرباب الصراع، فهي أس كل شئ إن قبلت قبل ما سواها، وإن ردت رد ما سواها.
ثم بعد الفراغ من التهذيبين - التهذيب الروحاني القلبي والتهذيب المادي البدني - يشرع في تهذيب غيره بإنفاق ما عنده، فإن رحى الاجتماع تدور عليهم، ومسؤولية عائلة البشر متوجهة إلى هؤلاء السالكين المهذبين، فعليهم تنظيم الأمور بمقدار الميسور، فينفقون ما عندهم حتى يتمكنوا من أن يعيشوا في ظل ذلك الإنفاق والإعطاء. فالأمر بالإنفاق من غير نظر إلى خصوصية في كيفية من كيفياته، ليس إلا لأجل أن الإنفاق - من كل شئ على كل شخص في كل حال وزمان - من الأمور الحياتية ومن المصالح الاجتماعية، التي بمراعاتها تبقى الحياة الفردية، ويحصل التهذيب الفرداني، ويتمكن الإنسان من القيام بالعيش الوحداني، فما ترى من العمومات والإطلاقات المختصة بهذه الكريمة - أي بقوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) - ليس إلا لأجل أهمية الإنفاق في أساس الاجتماع. وإنا إذا راجعنا وجداننا نجد أن الزكاة لا تختص بالأموال، كما تومئ إليه الأخبار والآثار، بل لكل شئ زكاة، فلابد من صرفه وإيصاله إلى محاله، حتى يبقى أصل الحياة وأساس التنميات، فهذه الآية الكريمة الشريفة تدعوك إلى رفض رذيلة البخل، وتناديك إلى الاتصاف بصفة السخاوة، والإعطاء في كل جانب من الجوانب الممكنة، فرب عالم يبخل في تعليم الناس، ورب سالك يبخل في هداية المتقين، ورب تاجر يبخل في إخراج حق الفقراء... وهكذا، غافلين عن أن ذلك المنع والامتناع يرجع إلى منع أنفسهم من الاستمتاعات المعنوية وحرمان نفوسهم من اللذائذ المادية والمعنوية، وذاهلين عن أن حقيقة السلوك والعلم هو القيام بالتجلي الفعلي الإلهي، فإن في تلك الجلوة جلوة الذات والصفات، كما تحرر. فعليك أيها الإنسان الكبير أن تبذل جهدك في عدم الاقتناع بالمفاهيم والفنون، وتجتهد في أن تعبر قنطرة المجاز إلى دار الحقيقة والشهود، وما يتيسر ذلك إلا بأن تصير مجلي لهذه الآية الكريمة، الجامعة لأنحاء السعادات الدنيوية والأخروية.
بحث وإرشاد
حول الإيمان والتصديق اعلم أن في رواياتنا ما يشتمل على بيان جنود العقل والجهل، وقد عد من جنود العقل الإيمان وضده الكفر، والتصديق وضده الجحود (2)، ولو كان الإيمان هو التصديق للزم التكرار، مع أن مقتضى ما تقرر فيما سلف هو أن الإيمان هو التصديق. أقول: الإيمان هو التصديق القلبي والتصديق هو الاعتقاد العقلي حسب الإدراك العلمي والبرهاني، وبينهما الفرق الواضح، فإن القلب مركز ظهور التصديقات العقلية البرهانية، ومهبط آثار الاعتقادات العلمية، فكم من عالم معتقد بمسائل كثيرة في العلوم، ولا يذوق قلبه منها شيئا، ولا يكون قلبه مهبطا ومنزلا لتلك الكليات المفهومية الإدراكية، بل امتلأ قلبه بالكفر والإلحاد والزندقة والشرور. فعلى ما تحصل تبين: أن من جنود العقل هو التصديق والاعتقاد، قبال الإنكار وعدم انشراح صدره للتوحيد والإسلام والولاية، ومن جنوده الإيمان بظهور انشراح الصدر للإسلام فيه، وإذا كان الأمر قلبيا يكون المؤمن فاعل الخيرات طبعا، ويفر من الشرور قهرا، وعليه يحمل تفسير الإيمان بالعمل بالأركان، فإن هذا العمل لازم ذلك الإيمان بالضرورة والوجدان، وإلى هذا يشير قوله تعالى في سورة الأنفال: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم) (3)، فإنه يستشم منه: أن الإيمان من الأعمال القلبية، ومن آثاره الازدياد إيمانا باستماع الآيات، ومن آثاره إقامة الصلاة والإنفاق، كما في هذه الآية الثالثة من البقرة. ويستشم منه أيضا: أن الأعمال البدنية من الإيمان إلا أن النظر إلى أنها من آثاره، ولا يكون من مقومات الماهية كما توهموه (4). ويستشم: أن للإيمان مراتب بين ما هو الحق في نظر القرآن وما هو الباطل والمجاز، ويكون ذلك هو الإيمان البدوي المستودع، الذي لم يرتكز بعد في القلب، وهذا الإيمان هو التصديق المقابل للجحود. وأما الإيمان المقابل للكفر فهو الإيمان القلبي الراسخ في النفس، بحيث لا يتبدل بالأيادي الشيطانية، ولا يزول ولا يتغير بالأرياح الخريفية.
