الحكمة والفلسفة
وهنا بحوث:
البحث الأول: حول دلالة الآية على وجود الأمور غير المحسوسة اعلم أن بعضا من المفسرين استدل بالكريمة الشريفة على وجود الأمور غير المحسوسة، حذاء الذين ينكرون ذلك من الغربيين والماديين، وذلك لأن قوله تعالى: (يؤمنون بالغيب) شاهد على وجود الغيب والغائب عن الحواس الظاهرة (1). ولك أن تقول: إن الآية تشهد على خلاف ما ذهب إليه بعض المحدثين من الإسلاميين والطائفة الحقة، وهو أن التجرد من النعوت الخاصة بالله العلي العظيم، ولا مجرد وراءه تعالى، فإذا تكون الآية دالة على عدم الاختصاص. والإنصاف: أن الكريمة الشريفة لا تدل على مقالة الإلهيين، وعلى وجود المدركات غير المحسوسة، إلا على بعض التفاسير المذكورة ذيل الآية الشريفة، وذلك لأن قوله تعالى: (يؤمنون بالغيب) ربما كان ناظرا إلى ما جاء به الإسلام ورسوله، أو يكون ناظرا إلى أن الذين يأتون بعد ذلك يؤمنون بالغيب، وهو وجود الرسول الأعظم وما شابه ذلك، فلا تدل على وجود الأمور غير المحسوسة، الغائبة عن الأبصار والأسماع المادية، واعتقادنا بأعمية الغيب لا يكفي لإبطال مرامهم. وتوهم: أن الإيمان لا يكون إلا الاعتقاد، وهو لا يتحقق إلا بالتجرد (2)، فهو كلام متين، ولكنه خارج عن حدود الآية دلالة، وإني قد كررت في الكتاب أن المفسرين خلطوا وأدخلوا المسائل الكثيرة في كتبهم التفسيرية، لمناسبات بعيدة وخارجة عن نطاق الآية ودلالتها، ضرورة إمكان تفسير بعض العقائد العربية والعجمية على وجه يذكر ذيلها جميع الحقائق والمعارف والأحكام وغيرها وسيظهر في محاله ما تدل من الآيات الشريفة على وجود العوالم المجردة التي هي أوسع من العوالم المادية بما لا يقاس ولا يحاسب إن شاء الله تعالى.
البحث الثاني: حول الإيمان الثابت وعمومية الحركة هذه الكريمة الشريفة في موقف مدح المتقين، ولا يكون الإيمان بالغيب مدحا إلا إذا كان باقيا ثابتا، والإيمان الحادث آنا ما، والزائل بعد ذلك لا يعد من النعوت الحسنة، بل هو مذموم، ويكون من الإيمان المستودع أو أسوأ حالا منه، فتكون الآية مشعرة بأن الإيمان والاعتقاد الجازم والتصديق بالغيب والعلم به وعقد القلب عليه، من الأمور القابلة للبقاء وتصلح لأن تبقى، مع أن قضية عموم التبدل والتغير والحركة يضاد ذلك ويمانعه.
والدليل على عموم الحركة والتبدلات موكول إلى محله (3). وإجماله: أن الأشياء المادية والصور المنطبعة في المواد دائمة التدرج إلى الكمال ودائمة الخروج من النقص والقوة إلى الفعلية، والعلم إن كان ماديا - كما عليه الماديون - فهو من جملة العالم الخارج على الدوام من الهيولي إلى الصورة، وإن كان من المجرد فهو ليس من المجردات المفارقة المحضة، بل هو من المتعلقات بالمادة والصورة المنطبعة، فتسري إليها الحركة، ويكون مقتضى برهان الحركة الجوهرية، خروج كل شئ من هذه الأمور - إما بالذات أو بالتبع - من القوة إلى الفعلية، ومن الأشياء المتدرجة إلى الكمال هي النفوس المتعلقة بالأبدان، فإنها دائمة الحركة، وحركاتها طبعية ذاتية، ويتبعها في الحركة سائر أوصافها وكمالاتها من الصور العلمية وغيرها.
فالإيمان بالغيب - وهو العلم به علما راسخا في القلب - دائم التحرك والتبدل، فكيف هو يبقى حتى يصح المدح عليه ؟! أقول: البحث بالتفصيل حول هذه المسائل يأتي في المواضع الاخر - إن شاء الله تعالى - والذي هو اللازم الإشارة إليه هو أن النفس وأوصافها من المجردات، وأن الحركة الذاتية الطبعية الاستكمالية، توجب اشتداد الإيمان والعلم من غير انثلام وحدة النفس وتوابعها، فكما أنها بذاتها متحركة وباقية، كذلك توابعها، فالمدح عليه صحيح. نعم يثبت بذلك درجات الإيمان ومراتبه، وأن الإيمان ذو حصص كثيرة غير متناهية بالقوة تبعا لحصص الحركة، وسيظهر في محله توضيح مراتبه الأصلية إن شاء الله تعالى.