تنبيه
حول عد الصلاة من جنود العقل قد عدت الصلاة من جنود العقل في الرواية المعروفة، والإضاعة من جنود الوهم والجهل. وربما يشكل الأمر: لأجل أن الصلاة من الأفعال، والحديث في موقف تعديد الصفات والخصوصيات الذاتية والنعوت الجمالية والجلالية، ولو كانت هي من جنوده لكان كل فعل من الخيرات من جنوده. اللهم إلا أن يقال: إن الصلاة والصوم من رؤوس الأفعال الخيرة، وإنها إن قبلت قبل ما سواها، ولا منع من اعتبار كون فعل من الأفعال جندا من العقل، ضرورة أن أحسن شئ يتقوى به العقل هي الصلاة، بل لابد من اعتبار الأفعال من جنود العقل، لأن ازدياد العقل لا يعقل إلا بتراكم آثار الفعل في القلب، فإنه به يتقوى العقل جدا، ويدرك كل الخيرات طبعا. وغير خفي: أن في عد الصلاة من جنود العقل - بعد عد الإيمان من جنوده - شهادة على أن العمل بالأركان ليس داخلا في ماهية الإيمان ولا من مراتبه، بل الصلاة من الآثار الحاصلة به، وتختلف قوة وكشفا باختلاف مراتب الإيمان. فإذا تبين لك يا أخي ويا صديقي هذه الأمور العلمية، وتلك المفاهيم الفنية والبرهانية، فاعلم أن من أصدق شعر قاله المولوي المعنوي ما قاله: پاى استدلاليان چوبين بود پاى چوبين سخت بي تمكين بود (5) فإن الإنسان يرى بعين البرهان الحقائق الحكمية، ولا يذوق بعين الحقيقة منها شيئا، ولا يمس قلبه منها أثر، وهذا هو العلم المذموم، وهو العلم الذي يظهر على عالمه بصورة خبيثة، فإن الشيطان من العلماء جدا، بل هو أعلم العلماء، ولأجل عدم رسوخ العلم في قلبه بلغ إلى ما بلغ، فعليك بالجد والاجتهاد في تحصيل السداد بتوجيه المعارف إلى قلبك، وتركيز الحقائق في صدرك، حتى لا تكون ممن نسي الله فأنساهم أنفسهم، ولا تكون من المخذولين الضالين. إلهي وسيدي أرجوك ولا أرجو غيرك، وأطلب منك ولا أطلب من سواك، فامنن علي بأن تهديني إلى صراطك العزيز المستقيم.
1- الإسراء (17): 72.
2- راجع الكافي 1: 16 / 14.
3- الأنفال (8): 2 - 4.
4- راجع مجمع البيان 1: 38 - 39، والتفسير الكبير 2: 24 - 25، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل 1: 16.
5- مثنوى معنوي، دفتر أول، بيت 2128.