البحث الثالث: دلالة الآية على الرزق القابل للتغيير يستفاد من قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) أن الرزق على نحوين ونوعين: رزق مقسوم بالقسمة القطعية، وهو الذي يصل إلى العبد مثلا، ويعيش به وينتفع منه، وهذا هو الرزق الذي لا يعقل إنفاقه، وهو في الكتاب الأول وفي أم الكتاب، ورزق مقسوم قابل لأن يتبدل ويتغير، فهو واصل إلى العبد، ويكون تحت اختياره تشريعا وتكوينا، ولكنه يصلح لأن يطرأ عليه الاستبدال، ويكون لغيره، وهو المقسوم في الكتاب الثاني، وهو كتاب المحو والإثبات، وهذا هو الذي يمكن إنفاقه، ويصلح المدح عليه والأمر به، فمن قوله تعالى: (رزقناهم) يعلم أن الرزق مخصوص بهم، ومن قوله تعالى: (ينفقون) يعلم أن الاختصاص لا يكون على وجه لا يمكن تغييره وتبديله، فالآية الشريفة تشهد على ما تقرر في محال اخر من أن الخصوصية الثابتة من الغيب ومن ناحية المبدأ الأعلى، ليست غير قابلة للتبديل والتغيير، وتدل على أن هناك خصوصيتين: إحداهما ما تكون كذلك، والثانية ما لا سبيل إلى التصرف فيها. ومن هنا يعلم أن الرزق هو الأمر المقسوم والمخصوص بالشئ، سواء كان من الحيوان أو الإنسان، أو غيرهما من السماويات والأرضيات والخلقيات والأمريات، كما أنه بناء على ما ذكرناه لا يختص المتقون بالطائفة من الإنسان أو الجن بل الآية - حسب الصناعة - تشمل جميع الموجودات الأمرية أيضا، وإيمانهم بالغيب أيضا صحيح ونسبي، لأن هناك غيب آخر، وهو غيب الغيوب، وإقامتهم الصلاة أيضا صحيحة، فإن الله وملائكته يصلون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنفاقهم مما رزقهم الله تعالى أيضا صحيح، ولكنه بوجه آخر، لأن رزقهم شئ آخر، وقد مضى عمومية الرزق وعمومية الإنفاق وعمومية كيفية الإنفاق... وهكذا.
البحث الرابع: حول الآية والقول بالأمر بين الأمرين من المقرر في محله والمحرر في مقامه: أن الحق في المقام هو الأمر بين الأمرين (4)، فلا تكون الأفعال مستندة إلى الله تعالى بلا واسطة، ولا إلى العبد بتفويض الأمر إليه، خلافا للأشعري والمعتزلي (5)، وتفصيل المسألة يأتي في بعض المواقف الأخر إن شاء الله تعالى. وإجماله: أن الأشعري يدعي أن كل شئ أو كل فعل مستند إليه تعالى، فلا اختيار للعبد ولسائر العلل المتوسطة، ولا علية لغيره تعالى، والمعتزلي يدعي عكسه، ويقول: إن الله خلق الخلق وفوض أمرهم إليهم، من غير دخالة له في أمورهم نفيا أو إثباتا. والإمامي على حسب الآيات والأخبار (6)، وعلى مقتضى البراهين العقلية والدلائل اليقينية، يقول بالأمر بين الأمرين، فلا يكون العبد فاعلا مستقلا ولا غير مداخل في فعله، بل هو فاعل غير مستقل، والحق تعالى أيضا لا يكون مصدرا قريبا وتهيئيا ولا منعزلا، بل إرادته وقدرته نافذة في كل شئ، وإلى هذه المائدة الملكوتية والحقيقة الإيمانية يشير قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) فإنه تعالى نسب إلى نفسه ما يكتسبونه بأياديهم، ونسب إليهم الإنفاق، وحيث لا تفصيل بين الأفعال، ولا يقول أحد: بأن بعضا من الأفعال مستند إليه تعالى محضا، وبعض منها إلى العبد محضا، فلابد من أن يتعين الأمر بين الأمرين حتى يصح الاستناد إلى الله تعالى حقيقة وإلى العباد واقعا، فما جمعوه من الأموال قد رزقهم الله تعالى، وما أنفقوه منها فهو بإرادته وقدرته الأزلية الأبدية البتة.
1- تفسير الميزان 1: 45 - 52.
2- راجع تفسير الميزان 1: 45 - 52.
3- راجع الأسفار 3: 61 - 67 و 104 - 114.
4- راجع الأسفار 6: 369 - 395.
5- راجع شرح المقاصد 4: 219 - 264، وشرح المواقف 8: 145 - 159.
6- راجع في بيان الآيات إلى كشف المراد: 311، وفي بيان الأخبار إلى الكافي 1: 119 - 122 والتوحيد: 359 - 364.